كتاب عربي 21

إسرائيل ومعاداة السامية والقانون

جوزيف مسعد
1300x600
1300x600
بمجرد أن تولى جوزيف بايدن منصبه كرئيس جديد للولايات المتحدة، أرسلت إليه المنظمات اليهودية الأمريكية الرئيسة رسالة تحثه على اتباع نهج أسلافه واعتماد تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة اليهودية" لمعاداة السامية؛ الذي أصدرته عام 2016 بوصفه التعريف المعتمد للحكومة الأمريكية ومؤسساتها الرسمية، مشيرة إلى أن وزارة الخارجية كانت قد تبنت هذا التعريف بالفعل منذ سنوات، في عهد الرئيس أوباما. وللمفارقة، فإن هذا الدعم التنظيمي اليهودي الأمريكي الموحد لهذا التعريف لمعاداة السامية، يتناقض مع حقيقة أن اليهود الأمريكيين منقسمون حوله.

يدرج تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة "استهداف دولة إسرائيل، على اعتبار أنها جماعة يهودية" و"إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير المصير، على سبيل المثال، من خلال الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري" على أنهما (أي الاستهداف والإنكار) معاديان للسامية. فما يعنيه التبني القانوني لتعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة"، هو انخراط الحكومات والمؤسسات الرسمية في عملية الرقابة والتعقب، وتجريم أي شخص تسول له نفسه انتقاد إقامة واستمرار وجود المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية على أنه شخص عنصري معاد للسامية.

نظرا لأن مجلس الشيوخ الأمريكي كان قد أقر مشروع قانون "التوعية بمعاداة السامية" الأمريكي في عام 2016، الذي يتبنى تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة"، ولكن لم يتم إقراره في مجلس النواب، أصدر الرئيس دونالد ترامب في كانون الأول/ ديسمبر 2019 أمرا تنفيذيا لمعالجة الأمر، اعتمد فيه تعريف التحالف الدولي. وقد حثت رسالة المنظمات اليهودية الرئيس بايدن على السير على خطى ترامب باعتماد ذات التعريف. أما الدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، فقد اعتمدت بالفعل تعريف التحالف الدولي مبكراً. وكان مناهضو التعريف في الولايات المتحدة، بما في ذلك بعض المنظمات اليهودية نفسها التي ستدعمه فيما بعد، قد اعترضوا على انتهاكه لحرية التعبير.

لكن لماذا اهتمت إسرائيل وداعموها الغربيون فجأة بمقاضاة المواطنين الغربيين قانونيا لانتقادهم الأيديولوجيا الصهيونية العنصرية والسياسات العنصرية لدولة إسرائيل، في حين أنهم كانوا قد حاربوهم تاريخيا بنزع الشرعية عنهم على المستوى السياسي، ناهيك عن منع معظمهم فعليا من مساءلة الدعاية الإسرائيلية في الإعلام الغربي؟ صحيح أن وجهات النظر المؤيدة لإسرائيل كانت تهيمن دائما على وسائل الإعلام الغربية وسياسات الحكومات الغربية وتصريحاتها، لكن معظم باقي العالم كان لا يزال يتمتع بحرية التعبير في تقييمه للصهيونية والسياسات الإسرائيلية، على الأقل حتى حلول عام 1991.

فعندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3379 في عام 1975 الذي حدد الصهيونية على أنها "شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، ضمت في قرارها العنصرية الإسرائيلية إلى عنصرية المستعمرات الاستيطانية البيضاء في جنوب أفريقيا وروديسيا. عارضت القرار حينها 35 دولة فقط من أصل 104 دول أعضاء في الأمم المتحدة، وكانت الغالبية العظمى من الدول المعارضة هي المستعمرات الاستيطانية الأوروبية في الأمريكتين وأوقيانيا بالإضافة إلى الدول الأوروبية. وقد ردت الحكومة الإسرائيلية على صدور القرار باتهام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بمعاداة السامية، على الرغم من أن الأخيرة كانت قد أدانت بوضوح دولا أخرى بسبب عنصريتها ولم تدن إسرائيل وحدها.

