هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر- شهادة سامي شرف" (سبعة أجزاء)
المؤلف: سامي شرف
الناشر: المكتب المصري الحديث، 2018
يواصل الكاتب المصري محمد بدر الدين عرض شهادة سامي شرف عن حال مصر في عهد الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر.. ويسلط الضوء في هذا الجزء الثاني والأخير على أسرار انتقال السلطة من عبدالناصر إلى السادات وتداعياته..
(9)
قدم سامي شرف في مذكراته (أو موسوعته)، في نهاية الفصل قبل الأخير "الثلاثين" وعنوانه "مراجعة الأحداث ـ محاولة للتقييم"، ما وصفه بـ"ممارسة النقد الذاتي إزاء القضية برمتها".
وبدأ بالقول إنه ومجموعة من عرفوا "برجال 15 مايو 1971"، الذين اعتقلهم السادات في ذلك التاريخ بتهمة التآمر وتدبير إنقلاب على حكمه: "لم نكن بمتآمرين منذ البداية"، مضيفاً القول: "كان همنا وتفكيرنا منصبين على هدف واحد فقط هو التركيز بكل الطاقات على معركة تحرير الأرض المحتلة"، وأنه: "كنا حتى ذلك التاريخ ـ 13 مايو 1971 ـ لا نشك في نوايا السادات بالنسبة لمعركة التحرير فلتكن له قيادة البلد، باعتباره رئيس السلطة الشرعي، ونتنحى نحن كمعاونين، مادام الخلاف محصوراً في نطاق اختلاف الرؤى بالنسبة لأسلوب وتوقيت التنفيذ ولا يتعداه إلى الهدف الرئيسي".
ويصل شرف إلى "ذروة" هذه الممارسة "للنقد الذاتي" بقول واضح، صريح، ونصه: "تعاملنا مع الأحداث من منطلق أخلاقي، وليس من منطلق سياسي، ولو كنا تعاملنا مع السيد أنور السادات في هذا الأمر بأسلوب سياسي لكانت تغيرت الصورة، ولقام واحد منا، أو بعض منا بالانقلاب عليه ـ وهذا الأمر كان من أسهل ما يمكن وكان لن يكلف أكثر من بيان في الإذاعة والتليفزيون وتنتهي المشكلة.. وكنقد ذاتي فإني اعترف باني أخطأت التقدير والتصرف سياسياً.. وأقر بأني أتحمل جزءاً كبيراً من مسئولية عدم التحرك في تلك الفترة.. ويشاركني في المسئولية كل من الفريق أول محمد فوزي والسيد شعراوي جمعة..".
(10)
لكن لماذا اختارت هذه المجموعة ـ من رجال الدولة وأقطابها ـ السادات "رئيساً" منذ البداية، ورفضت أي اقتراح أو ترشيح عداه، عقب رحيل القائد والرئيس، وبإصرار غير عادي؟ من حقنا أن نتعجب له، أو على الأقل لمداه ـ وتشددهم فيه ـ ونحن نتابع الأحداث وفق فصول الكتاب نفسه؟.
توجد نظريتان ـ أو نظرتان ـ إحداهما تذهب إلى أنهم: أرادوا استمرار توجيه أمور الدولة "من خلال رئيس ضعيف".. وهذا النظر أو التفسير نفوه هم باستمرار. أما النظرة الخرى فتلك التي يؤكدون عليها دوماً، سواء في كتاب "شهادة سامي شرف" أو غيره، وتذهب إلى أنهم ـ ورغم أية ملاحظات سلبية سابقة على "السادات" ـ قد حرصوا على انتقال للسلطة سلس آمن "وفق نظام ومؤسسات ودستور الدولة"، فضلاً عن أن البلاد في ظرف استعداد لمعركة تحرير، وأن السادات نائب الرئيس، حتى وإن كان الأمر محض مصادفة في ذلك التوقيت، وحتى لو أنهم يعلمون علم اليقين أن جمال عبدالناصر قد وضعه في هذا الموقع كأمر مؤقت، ويعلمون ـ كما يرد في كتاب شرف نفسه ـ أن السادات لم يكن مؤهلاً في نظر عبدالناصر ولا الذين من حوله، لقيادة ومسئولية منصب تنفيذي حتى "بحجم وزير"، فمن باب أولى: ليس من المعقول ما هو أكبر أي رئيس دولة أو رئيس وزراء!.. (ونحن نلاحظ بالفعل أن الأسماء التي تصدرت ثورة 1952 "ومجلس قيادتها" شغلت مناصب تنفيذية ماعدا السادات!.. (وزراء: مثل ثروت عكاشة ـ عبداللطيف البغدادي ـ حسين الشافعي ـ كمال الدين حسين ـ صلاح سالم.. كما شغل موقع رئيس الوزراء: زكريا محي الدين ـ علي صبري ـ صدقي سليمان..).
