أفكَار

في أزمة العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين.. هل من تقارب؟

قراءة في أسباب وتداعيات الخلافات بين الإسلاميين والعلمانيين- (عربي21)
قراءة في أسباب وتداعيات الخلافات بين الإسلاميين والعلمانيين- (عربي21)

مدخل:

ثمة توافق بين الحركة الإسلامية والتيار العلماني حول ضرورة إحداث تحول سياسي في الدول العربية، وضرورة الانتقال بها نحو الديمقراطية، إلا أن واقع الممارسة السياسية للطرفين لا يظهر أي أثر أو تحقق لهذا التوافق، بل الذي يظهر ـ وبصورة قاتمة ـ في بعض البلدان العربية، هو الصراع العلماني الإسلامي الذي يحتدم أحيانا ويصل إلى أشكال من التنابذ والمصادرة والإقصاء، حتى إن أنماط العلاقات التي تحكم أطراف المعادلة السياسية تصير غير معبرة تماما عن التطلعات الاستراتيجية لكل طرف، فالطبيعي بحكم الشعارات والعناوين التي جعلتها هذه الأطراف مرتكزاتها في الممارسة السياسية أن يكون التيار العلماني أقرب إلى الحركة الإسلامية في مواجهة السلطوية والشمولية. 

لكن الواقع يؤكد التقارب الكبير بين أنظمة الحكم والتيار العلماني، فما الذي يفسر هذه الظاهرة السياسية في وطننا العربي؟ وما الذي يدفع كثيرا من مكونات التيار العلماني إلى تغيير عناوينها واستراتيجيتها التغييرية؟ وهل يعود الأمر لمآزق يواجهها التيار العلماني تحول دون إنتاج ممارسة سياسية تتجه لإحداث انتقال ديمقراطي مع مختلف الشركاء الإصلاحيين ومنهم الإسلاميون؟ أن البيئة السياسية بدينامياتها سابقة عن المشاريع الفكرية والتطلعات الحالمة؟ وهل ثمة أي أفق للتقارب بين التيارين؟  

التيار العلماني والأزمات الأربع:

يعيش التيار العلماني في الوطن العربي أربع أزمات، تخص الأولى موقفه الفكري من العلمانية، وترتبط الثانية بموقفه من الدين، فيما تخص الثالثة موقفه من الغرب، أما الرابعة، فتخص تصوره للعلاقات البينية، ودور ذلك في تحقيق الانتقال الديمقراطي.

1 ـ المشكلة الفكرية: تتمثل هذه المشكلة في ارتباك النخب العلمانية في تحديد مفهوم العلمانية، وطريقة تمثلها والسلوك السياسي المفضي إلى تحصيلها.

وبغض النظر عن التعدد الذي يخترق التيار العلماني، وجمعه بين مكونات شتى قومية وليبرالية ويسارية، فإن المستقرئ لأدبيات هذا الطيف العلماني المتعدد، يلحظ عشرات التمثلات لمسألة العلمانية، بدءا من القراءة المتطرفة التي تستصحب التجربة التاريخية الغربية، وتعتبر المضامين الدينية عائقا حقيقيا أمام الديمقراطية، وانتهاء بالعلمانية المعتدلة، التي تقبل بالإسلاميين الديمقراطيين بتعبير سعد الدين إبراهيم.
 
والحقيقة، أنه يمكن قراءة هذا التعدد باعتباره ثراء فكريا داخل الطيف الفكري العلماني، لكن، خارج الرؤية الفكرية، وقريبا من حقل السياسة، الذي يعنى بأثر خلافات العلمانيين الفكرية على السلوك العلماني السياسي، فإنه بالإمكان ملاحظة مسلكيات علمانية سياسية مختلفة تصل حد التناقض.

