مدونات

الدكتاتورية في الميزان

كاتب آخر
كاتب آخر

تناول الفلاسفة والمفكرون عبر التاريخ بإسهاب واهتمام أنظمة الحكم، متدارسين سلبيات وإيجابيات كل منها، مستخلصين الأفضل، كل حسب رأيه وأدلته وظروف عصره وبيئته. منهم من دعم نظام حكم الفرد ومنهم من دعم النظام الديمقراطي وحكم المجموعة مع اختلاف أدلتهم وآرائهم وأهدافهم وفهمهم للدولة ودورها الحقيقي، والإنسان وغايته الأسمى ومحركه الأساس.

يتجدد هذا النقاش في كل عصر وخاصة في العقد الأخير مع صعود الصين بحكمها الدكتاتوري وكثرة الثورات والثورات المضادة في عالمنا العربي. وكان آخر ما أذكى هذا النقاش هو المديح الذي تلقته الصين ونظامها لسيطرتها الأسرع والأكثر فعالية نسبيا على انتشار فيروس كورونا، واستعمال هذه النقطة من مؤيدي هذا النوع من الأنظمة للمقارنة بين قدرة السيطرة على الوباء بين الصين وسائر البلدان الديمقراطية.


استعمل مثال الصين كثيرا للتأكيد على ميزات الحكم المطلق الفردي والشمولي، وأنه الأقدر على الإنتاج والنهوض بالدول، لمركزية قرارها وصرامة تطبيق القوانين وسرعة نفاذ التعاميم والسيطرة على أي مشكلة أو طارئ أو وباء كما في حالة وباء كورونا المستجد.

على المقلب الآخر وفي عالمنا العربي دافع أنصار الحكام العرب عن ولاة أمورهم بصفتهم أدرى بمصالح الشعوب، لخبرتهم وتاريخهم وكونهم الأقدر على الدفاع عن مصالح العرب في وجه الغرب والتغريب الذي يريد استعمال الديمقراطية لتحقيق مصالحه وإيصال أذرعه للحكم، كما يزعم أنصار الزعماء.

ولكن ما درجة صحة هذه الحجج؟

في الحالة الأولى، وعلى الرغم من كون الأسباب بظاهرها صحيحة وأن سن القوانين وسرعة تنفيذها وتطبيقها والالتزام بها أمر قد يكون أعلى نسبة في البلدان الاستبدادية وهو الشيء المهم لأي دولة، على المدافعين أن يسألوا عدة أسئلة لإظهار الحقيقة كاملة. فماذا عن القوانين نفسها؟ من يحدد إذا ما كانت هذه القوانين في خدمة الشعب حقا؟ ومن يحاسب الحاكم إذا أصر على قوانين جائرة وظالمة؟ ماذا عن اتخاذ قرارات جائرة بدون حسيب أو رقيب؟

إن عقليات هذه الأنظمة تعتبر أي تصويب للمسار خيانة تستوجب العقاب، ما يعني إضافة للظلم الذي يقع على كثيرين ممن يسعون لتطوير هذه المجتمعات، حصر أفكار التطوير والسعي لها بزمرة قليلة حول الحاكم وغالبا ما تكون محدودة التصورات والأفكار.

هذا الأمر تجلى بشكل واضح بردة الفعل الرسمية الصينية على تحذيرات الطبيب الصيني "لي وينليانغ" الذي بعث رسالة في كانون الأول/ ديسمبر إلى الأطباء ليحذرهم من فيروس اعتقد أنه "سارس".

كانت ردة الفعل أن وجهت الشرطة إليه تعليمات بـ"التوقف عن نشر تعليقات كاذبة"، إضافة للتحقيق معه بتهمة "بث شائعات".

كان هذا النظام الاستبدادي باحتكاره المعرفة كفيلا بالسماح للفيروس بالانتشار في البداية. وقس على ذلك في مختلف المجالات والأماكن والبلدان.

وعند الغوص في العمق سنجد سطحية حجج الدفاع المطروحة، فما نفع صرامة التقدم والتطور إذا كانت مصاحبة للخوف الدائم والقمع ومنع الحرية أو الاعتراض أو حتى النصيحة؟ ما الهدف إذا من التقدم والتطور؟ أليست سعادة الإنسان وراحته؟ وإذا سلمنا أن الجهد الصيني الاقتصادي والإنتاجي هو لمصلحة الصينيين ورفعة مكانتهم في العالم، ولكن ماذا ينتفعون من الرفعة مقارنة بالأقران إذا لم ينعكس ذلك براحة نفسية وقدرة تامة على الاستمتاع النفسي والجسدي بهذا التطور والتقدم؟

يمكن القول باختصار أن الأنظمة الاستبدادية بغلقها مسارات المعرفة وحصرها تقوّض التقدم ولا تدعمه، وإن حصل التقدم العلمي والصناعي والاقتصادي فإن الخوف وكتم الحريات كفيل بقطع الرابط بين التقدم المادي على أنواعه وهدفه الإنساني الحقيقي.

أما عن حجة العرب المؤيدين لجلاديهم فإضافة للردود المذكورة آنفا، فادعاء حماية البلاد من الأعداء ومقاومة التدخل الخارجي أصبحت مبتذلة لعلم الكبير والصغير كيفية وصول هؤلاء الزعماء للحكم ومن الذي يدعمهم ويثبتهم في مواقعهم بل من يحكم عنهم حتى والأمثلة في ذلك لا حصر لها.

إن كل الحجج التي ترافق الدفاع عن الاستبداد والحكم الفردي واهية إذا ما قارنا الإيجابيات بالسلبيات، أو وضعنا في الميزان الأهداف بعيدة المدى واضعين في المركز مصلحة الشعوب وتطورها، إضافة لسعادتها وراحتها النفسية والجسدية التي يجب أن تكون أحد أهم أهداف أي دولة.

 

* كاتب لبناني

التعليقات (0)