(ملاحظة: نلاحظ في أحد مشاهد فيلم "أيام السادات" المأخوذ عن كتابي السيرة الذاتية له ولجيهان السادات، مدى المرارة التي شعرا بها لأن وزارة جديدة تعلن "وأيضاً ليس فيها أنور!").
(11)
مفاجآت مذكرات سامي شرف:
نعم: نحسب أن من "مفاجآت كتاب سامي شرف" ليس اختيار هذه المجموعة للسادات، وإنما درجة الإصرار على الاختيار!.
المفاجأة التالية: التي تأتي جنباً إلى جنب مع الأولى ـ تستكملها وتؤكدها ـ أنهم إيغالاً في هذا الإصرار، رفضوا أي ترشيح غير السادات أو أي محاولة لطرح اسم آخر بديل (ولو على سبيل التفكير في الترشيح او الطرح!).
أكثر من ذلك، فإنهم كانوا "يسارعون" (نعم بالضبط.. يسارعون!) ومنذ اللحظات الأولى إلى "إبلاغ" السادات بأن هذا أو ذاك "يفكر في ترشيح غيرك" ناقلين إليه الأمر بكل التفاصيل.
ومع أن رد فعل السادات، كان في كثير من الأحيان، لا يليق على الإطلاق: بأي (مرشح موقع مهم رفيع!)... إلا أنه ـ للأسف ـ فيما بدا لم تستوقفهم على النحو المنطقي أو الضروري: حتى ردود فعل السادات الفظة وأحياناً الوقحة "غير المعقولة". بينما يفترض أن مثل ذلك يكشفه أكثر لديهم، ويفضح بما لا مزيد عليه "نوعية ـ نفسية ـ خلق" هذا الذي يرشحون، وعليه يصرون.
"تعاملنا مع الأحداث من منطلق أخلاقي، وليس من منطلق سياسي، ولو كنا تعاملنا مع السيد أنور السادات في هذا الأمر بأسلوب سياسي لكانت تغيرت الصورة، ولقام واحد منا، أو بعض منا بالانقلاب عليه ـ وهذا الأمر كان من أسهل ما يمكن وكان لن يكلف أكثر من بيان في الإذاعة والتليفزيون وتنتهي المشكلة..
على سبيل المثال ـ ونحن نذكر ذلك من الفصل ذي الأهمية الخاصة بطبيعته وبتفاصيله ـ بعنوان: "الرحيل وترتيبات الخلافة":
1 ـ مثلاً: كان الاعتراض الأول والواضح من أول لحظة على اختيار أنور السادات هو اعتراض حسين الشافعي، وبنص الكتاب هو: "اعتراض بكلمات مضمونها وصل إلى جميع الحاضرين".
2 ـ مثلاً: في اليوم التالي لرحيل عبدالناصر 29 أيلول (سبتمبر) يروي شرف ما يلي: زارني "صلاح الشافعي" (شقيق حسين الشافعي وزميل دراسة قديم من المنصورة الثانوية لكلينا ـ والسفير بوزارة الخارجية فيما بعد).. راوياً أن حواراً دار بينهما، إذ تحدث الزائر عن ترشيح حسين الشافعي للرئاسة بدلاً من السادات.. ويروي شرف في الحوار الذي دار بينهما ما نصه:
"قال: مش هو أحسن من أنور السادات؟!