ففي الوقت الذي تجاوزت فيه بعض مكونات الطيف العلماني حساسيات الموقف من الحركة الإسلامية، وبدأت تتعامل مع مكوناتها كشريك في جبهة النضال الديمقراطي، نرى مكونات أخرى تشترط على الحركة الإسلامية أن تعدل من أطروحتها الفكرية، وتحذو حذو الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، ونجد مكونات أخرى لا زالت تحتفظ بأطروحتها الكلاسيكية، التي ترى ألا حوار مطلقا مع أعداء الديمقراطية، وفي لحظات حاسمة تجدها تفضل الاقتراب من النظم الحاكمة، قطعا للطريق على حركة، تزعم أنها ستكرس الاستبداد بارتكازها على التقليد الذي تعتبره عائقا ضد بناء الدول العصرية حسب التقليعات الفلسفية للنخب العلمانية التقليدية.

 

التوجه العلماني، تختلف مكوناته في النظر إلى الدين وفي التعامل مع النص الديني. والملاحظ أن الموقف الكلاسيكي المعادي للدين، لا يزال هو السائد والمهيمن، إذ لا زالت العديد من مكونات التوجه العلماني في الوطن العربي تنظر إلى الدين وإلى مضامينه باعتبارها عائقا نحو تحقيق الديمقراطية

 



فإذا انتقلنا إلى الخلاف الفكري الذي يميز مكونات الطيف العلماني، فسنجد كثيرا من هذه المكونات لم يوطن الفكر الديمقراطي داخل رؤيته الفكرية والسياسية. فلا زال الطرح الماركسي يعاني من مأزق توطين الديمقراطية والممارسة الديمقراطية في نسقه الفكري، إذ لم تحدث مراجعات جادة في التجديد الماركسي العربي بشكل يجعل الديمقراطية تتعايش مع مفردات البناء الماركسي، وعادة ما ينظر إلى الديمقراطية على أساس أنها مرحلة من مراحل التحرير، والانتقال نحو الاشتراكية، وهو ما يطرح سؤال المبدئية والوضوح في الخط الفكري والسياسي، ولا زال التيار القومي ذاته يعيش إشكالات تجديد مفردات خطابه بشكل يجعل الديمقراطية، تأخذ موقعها ضمن نسقه الفكري إن صح أن نتحدث عن نسق فكري قومي.
 
تحتاج هذه المشكلة الفكرية إلى معالجة جذرية تتناول الهوية الفكرية بالنقد والمساءلة، حتى لا يصير التعدد العلماني، ذريعة لإنتاج ممارسات سياسية متناقضة مع التطلعات الديمقراطية، وأحيانا كثيرة مبررة للاستبداد وصانعة له، وحتى لا تكون في سياقات سياسية معينة، أداة إنتاج فتنة داخلية.

2 ـ مشكلة الموقف من الدين: وهي مشكلة متفرعة عن سابقتها، لكن إفرادها بالتفصيل ضروري لمحوريتها في تحديد ورسم العلاقات البينية.

ذلك أن التوجه العلماني، تختلف مكوناته في النظر إلى الدين وفي التعامل مع النص الديني. والملاحظ أن الموقف الكلاسيكي المعادي للدين، لا يزال هو السائد والمهيمن، إذ لا زالت العديد من مكونات التوجه العلماني في الوطن العربي تنظر إلى الدين وإلى مضامينه باعتبارها عائقا نحو تحقيق الديمقراطية، بل إن بعضها قلب عناصر المعادلة السياسية، وصار ينظر إلى المعركة مع الدين ومع كل تمظهراته، باعتبارها معركة ذات أولوية، بل معركة حاسمة تسبق كل المعارك الأخرى الخاصة بالحرية والديمقراطية،  وهناك من فضل لأسباب سياسوية أن يمارس الصراع مع الدين من خلال صراعه مع الحركة الإسلامية حتى لا يظهر بمظهر المنابذ لقيم الشعوب الإسلامية الصادم لمشاعرها الدينية.
 
