في خطوة يمكن اعتبارها استمالة لأبناء المهاجرين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبعد أكثر من 63 سنة من وقوع الجريمة، جريمة التعذيب الوحشي المؤدي إلى القتل، جاء اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 2 آذار/ مارس الجاري بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتل المناضل والمحامي
الجزائري علي بومنجل الذي قضى أجله تحت تعذيب سلطات الاحتلال الفرنسي إبان الثورة الجزائرية، وبذلك تكون فرنسا قد خطت خطوة صغيرة في اتجاه الاعتراف بجرائمها خلال حقبة الاستعمار.
جرائم لم يسلم منها الفرنسيون أنفسهم، فقد أقر ماكرون نفسه في أيلول/ سبتمبر 2018 بمقتل أستاذ الرياضيات موريس أودان على أيدي المخابرات الفرنسية لمساندته نضال الشعب الجزائري من أجل الحرية والاستقلال، وقد قُتل الرجل بعد تعذيبه بطريقة وحشية تضاهي في شراستها وقسوتها ما قام به إرهابيو داعش، وتدل على أن فظائع الاستعمار كانت أعنف وأبشع في زمن لم تكن للصورة أي حظ للنشر، ولم يكن فيه لا تلفزة ولا إنترنت، بله بوسائل التواصل الاجتماعي التي تسمح بفضح الممارسات الإجرامية الرسمية وغير الرسمية، أو ما يصطلح عليه حاليا بالإرهاب.
"قتلناه بسكين ليبدو وكأن العرب هم من قتلوه".. هكذا قُتل موريس أودان، وبهذا صرح مجرم الحرب بول أوسارس (الرئيس السابق لأجهزة الاستخبارات في الجزائر العاصمة) الذي عاش حياته مطمئنا آمنا من كل محاسبة حتى وفاته عن عمر يناهز الخامسة والتسعين عاما، بعد أن تقلد العديد من المناصب العسكرية والدبلوماسية الرفيعة. وقد شكلت اعترافاته ضربة قوية للفرنسيين اضطرت الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك إلى تجريده من نياشينه العسكرية، بعد أن سطّر ودوّن جرائمه في كتاب مذكراته الذي نشر سنة 2001، وأجبر القضاء الفرنسي على محاكمته ليصدر حكم بإدانته في كانون الثاني/ يناير 2002 وتغريمه 7500 يورو، أما الضحايا فلا ذكر لهم ولا اعتبار.
بيان قصر الإليزيه يعترف بدون اعتذار، يُقر بدون طلب غفران، يرد الاعتبار لعائلة بومنجل غير أنه لا ينصفها، فمضمون البيان يقول: "في قلب معركة الجزائر العاصمة، اعتقل علي بومنجل من قبل الجيش الفرنسي، أخفي وتعرض للتعذيب، ثم اغتيل في 23 آذار/ مارس 1957، وفي عام 2000 اعترف بول أوسارس بأنه أمر أحد مرؤوسيه بقتله وإخفاء الجريمة وتغطيتها باعتبارها انتحارا".
هي خطوة لا يمكن فصلها عن سياق الأحداث السياسية في فرنسا، فقد تبعتها في اليوم التالي خطوة ثانية تمثلت في حل جمعية "الجيل الهوياتي" اليمينية المتطرفة. فالرئيس ماكرون الذي سيترشح لولاية ثانية العام المقبل، وبعد أن ظهر له أنه أمّن جانبه الأيمن من خلال هجوماته المباشرة أو غير المباشرة التي تجلت في التهجم على الدين الإسلامي، ووصم بعض المسلمين بالانفصالية والانعزالية وعدم الالتزام بمبادئ الجمهورية الفرنسية، ها هو الآن يغازل جانبه الأيسر بهذا الاعتراف الأبتر الأعزل، ولا يمكن له أن يذهب أبعد أو أكثر، وإلا خاطر بكسر وهدم ما بناه على يمينه منذ أشهر.
هو قرار جاء استجابة لإحدى التوصيات الاثنتين والعشرين الواردة في تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا، وهو التقرير الذي جاء بطلب من الرئاسة الفرنسية لمحاولة رأب الصدع بين فرنسا وبين مستعمراتها السابقة، فكانت النتيجة إحداث ضجة في كلا البلدين، فلا هو أقنع الفرنسيين ولا هو أرضى الجزائريين ولا هو خفف هوة الاختلاف بين البلدين، بل إن صاحبه تعرض لهجوم عنيف من كلا الطرفين: طرف يشكك في هويته الفرنسية ويهزأ منه، وطرف يتهمه بالانتقائية والتغاضي عن الجرائم المقترفة ضد الإنسانية من طرف الجيش الفرنسي.
والحقيقة أنه اعتراف فقط للتاريخ وليس للمصالحة بله بالإنصاف، فكل الفرقاء هم الآن عند ربهم يتحاكمون، وكان آخرهم وفاةً السيدة مليكة أرملة الضحية التي توفيت السنة الماضية بعد أن كرست كل حياتها للدفاع عن زوجها الذي قتل مرتين؛ أولاهما تحت التعذيب وثانيهما بتمريغ سمعته في التراب واتهامه بالانتحار، وكلنا نعرف ما لهذه التهمة من معنى في المجتمعات المسلمة.
مليكة التي فقدت زوجها وهي في مقتبل العمر تاركا لها أربعة أطفال صغار، كرست حياتها لإبداء الحقيقة وكشف كذب الدولة الفرنسية، لم تخنع ولم تتراجع وماتت مقتنعة بما صرحت به لجريدة لوموند الفرنسية سنة 2001: "زوجي لم ينتحر، وتعرض للتعذيب ثم قتل، لا أعرف كيف لكنه قتل ولم ينتحر. لم يُسمح لي حتى برؤية جثته، لم يره سوى طبيبين من العائلة استدعيا للتعرف عليه في المشرحة في الجزائر العاصمة. علمت فيما بعد أن أحدهما قال لعائلتي: لا تدعوها ترى الجثة!. انتهت حياتي كامرأة في 23 آذار/ مارس 1957 حين جاءني أخي الأصغر وهو يصرخ: علي قتل نفسه"!
ماتت مليكة قبل هذا الاعتراف الذي كان من الممكن أن يريح قلبها المكلوم، ويجبر شيئا من حزنها الذي دام لأكثر من ستة عقود، لكنها ماتت، وقد تأكدت من هوية المجرم الذي أمر بتعذيب زوجها وقتله، بعد أن اعترف هو نفسه بالجريمة دون ضغط ولا تهديد ولا تعذيب، فقد شاء الله أن تتأكد من هوية القاتل.
هي على كل حال بادرة محمودة من طرف الرئيس ماكرون، تختلف عما كان يردده الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - المحكوم عليه بثلاث سنوات سجنا منها سنة نافذة بتهمة الفساد والرشوة - عن الدور الإيجابي للاستعمار في شمال أفريقيا، لكنها بادرة غير كافية للمصالحة، خاصة وهي ترفض شجب الاستعمار، وتأبى إبداء الندم وتقديم الاعتذار.
فكم من مثيل لبومنجل في الجزائر وتونس والمغرب، وكم من مثيل له في مستعمرات فرنسا السابقة في أفريقيا والهند الصينية وغيرها من الإمبراطورية الفرنسية البائدة، وكم من الضحايا سقطوا بل ولا زالوا يسقطون من أجل عظمة فرنسا ومن أجل الإبقاء على مركزها العالمي بين الدول، وحفاظا على مصالحها الكبرى وما دورها السلبي في الإبادة الجماعية التي عرفتها رواندا ببعيد.