فقلت: يا صلاح.. أمور البلد لا تدار بهذا الأسلوب.. هو كل من يزكي واحد يصبح رئيساً للجمهورية؟، هذا أسلوب قبلي تلجأ إليه معظم القبائل البدائية، ولكن أنت تعرف أن البلد فيها مؤسسات وأوضاع دستورية قائمة، وهذه الأوضاع لابد أن تستمر ويجب المحافظة عليها واحترامها.. شوف يا صلاح.. الوضع الدستوري الشرعي سوف يستمر وأي شئ خلاف هذا سوف نحاربه..، هل هذا مفهوم يا صلاح؟
ورد صلاح الشافعي: "أيوة مفهوم".. وانتهت المقابلة عند هذا الحد".
وهنا يضيف سامي شرف: "وفي الصباح الباكر حضر إلى مكتبي، أمين هويدي وشعراوي جمعة ورويت لهما ما أثاره صلاح الشافعي، واتفقنا على أن نذهب لأنور السادات لإبلاغه بما حدث، والتقينا به في قصر القبة ورويت له ما دار بيني وبين صلاح الشافعي فكان أن عقب بألفاظ خارجة يستحيل إعادتها هنا..!! ثم أضاف السادات: "سيبوا لي الموضوع ده وأنا حاتصرف..".
لن أعقب على هذا النص هنا، لكن أكتفي بالإشارة (أو وضع الخط تحت): أولاً: أن ذلك الحوار دار يوم 29 سبتمبر (اليوم التالي للرحيل)، ثانياً: أن شرف قال في رده على صلاح الشافعي: "هو كل من يزكي واحد.." (كما لو أن حسين الشافعي هو مجرد "أي واحد"!!.. مع أنه كنائب لرئيس الجمهورية أسبق من السادات. ثالثاً: لاحظ التعبير الحاد لشرف: "أي شئ خلاف هذا.. سوف نحاربه". رابعاً: لاحظ تعبير: "نذهب لأنور السادات.. لإبلاغه". خامساً: ما أبشع هذا الحال.. الذي يعبر عنه شرف بوصفه الدقيق لرد فعل السادات.. ومتى؟. في اليوم التالي (أي 30 سبتمبر ـ وقبل حتى الجنازة في أول أكتوبر): "عقب بألفاظ خارجة يستحيل إعادتها هنا..".
3 ـ مثلاً: يواصل شرف: أنه "في يوم 29 سبتمبر حوالي الثامنة مساء، وصلته رسالة من ضباط بالجيش (أنه إذا تم اختيار أنور السادات رئيساً للجمهورية فإنهم سيقومون بانقلاب).. وهنا يقول شرف: "كان ردي على هذه الرسالة أن الشرعية هي التي ستسود".
4 ـ مثلاً: يقول شرف أيضاً: أنه يوم 30 سبتمبر حضر إلى مكتبي بمنشية البكري وزير خارجية السودان فاروق أبو عيسى الذي بدأ حديثه قائلاً: "جاءني اليوم أمين شاكر ـ وزير السياحة المصري السابق ـ وقال أنه يريد من الوفود العربية ممارسة ضغوطها لتنصيب زكريا محي الدين رئيساً للجمهورية".
ويستكمل شرف هنا قائلاً، ما نصه: "وفي ضوء هذا اللقاء توجهنا إلى السادات وأبلغناه بمضمون الحديث الذي أدلى به فاروق أبو عيسى فكان رده: "اعتقلوا أمين شاكر".. وكان ردنا عليه: لا يمكنه أن يفعل شيئاً ولا داعي لاعتقاله.. فأمن على رأينا".
5 ـ مثلاً: زكريا محي الدين.. مرة أخرى: وهذه المرة، الحديث تحديداً عن: محمد حسنين هيكل.
وما يعنيه: أن هيكل، كان ترشيحه الأول والأساسي، لمن يخلف عبدالناصر في الرئاسة، هو: زكريا محي الدين.