على أن هذا الموقف ليس هو الذي يميز مجمل الطيف العلماني، فهناك طيف داخل التوجه الماركسي أعاد النظر في منهجية تعاطيه مع الدين، وصار يستحضر نموذج أمريكا اللاتينية (لاهوت التحري) ويؤمن بدور للدين في التغيير الديمقراطي، ويقبل أن يتحاور مع الإسلاميين بناء على قاعدة هذا الطرح، وهناك من العلمانيين من يحاول أن يقرأ الكسب الفكري والسياسي للأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا، ويتعامل مع الدين ومع الحركة الإسلامية بناء على فهمه لخلاصات هذه التجربة، وهناك من ذهب به الانفتاح بعيدا، وبدأ يؤمن بحق الآخرين في أن يؤسسوا الديمقراطية من خلال مرجعيتهم الدينية، شريطة الإيمان بالديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وحق الأقليات. 

لكن مثل هذه التوجهات المتعايشة مع الدين ومع الحركات الإسلامية، لا زالت تعاني ضعفا على مستوى الحضور، ولم تستطع أن تنقل هذه القناعات إلى رؤية فكرية عامة يرتكز عليها التيار العلماني بجميع أطيافه ومكوناته، فالغالب في البلاد العربية، هو التيار العلماني الكلاسيكي السطحي، الذي أعانه بعض المثقفين على تجدير رؤيته المعادية للدين والحركات الإسلامية، لاسيما منهم الدكتور عبد الله العروي، الذي يرى أن معركة التقدم والحداثة تمر أولا وقبل كل شيء بالفطام عن ثقافة الأم، ونبذ الثقافة السلفية بجميع مكوناتها.

3 ـ المشكلة الثالثة: المأزق السياسي أو النضال على جبهتين: نستعير هذا الاصطلاح من الدكتور عمرو حمزاوي في دراسة له عن الأحزاب العلمانية في الوطن العربي، نشرتها مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، ونقصد بها أزمة نضال التيار العلماني على واجهتين، واجهة النضال أجل الديمقراطية ومقاومة نظم السلطوية والاستبداد وواجهة النضال ضد الحركات الإسلامية ذات الامتداد الجماهيري الواسع.

والحقيقة أن النضال على واجهتين لا يخلق أي مشكلة من وجهة نظر استراتيجية، أي في اللحظة التي لا يكون فيها الصراع مع الإسلاميين مؤديا بالضرورة إلى دعم وإسناد السلطوية، وإنما يطرح مشكلة من جهة التكتيك، أو من زاوية المرحلة وأولوياتها، وأي نضال ترجحه هذه النخب في اللحظة التي يحتدم فيها الصراع بين الحركات الإسلامية وبين السلطوية، وهل تختار إسناد السلطوية للتخلص من الإسلاميين، ثم بعدها ترتيب المعركة مع الاستبداد، أم تختار ترتيب جبهة نضال ديمقراطي مع الإسلاميين من أجل مقاومة السلطوية وتحقيق الانتقال إلى الديمقراطية؟

 

أكبر أزمة وقع فيها العقل العلماني العربي، أنه لم يبصر بشكل جيد دلالات التجربة الغربية، فبدل أن يؤسس هويته الفكرية والسياسية على نبذ الاستبداد، وعقلنة السلطة، وإعادة توزيعها، ووضع قوانين للتداول السلمي عليها، وبدل أن ينشغل بقضايا الديمقراطية في بعدها الإجرائي والسياسي، راح يشتغل بهدم الأسس الإيديولوجية لما يعتقد أنها تربة الاستبداد والتسلط،

 



إن الاستقراء لواقع التيارات العلمانية، أو على الأقل واقع أغلب أطيافها، يبين أن هذا الإشكال الفكري لم يجد تسويته في البناء النظري، وأن حقل السياسية غالبا ما كان يقود ممارستها إلى التقارب مع نظم الحكم عملا بقاعدة تحمل الضرر الأخف، ولا تكاد تجد غير هذا المسلك إلا في تجارب محدودة تعاني فيها الحركة العلمانية من ضعف شديد، أو تتعرض هي لقمع السلطوية، أو تجد نفسها مجبرة على الاصطفاف في جبهة المعارضين للنظم الذي لا تتورع عن استهداف كل الخصوم السياسيين مهما كانت انتماءاتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية كما هو الحال في النموذج السلطوي المصري. حاليا.