نظرا لأن إسرائيل اشترطت حضورها مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 (الذي أدى في النهاية إلى توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو الاستسلامي) بإلغاء القرار، فقد أذعنت الأمم المتحدة تحت ضغط الولايات المتحدة، وأصدرت القرار 46/86 في كانون الأول/ ديسمبر 1991، وألغت بموجبه قرار عام 1975. ومن بين 164 دولة عضو في الأمم المتحدة حينها، صوتت 111 دولة لصالح القرار الجديد، بما في ذلك جميع الدول الأوروبية وبمعيتها جميع المستعمرات الاستيطانية الأوروبية. تكمن الكوميديا المأساوية في تعريف التحالف الدولي لمعاداة السامية في أنه وفقا للتعريف يتم اتهام معظم دول العالم بـ"معاداة السامية" في عام 1975، وبـ"عشق السامية" في عام 1991. وفي ضوء قرار عام 1991، الذي تبعه بعد أيام معدودة انهيار الاتحاد السوفييتي (الذي جعل خضوعه للولايات المتحدة في أيامه الأخيرة يصوّت لصالح قرار عام 1991)، انتابت إسرائيل وحلفاءها الغربيين نشوة النصر، وشعروا بأنهم سيستطيعون فرض سيطرتهم على حرية التعبير بخصوص إسرائيل على العالم بأسره، دون معارضة من أحد بعد ذلك.

هنا يجدر بنا التنبه إلى علاقة الحركة الصهيونية بمعاداة السامية، وهي علاقة قديمة قدم الحركة نفسها. فمنذ نشأتها، استثمرت الحركة الصهيونية في الفكرة الاستعمارية الأوروبية للأعراق البيولوجية. وقد لاحظ نقادها اليهود الأوائل استثمارها في الادعاء العنصري الأوروبي بأن اليهود كانوا "آسيويين" و"ساميين"، وبالتأكيد ليسوا أوروبيين ولا آريين. تجلى هذا الالتزام الصهيوني في وقت مبكر في فكر ثاني أهم مؤسس للحركة الصهيونية، ماكس نورداو، مؤلف أطروحة "الانحطاط" العرقي في أواخر القرن التاسع عشر. هذا الاستثمار هو ما دفع علماء الاجتماع اليهود الصهاينة إلى إنشاء جمعية الإحصاء اليهودية في عام 1902 في ألمانيا لتتبع حالة "العرق" اليهودي، من خلال مؤشرات تتضمن معدل الوفيات ومعدل الإنجاب ومعدل الزواج المختلط مع المسيحيين الأوروبيين، ومعدل تخليهم عن الديانة اليهودية واعتناقهم المسيحية، الأمر الذي دفعهم إلى الاعتقاد بأن اليهود قد "انحطوا" كعرق، وأنه لا يمكن "إعلاؤهم" عرقيا من جديد إلا في دولة منفصلة خاصة بهم.

لم يضعف التأييد الصهيوني للمسلمات المعادية للسامية أبدا، فالكلمات الملهمة لمؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل لم تزل ترشد الصهاينة حتى الآن: "سيصبح المعادون للسامية أصدقاءنا الذين يمكننا الاعتماد عليهم أكثر من أي أصدقاء آخرين، وستصبح البلدان المعادية للسامية حليفة لنا". وهذا بالضبط هو ما جذب البروتستانت المعادين للسامية لدعم الصهيونية، ولاعتبارها نتاجا للصهيونية البروتستانتية الألفية التي سعت منذ عهد الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر إلى "إعادة" يهود أوروبا إلى فلسطين.

وقد ارتكز سبب رعاية رئيس الوزراء البريطاني اللورد آرثر بلفور لقانون الأجانب لعام 1905 لحظر المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا، وسبب إعلانه (أو وعده) سيئ السمعة في عام 1917، الذي صدر عندما أصبح وزيرا للخارجية، متعهدا بدعم بريطانيا لإنشاء "وطن قومي" يهودي ليهود أوروبا في فلسطين على المبدأ ذاته.