وقد بدا من كلام شرف، أن ذلك كان مثار قلق، وتوجس وارتياب، واتهام!.. موجه من ناجية شرف وهذه المجموعة، أو بالأدق بعضها، تجاه هيكل. أي لهذا السبب. لهذا الترشيح، لهذا التفضيل والاختيار.
وننقل هنا من الفصل نفسه من مذكرات شرف (فصل: الرحيل وترتيبات الخلافة) النص التالي:
"لاحظ المسؤولون على اختلاف مواقعهم، كما لاحظ الرأي العام المصري أيضاً، أن كاميرات التليفزيون المصري كانت تركز بشكل ظاهر خلال مسيرة الجنازة على زكريا محي الدين أثناء مشاركته في تشييع الجنازة، كما أفردت صحيفة "الأهرام" الصادرة في اليوم التالي خبراً بارزاً ومستقلاً للنعي الذي رثى به زكريا محي الدين الرئيس جمال عبدالناصر خلافاً لما حظي به باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين، وبالطبع فقد أعاد ذلك إلى الذاكرة أن زكريا محي الدين هو الشخص الذي اختاره الرئيس جمال عبدالناصر عندما قرر التنحي عن السلطة يوم 9 يونيو 1967، مما أعطى الواقعتين دلالات خاصة. وكان محمد حسنين هيكل وزيراً للإعلام والمسئول عن التليفزيون، كما كان رئيساً لتحرير جريدة "الأهرام"
.
هذا نص ما ذكره شرف، وكأنه مما يؤاخذ عليه هيكل!!. بينما هو في نظرنا في الحقيقة: لمما يدعو إلى مزيد من التقدير لهيكل، وأنه كان (على عكس موقف هذه المجموعة، إزاء ذلك الأمر) يرى الأصوب وينصف الحق والمعقول والمنطقي!.
ومن المعروف الثابت أن "بعض" شخصيات هذه المجموعة، كانت عبر سنوات تناصب هيكل العداء دون سبب، إلا ضيقها من صداقته الفكرية والإنسانية الحميمة مع جمال عبدالناصر، والممتدة على مدى سنوات عصر عبدالناصر كله. ولذلك فحين فرضت تلك المجموعة "السادات" لتصورات لديها ـ أياً كانت ـ ثم اختلفت إلى حد التصادم الكامل، مع السادات في "15 مايو 1971"، اضطر هيكل إلى أن يقف في صف السادات. وهو موقف في رأينا خاطئ، لكن سببه واضح، "هو رد فعل"، أو ما قد وجده هيكل الموقف المناسب: تجاه موقف خاطئ قديم سابق، وما نعنيه هو بغض شديد لدى أولئك البعض تجاه هيكل ـ وبطبيعة الحال فإن شرف في مذكراته ينتقد موقف هيكل في حدث 15 مايو 1971 انتقاداً لاذعاً..
وبالمناسبة: نتذكر أن هيكل في حلقاته على قناة الجزيرة بعنوان "تجربة حياة"، في حلقة خصصها (لموضوع:الرجل الثاني) ذكر أنه كان يرى باستمرار خلال سنوات 23 يوليو أن (الرجل الثاني) الأنسب ليس عبدالحكيم عامر وإنما زكريا محي الدين. وقد تحدث فيها في الحلقة موضحاً مسهباً.
كما توجد مصادر عدة أخرى، تؤكد الموقف المبكر لهيكل (باختيار محي الدين بعد رحيل عبدالناصر)، من ذلك ما كتبه صديقه الحميم الكاتب الصحفي الكبير عبدالله السناوي، في كتابه المتميز: "أخيل جريحاً.. إرث جمال عبدالناصر" (الصادر عن دار الشروق ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى 2019).
يقول السناوي في الفصل الحادي عشر من الكتاب (صفحة 277)، عن ترشيحات الأسماء في أعقاب الغياب المفاجئ للرئيس عبدالناصر: "استبعد "زكريا محي الدين" بأسرع وقت ممكن. كان تصدر اسمه لخبر نشرته صحيفة "الأهرام" من إجراءات الجنازة... حمل خبر "الأهرام" الذي كتبه الأستاذ هيكل، نوعاً من التزكية المبكرة. كان "زكريا محي الدين" خياره الأول لخلافة "عبدالناصر"، بعد أن استبعد "محي الدين" بقى الرجلان الآخران (أنور السادات ـ علي صبري)..".