4 ـ المشكلة الرابعة: في الارتهان للغرب: وقد برزت هذه المشكلة في اللحظة التي روجت فيه الإدارة الأمريكية لمشروعها لنشر الديمقراطية في الوطن العربي، فحصل تباين في الموقف داخل التيار العلماني، بين رفض الانخراط بشكل مطلق في أي مشرع ترعاه أمريكا، وأن الديمقراطية هي خيار ذاتي مستقل، وأن أي قوة أجنبية، لا يمكن لها أن تساعد العالم العربي في تحقيق انتقاله إلى الديمقراطية، بل هي العائق الأساسي لأي تطلع ديمقراطي مشروع في المنطقة، وأن مشروع نشر الديمقراطية ما هو في الجوهر سوى ذريعة تتوسل بها الإدارة الأمريكية لبلوغ بعض الأهداف الاستراتيجية التي عجزت أن تبلغها دون إشراك قوى محلية. 

وفي المقابل، كان هناك رأي آخر، لا يمانع في استثمار الضغط الخارجي وتوجيهه لتحقيق مكاسب ديمقراطية في الداخل، لكن دون لعب دور المقاول للإدارة الأمريكية.

وإلى جانب هذين الرأيين المتقابلين داخل التوجه العلماني، كان هناك رأي ثالث، يثق في نوايا أمريكا، أو على الأقل، يريد أن يلعب دور المرتزق الذي يتلقى الأموال الأمريكية تحت شعار نشر الديمقراطية في الوطن العربي.

وبغض النظر عن تباين هذه الآراء، فإن واقع الأمر، أو حصيلة الديناميات السياسية، أفضت إلى ما أسماه كثير من الباحثين في تحولات الديمقراطية في الشرق الأوسط بمعضلة الإسلاميين، إذ وجدت الإدارة الأمريكية نفسها أمام واقع خدمة الديمقراطية لمصالح الإسلاميين، فخلصت إلى استحالة الحديث عن تحول ديمقراطي في المنطقة العربية، دون أن تكون الحركة الإسلامية هي حجر الزاوية.

وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد غيرت استراتيجيتها بمحاولة الدفع بالحركة الإسلامية لتصير أحزاباً ديمقراطية على شاكلة الأحزاب المسيحية الديمقراطية، والمراهنة على الأحزاب العلمانية ليبرالية ويسارية، فإن حصيلة هذا التعديل، لم يأت بطائل، فلا الحركات الإسلامية صارت على شاكلة الأحزاب الديمقراطية المسيحية، ولا الأحزاب العلمانية، تقوت وصارت قوة أساسية في المشهد السياسي.

والخلاصة أن المشكلة التي تعاني منها بعض التوجهات العلمانية من جراء ارتهانها إلى المساندة الخارجية لنشر الديمقراطية، هو سوء قراءتها للرؤية الأمريكية، وعدم استيعابها لتحولاتها الاستراتيجية، وعدم إيمانها بأن الديمقراطية هي فعل ذاتي يخرج من مكونات الأمة، وأن الضغوط الخارجية، ليست أبداً في صالح الديمقراطية المحلية، بل يمكن أن تكون عامل إجهاض وتعطيل لها؛ وأن الحاجة ماسة بالنسبة لهذه التوجهات العلمانية على هذا المستوى لترشيد مسارها وتغيير رهاناتها، وجعل الأرضية الديمقراطية إطاراً حقيقياً لالتقاء كل التطلعات المخلصة، وتأسيس جبهة عريضة لكل التواقين إلى الحرية والعدل والديمقراطية من إسلاميين وليبراليين وقوميين ماركسيين.