فقد كان يؤمن بلفور كل الإيمان بأن اليهود "شعب منفصل عن الغالبية العظمى من أبناء وطنهم، وليسوا مجرد أصحاب دين مختلف". وكان الصهاينة قد أيدوا هذه النظرة المسيحية الأوروبية المعادية للسامية، التي ادعت في القرن الثامن عشر بأن اليهود الأوروبيين "شرقيون" و"آسيويون"، وقامت في القرن التاسع عشر بالادعاء بأنهم "ساميون" من عرق مختلف عن العرق الأوروبي الآري، إلى درجة أن فرع المنظمة الصهيونية الألماني المحلي قام بتأييد قوانين نورمبرغ العنصرية والمعادية للسامية لعام 1935، التي أقرها هتلر والنازيون (رغم أن معظم اليهود الألمان، وكان أغلبهم غير صهاينة بل معادين للحركة، عارضوه)، بالتحديد لأنهم وافقوا النازيين على أن اليهود بالفعل من عرق مختلف وأنه يجب فصلهم عن الألمان المسيحيين وإرسالهم إلى دولتهم الاستعمارية- الاستيطانية.

بعد قيام دولة إسرائيل، تبنى النظام الاستعماري الاستيطاني سلسلة من القوانين التي ضمنت الطبيعة "اليهودية" للدولة التي تميز مواطنيها اليهود وتضعهم في مرتبة أعلى من الآخرين. كرر قانون الدولة القومية في تموز/ يوليو 2018 الأسس العنصرية للمستعمرة الاستيطانية اليهودية، في إصراره على حصرية "حق تقرير المصير" اليهودي في كل فلسطين التاريخية، وهو نفس حق "تقرير المصير" المزعوم الذي أصر تعريف "التحالف الدولي" على حمايته من "المعادين للسامية".

إن هذا الإرث المعادي للسامية هو الذي تلتزم به أوروبا والولايات المتحدة عندما أصرتا، كما هو عهدهما منذ عام 1948، على أن أي "حل" للقضية الفلسطينية، لا سيما ما يسمى بـ"حل الدولتين" يجب أن يحافظ على الفوقية العرقية اليهودية في إسرائيل، التي لا يمكن التنازل عنها في أي ظرف. وهذا يشمل، من بين أمور أخرى، القلق الكبير من عودة اللاجئين الفلسطينيين المطرودين إلى وطنهم، ما من شأنه أن يضر "بالطابع اليهودي" لإسرائيل، والقلق الأكبر من أن "حل الدولة الواحدة" الديمقراطي سوف ينفي الطبيعة "اليهودية" لإسرائيل طُرّا. باختصار، ستلغي مثل هذه الحلول الامتيازات الاستعمارية اليهودية العرقية والدينية، وهو أمر تعدّه الدول الغربية غير مقبول بتاتا.

ولكن مع تضاؤل الدعم لإسرائيل منذ عام 1991 بين جماهير أوروبا الغربية والأمريكيين البيض (وهو ما حصل لأول مرة في تاريخها)، الذين يتهمون إسرائيل بأنها دولة عنصرية أو غير ديمقراطية أو دولة "فصل عنصري"، أدركت إسرائيل، التي لطالما دافعت عن سياساتها الاستعمارية من خلال وصف أي ناقد لطبيعتها كمستعمرة استيطانية بأنه "معاد للسامية"، أن استراتيجياتها الإعلامية وسيطرتها على الرأي العام الغربي لم تعد فعالة كما كانت في السابق. وبتشجيع من الدعم المستمر الذي تلقته من أوروبا والمستعمرات الاستيطانية الأوروبية في الأمريكتين وأوقيانيا لإسكات العالم بشكل فعّال في الأمم المتحدة في عام 1991، قررت الانتقال جنبا إلى جنب مع حلفائها الغربيين من استراتيجية الخطاب الإعلامي والحكومي إلى عالم التهديدات القانونية.

وفي هذا السياق، تم تبني تعريف التحالف الدولي لمعاداة السامية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية. ومع ذلك، فقد أثبتت الجماهير حول العالم حتى الآن أنها أقل مرونة مما كانت عليه حكوماتهم في الأمم المتحدة عام 1991. وتهدف الاستراتيجية القانونية لإسرائيل، واستراتيجية حلفائها الأوروبيين والأمريكيين، إلى كسر إرادة الجماهير المعارضة لها، وإن كان نجاح الاستراتيجية الجديدة غير مضمون على الإطلاق.
التعليقات (0)