ويشير الكتاب ذاته في الصفحة التالية إلى أن هذه المجموعة في قمة دولة عبدالناصر، مثلما استبعدت اختيار "زكريا محي الدين" استبعدت أيضاً أن تختار "علي صبري"، فنقرأ هنا ما نصه:
"جرى وصفهم بـ "مجموعة علي صبري"، نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، لكنهم لم يبدوا حماساً للصعود بـ "الرجل القوي" (يقصد علي صبري) إلى موقع رئيس الجمهورية بعد رحيل "عبدالناصر"، وفضلوا بصورة أو أخرى "الرجل الضعيف ـ أنور السادات" بظن أنه يمكن التحكم فيه. هذه قصة معتادة في التاريخ المصري وأثمانها معروفة.." (صفحة 278).
هكذا، للأسف استبعدوا الأكفاء حقاً، والوطنيين صدقاً!. لأنهم "أقوياء!" (زكريا محي الدين ـ حسين الشافعي ـ علي صبري).
وحتى "بمعيار اختيار جمال عبدالناصر"، فإن عبدالناصر لم يرشح اسماً او يختار أحداً من بعده، سوى: زكريا محي الدين.. عند استقالته أو إعلانه التنحي عقب الهزيمة العسكرية في 5 يونيو 1967. كما أن سامي شرف نفسه يقول عنه في مذكراته (نفس الفصل: الرحيل وترتيبات الخلافة):
"لم يكن موقفنا هذا يحمل أي معنى خاص تجاه زكريا محي الدين الذي نقدره كرجل وطني، متميز بالنزاهة والشرف، ولا يستطيع أحد أن ينكر دوره في تنفيذ الثورة، وترسيخ قواعدها بعد ذلك وعلى مدى السنوات التي أعقبت 23 يوليو 1952، وإنما كان كل همنا هو إقرار مبدأ الشرعية الدستورية..".
واللافت أيضاً، أنه في فصل آخر (بعنوان: "حكاية العمالة للسوفييت") تجئ فقرة لها علاقة بهذا الموضوع، ضمن مقال نشر في مجلة عربية، يهتم به سامي شرف لدرجة أنه قدمه بنصه الكامل (المقال نشر في مجلة "اليمامة" بتاريخ 20 نوفمبر 1981).
أما الفقرة التي نعنيها فنصها ما يلي: "كان أشرف مروان قد اقترب من الرئيس السادات، أولاً عندما قام بسرقة بعض الأوراق والوثائق الهامة التي كان عبدالناصر قد دون فيها تاريخاً سياسياً هاماً، والتي كان قد أوصى فيها أيضاً بأن يتولى زكريا محي الدين الحكم في مصر في حالة اغتيال عبدالناصر أو موته فجأة".
انتهت الفقرة، وعلى الرغم من اهتمام شرف بالمقال الذي تضمنها، ومن أهمية الفقرة، إلا أننا نلاحظ أنه قدمها بنصها دون أن يعلق عليها.
(12)
نعود لفصل أخاذ متميز هو "أحاديث المعمورة"، يلفت نظرنا فيه الكثير، وهو عن لقاءات (أو أحاديث في المعمورة ـ بالإسكندرية) بين الرئيس جمال عبدالناصر (قبيل رحيله بأسابيع، تحديداً في شهر أغسطس 1970) وسامي الدروبي المثقف العروبي الكبير سفير سوريا في القاهرة، رأى الرئيس أن يتناقش معه في قضايا بالغة الأهمية فكرية، سياسية، ويذكر شرف أن الرئيس عبدالناصر كان يقول عنه: "سامي الدروبي إنسان مثقف واع، أصيل شريف، لا يسعى إلى جاه أو سلطان أو منصب بل كان يسهم ـ حتى وهو مريض ـ بكل قواه الفكرية والجسمانية بما يخدم القضية، وباعتباره "جندي قوي عربي" قبل أن يكون سفيراً..".