أي أفق للتقارب بين التيار العلماني والحركة الإسلامية؟

إن أكبر أزمة وقع فيها العقل العلماني العربي، أنه لم يبصر بشكل جيد دلالات التجربة الغربية، فبدل أن يؤسس هويته الفكرية والسياسية على نبذ الاستبداد، وعقلنة السلطة، وإعادة توزيعها، ووضع قوانين للتداول السلمي عليها، وبدل أن ينشغل بقضايا الديمقراطية في بعدها الإجرائي والسياسي، راح يشتغل بهدم الأسس الإيديولوجية لما يعتقد أنها تربة الاستبداد والتسلط، فظن أن الدين في سياق التجربة الغربية يؤدي نفس الوظائف التي يؤديها الدين في التجربة العربية!

والنتيجة، أن النخب العلمانية وجدت نفسها ليس فقط خصما للحركة الإسلامية، بل ومتحالفة مع السلطة ضد الديمقراطية. وحتى تجنب نفسها حرج الموقف، حركت مفرداتها التبريرية، وأنتجت بعض المقولات الذرائعية، مثل ترتيب الأولويات، والمعركة التكتيكية قبل الاستراتيجية، والعدو الرئيس والعدو الثانوي.

والحقيقة، أن كثيرا من مثقفي التيار العلماني يدركون أن تمثل هذه المفاهيم والمفردات الذرائعية، وتحريكها في غير سياقها، لا يعبر في نهاية المطاف سوى عن المأزق الذي يعيشه الفكر العلماني، ذلك أن أول مهمة مطروحة على التيار العلماني أن يعيد بناء هويته الفكرية، بشكل تكون فيها الحرية السياسية والفكرية هو العمق الاستراتيجي للمشروع العلماني برمته.

مهمة كهذه، تتطلب إعادة تأصيل الأطروحة العلمانية من جديد، كما تتطلب إعادة قراءة التجربة الغربية وتتبع مسارها وتطورها، ورصد هذا العمق الاستراتيجي فيها.

القضية الثانية، التي ينبغي أن يجري فيها التيار العلماني مراجعة عميقة، هي موقفه من الدين، ذلك أن استقراء عناصر التجربة التاريخية العلمانية، يفيد بأن هذا الموقف كان أكبر عائق في وجه توطين مفردات الهوية العلمانية وعلى رأسها قضية الحرية السياسية.

 

مشكلة العلمانيين أنهم لا يريدون الاعتراف بما يتمخض داخل الشعب من حركية ومن تيارات فكرية ومجتمعية، حيث لا زال العديد منهم يتصور أن الحركة الإسلامية هي ظاهرة عابرة في التاريخ، وأن المعركة ينبغي أن تتوجه مؤقتا ضد هذه الظاهرة وأن جميع قوى "التقدم" و"الديمقراطية" معنية بالتوحد لخوض هذه المعركة،

 



غير أن هذه المراجعة لا ينبغي أن تسير في الاتجاه الذي سلكته بعض أطياف التوجه العلماني حين حادت عن المبدئية الفكرية واعتمدت المناورة أسلوبا في درء مفاسد موقفها السابق من الدين، فبدل أن ينصرف الهم إلى مراجعة مبدئية لموقفها السابق من الدين، بعض الأطراف بانتهازية مكشوفة تناهض الدين باسم الدين المستنير، وتناقض مقاصده باسم اعتداله، وتضرب في أركانه ومفاصله باسم انفتاحه وتسامحه.
 
غير أن هذه المقاربة السطحية لم تحل مأزق الموقف من الدين، بدليل أن التوجه العلماني لم يغادر العموميات إلى بيان ما يقترحه على الشعب من اجتهادات مستنيرة تنطلق من الدين ومقاصده، وإنما قصارى ما فعله أنه استنسخ منتجات الفكر "الكوني" وألبسها قهرا صفة "الإسلامية" ليحارب بها كل ما يعارضها من اجتهادات مشدودة إلى أصولها ومقاصدها.

والحقيقة أن هناك أكثر من خيار يمكن أن يجأر إليه التيار العلماني لإعادة صياغة جوابه حول الموقف من الدين، فثمة جواب "لاهوت التحرير"، الذي يعتبر من الأجوبة الذكية، التي انتجها الفكر الماركسي في تجربة أمريكا اللاتينية، حين وقع الزواج بين الثورة وبين التعليم المسيحية، وصار الدين ليس إيديولوجية التحالف الطبقي كما هو التحديد الماركسي الأرثوذوكسي، وإنما صار خميرة للثورة، ومعاملا أساسيا في التغيير، فقد أبدعت الثورة في أمريكا اللاتينية هذه الصيغة الفريدة التي يلعب فيها الدين دور المحرض الإيديولوجي ضد الظلم والاستبداد والقهر والتحالف الطبقي المسيطر.

وثمة جواب آخر، غير هذا، يمكن أن تعتمده نخب أخرى، لا تتبنى الفكر الماركسي، فالفكر العلماني كما يؤسس له منظروه ينزع نحو العقلانية والموضوعية، ويدفع في اتجاه تأسيس عقل علمي يتعامل مع الظواهر في ذاتها، ويفسرها بمبدأ السببية والعلية، ويرفض كل فكر ينطلق من خارج هذه الأرضية.

يمكن للعقل العلماني، أن يختار صيغة محمد عابد الجابري، التي أصل فيها للقاء الإسلاميين والعلمانيين، فالفكر العلماني قد يكون خصما للتصوف، الذي يجعل العقل المؤيد حاكما على العقلين: العقل المسدد بالوحي، والعقل الفلسفي المجرد، وقد يكون خصما لكل منتجات العقل العرفاني، الذي يجعل الصلة المباشرة بالله الأداة الوحيدة لتحصيل المعرفة، فمنطق الأشياء يقتضي أن يكون الجامع بين الفكر العلماني والفكر الإسلامي، هو محاربة كل مسعى لاعقلاني، يريد أن يتجاوز السنن الشرعية والكونية معا. لقد كان ابن رشد نبيها حين حلل منطق العقلين: عقل الفقهاء، وعقل المناطقة والفلاسفة، وآل إلى النتيجة المشهورة التي ينبغي أن يتخذها العلمانيون كراسة ودليلا على الطريق:" ذلك أن الحق لا يضاد الحق ولكن يعضده ويشهد له".

مخرج ذكي، أنتجه الحابري، لو أبصره العلمانيون، لأدركوا أنهم والإسلاميين يمكن أن يجتمعوا على أكثر من صعيد، ليس أوله مناهضة التيارات الباطنية وفصائل الغلو والتطرف، وليس آخره مجابهة الاستبداد والظلم السياسي.

طريق المغايرة، أي الإقرار بالاختلاف مع منهج الإسلاميين مع إمكان اللقاء معهم في النتائج، يحقق أكثر من مقصد، فهو يعفي العلمانيين من البقاء في موقع الهجوم على الدين والتدين، ويجعلهم في قلب المعركة مع الشعب إلى جانب الشرفاء ضد الظلم والاستبداد، ويؤسس لموقف فكري مبدئي يسمح بحد أدنى من التواصل مع الحركة الإسلامية.

المثير للمفارقة أن النخب العلمانية اليوم توجد في الموقع الخطأ عقلانيا موضوعيا، فتراها منجذبة لتشجيع الفكر الصوفي العرفاني، مع أنه يناقض العقل ويسير في اتجاه معاكس للسببية التي تمثل مرتكز الفكر العلماني، وهو ما يفسر مأساة هذا الفكر الذي يسير أصحابه اليوم ضد أطروحتهم، ويغلب عليهم الطرح المناور على المبدئية، إذ حين يعرض عليهم الاختيار بين أن يكون الشعب في موقع الحركة الإسلامية أو في خندق اللامعقول حيث الطرح الباطني العرفاني، يختار اللاعقل، ليس لأنه غير أطروحته الفكرية الممجدة للعقل، ولكن، لأنه في معركة سياسية تفرض عليه أن ينظر بمنظار آخر قد يعارض قواعده التي جعلها مبرر وجوده.