ويذكر شرف ـ قرب نهاية الفصل ـ أن بين أحاديث عبدالناصر معه ما يلي: "حديث الرئيس عبدالناصر حول موقف الأفراد والانتماءات الفكرية لكل منهم.. وبدأ في تحليل شخصية أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأهم عناصر الصف الثاني.. كان يسرد ويتكلم عنهم فرداً فرداً دون أن ينسى أياً منهم، وكان في حديثه يرتبهم وفق كل مجموعة مع بعضها مرتبة بالأقدمية، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح أمامه وكانت عناصر تقييمه تتم على الوجه التالي: فلان، اسمه بالكامل، تاريخ ميلاده ونشأته، أسرته وتركيبتها الاجتماعية، تفكيره، وبمن أو بماذا يتأثر، انتماؤه الفكري، انتماؤه الطبقي، آماله وطموحاته، قدراته الحقيقية ومداها، مواقفه في الأزمات، دوره في القوات المسلحة، دوره في الثورة، التغييرات التي طرأت على شخصيته بعد نجاح الثورة، إمكانياته بعد إتمام دوره، الأمل في المستقبل وما يرجى أو لا يرجى منه، الاستنتاج..".
كانت هذه في رأينا: من مفاجآت مذكرات سامي شرف.
ثم يواصل المفاجأة بقول نصه: "ملحوظة: تقييم الرئيس جمال عبدالناصر لأعضاء مجلس قيادة الثورة ورجال الصف الثاني مدون عندي بالتفصيل، وهو محفوظ في مكان أمين للوقت المناسب الذي أرى أنه بعد وفاتي حيث سيتولى أبنائي وضعه تحت تصرف المسئولين في الدولة..".
أمد الله تعالى في عمر الجليل النبيل سامي شرف ومتعه بموفور الصحة. والحق أنه لمما يثير القلق أن هذا التقييم بالغ الأهمية بل والخطير للرئيس عبدالناصر.. يقول الأستاذ سامي شرف أن أبناءه سوف يتولون "وضعه تحت تصرف المسئولين في الدولة".
فما أدرانا نوع هؤلاء المسئولين، وما مصالحهم ونوازعهم، وهل سيكونون بالأمانة والنزاهة بحيث يعلنون هذه الوثيقة غير العادية.. أم قد يخفونها لسبب ما، فلا ترى النور إلى الأبد؟.
إن هذا أمر بالغ الخطورة ومدعاة للقلق الكبير، بقدر ما أن أمر ونشر الوثيقة مطلوب وضروري، خطير واستثنائي.
وبعد: من أروع فصول كتاب "شهادة سامي شرف" حقاً، فصل بعنوان: (صنع القرار في تجربة عبدالناصر)، ونتصور أنه صار لا يصح أن يدلي متحدث بجدية أو باحث بإجادة، دون الرجوع ـ بتأمل حقيقي واهتمام كبير ـ إلى هذا الفصل على الخصوص. إنه فصل يتعذر أن يختصر، بل يجب ألا يلخص ويجب أن يقرأ. إذ هو فصل يعبر عن أمر عظيم وعصر غير عادي، استثنائي، بكل ما تعني هذه الكلمة من معان.
والحق أنه وفصول أخرى مثل: "عبدالناصر والتنظيم السياسي" (عن قضية الثورة والديمقراطية) نصوص بالغة الأهمية، تستحق وقفات وتأملات ودراسة متأنية.
ونقترح على صاحب المذكرات المناضل النبيل سامي شرف اختيار فصول ذات أهمية خاصة، مثل هذين الفصلين، لتصدر في جزء واحد، يقرأه من قد يتردد أمام مذكرات "ضخمة" من خمسة أجزاء... ونرجح أنه في الأغلب سوف يبحث بعد قراءته لهذا "الوجيز" أو لنقل "الوسيط"، عن "كل" المذكرات "كموسوعة سياسية تاريخية" بكتبها الخمسة، فضلاً عن الكتابين المكملين المهمين للغاية (الحوار الشامل لعبدالله إمام مع صاحب المذكرات).