أما مشكلة الموقف من الغرب، فهي التي لا تتطلب ذكاء كبيرا في إعادة صياغة الجواب العلماني، فقد بدأت بعض النخب العلمانية تتفطن إلى أن الغرب ليس جادا ولا مبدئيا في الدفاع عن الديمقراطية، وأنه يفضل في كثير من الحالات الانعطاف إلى أنظمة الاستبداد إذا تعلق الأمر بوصول الإسلاميين أو وصول أطراف تؤمن بتعدد المراكز الحضارية وانبناء العلاقات الدولية على قيم العدل والمصلحة المتبادلة، ولعل تجربة الربيع العربي لم تبق أي شك في استخلاص هذه النتيجة.

ولذلك لا يتصور جواب لأزمة الموقف من الغرب، إلا بفك الارتباط معه فكريا وسياسيا، واعتبار التغيير من الداخل هو المدخل الوحيد. هذا هو ما يمكن أن يعطي للتوجه العلماني بعده الوطني، ويمكن أن يجعله أكثر قربا من الجماهير وأكثر تمثيلا للتطلعات الوطنية. غير أن فك الارتباط بالغرب لا نعني به أن تحرم هذه النخب من حقها في التثاقف مع الآخر والاستفادة من الكسب "الكوني"، وإنما يقصد به تحرير الإرادة العربية من الارتهان لبرامج الآخر واختياراته الثقافية والسياسية.

وحين تضع النخب العلمانية السقف الوطني كمحدد لانشغالاتها وتحركاتها تصبح المشهد الثقافي والسياسي العربي يتمتع بتعددية حقيقية وبثراء فكري وسياسي واقعي، ولا يكون للغرب أي مدخل لتمزيق الصف الوطني.

قد تكون المشكلة الرابعة المرتبطة بالنضال على واجهتين، نوعا ما معقدة، فثمة تفسير يقدمه العلمانيون، يرى أن أساس الديمقراطية قيمي وفكري، وأنه لا يمكن أن نؤسس لها دون أن نقطع مع المضامين الدينية والرجعية، وهي التي تحملها وتبشر بها الحركات الإسلامية، وهناك من يذهب في التفسير مذهبا آخر، فيرى أن المجتمع العربي مهدد بالمد الإسلامي، وأن الحركة العلمانية هي المؤهلة للانتقال بالبلدان العربية نحو الديمقراطية، لكن هذه الأهلية تصطدم في الواقع بفاعلية هذا التيار الإسلامي الذي يتغلغل في أوساط المجتمع بإيديولوجيته ومشروعه الإسلامي، ومن ثمة فالمعركة أولا ينبغي أن تتجه لإيقاف هذا المد الذي يكتسح المجتمع، وقد بلغ ببعض أطياف هذا التوجه، أن تماهت مع الأنظمة ضد الحركة الإسلامية، وتنكرت لكل القيم الديمقراطية والحقوقية، وصارت الصوت الفكري والإعلامي المبرر لصنيع السلطوية ضد القوى الإصلاحية، بل إنها أسست فكريا وثقافيا لمفهوم الاستئصال الأمني للحركة الإسلامية باستثمار ذريعة الإرهاب.

 

ثمة تفسير يقدمه العلمانيون، يرى أن أساس الديمقراطية قيمي وفكري، وأنه لا يمكن أن نؤسس لها دون أن نقطع مع المضامين الدينية والرجعية، وهي التي تحملها وتبشر بها الحركات الإسلامية

 



وقد بدأت تظهر في الساحة العربية نماذج من هذه العلمانية الطفيلية التي جعلت من عناوينها الرئيسة السخرية بالقيم الإسلامية ومواجهة الثوابت الدينية وفي نفس الوقت التحريض لاستئصال الحركة الإسلامية وكل مكونات الجبهة الدينية.

على أن من العلمانيين الفضلاء من ينتقد هذه النزعة الطفيلية ويراها تشوه العلمانية وأبعادها الإنسانية، ويقترح أن تتطهر النخب العلمانية من هذه النزعات المريضة التي تكون في الغالب في حواشي السلطة.


مأزق العلمانيين على هذا المستوى يتطلب أن يجري العلمانيون نقاشا داخليا عميقا حول هويتهم الفكرية وماذا يريدون؟ هل يريدون ديمقراطية ترشد الحقل السياسي وتعطي الفرصة لجميع مكونات الطيف السياسي لتظهر قدرتها على تدبير الشأن العام بدون تمييز أو استثناء؟ أم يريدون أن يكونوا في خصومة مع المجتمع الذي يفرز الظاهرة الإسلامية بكثافة؟

مشكلة العلمانيين أنهم لا يريدون الاعتراف بما يتمخض داخل الشعب من حركية ومن تيارات فكرية ومجتمعية، حيث لا زال العديد منهم يتصور أن الحركة الإسلامية هي ظاهرة عابرة في التاريخ، وأن المعركة ينبغي أن تتوجه مؤقتا ضد هذه الظاهرة وأن جميع قوى "التقدم" و"الديمقراطية" معنية بالتوحد لخوض هذه المعركة، لكن هذه النخبة العلمانية تنسى أنها أصبحت اليوم أقلية هامشية، وأن الغرب نفسه صار لا يثق بقدرتها على صناعة الواقع السياسي في البلدان العربية، وأنه يبحث اليوم عن بدائل أخرى، ويرى أن الأنظمة السياسية هي البديل حيث لا بديل.

الجواب عن هذه الأزمة هو أن تتغير بوصلة العلمانيين وتتجه إلى النضال الحقيقي من أجل الديمقراطية. إن ما تعانيه الشعوب العربية اليوم، ليس بسبب الحركات الإسلامية، وإنما هو بسبب تغول السلطوية، ولذلك فالاجتهاد العلماني مدعو إلى تغيير أولوياته، والتأسيس لقناعات فكرية جديدة تقبل بإشراك الإسلاميين في جبهة واحدة للنضال من أجل الديمقراطية.


التعليقات (3)
شكري
الخميس، 28-01-2021 02:48 م
حكوماتنا العربية استطاعت و بكل جدارة أن تزرع التعاسة في قلوب أفراد شعوبها .
عبد الرحمن
الثلاثاء، 26-01-2021 08:01 م
تصاب بالصدمة من أناس يدعون أشياء هم أساسا يجهلون قيمتها وأنها منهج عمل مجرد كلام و قنطرة عبور فكثير منهم يكذب ويكذب ويكذب ويعرف أن الناس تعرف أنه كذاب وكل خطاباته موجهة للغرب سنفعل وسنعمل و وبمجرد التمكن يبدأ في تدمير كل ما هو أصيل وثابت لأن كل أسباب البناء صعبة بالنسبة له والهدم أسهل شيء وينتظر دائما رضاء الغرب عنه. الاسلاميين تجربتهم ما تزال فتية لكنها ايجابية مهما كانت العقبات وهي مستقبل من يبحث عن هويته الحقيقية وكرامته
بن محمد بن عبد السلام
الثلاثاء، 26-01-2021 06:41 م
مقال أكثر من رائع السي التليدي. جامع مانع كاشف لداء مايسمى بالعلمانيين أو الإشتراكيين العرب. خصوصا توظيفك لفكر المغربيين إبن رشد و الجابري كحجة, وإنتقادك المشروع لعلمانية/تاريخانية المغربي الآخر العروي.. فعلا رائع.