للتذكير، الحركيون هم تلك الفئة من
الجزائريين الذين خانوا القضية الجزائرية وانضموا أثناء حرب التحرير إلى جانب المستعمر الفرنسي في قمع إخوانهم من المجاهدين، وكانوا أداة قمع وقهر وتنكيل بإخوانهم وذويهم. أما حسب التعريف الفرنسي فهم مجموعة من "الفرنسيين
المسلمين" المخلصين الذين "تعاونوا" مع
فرنسا في حربها ضد "الانفصاليين" الجزائريين، كي تبقى الجزائر فرنسية.
لكن وبالرغم من هذا الإخلاص، رفضت فرنسا استقبالهم وتركتهم لمصيرهم بعد استقلال الجزائر، واعتبرت موقفها موقفا حتميا وشرعيا وهو الوحيد الممكن، حسب تصريح بيير مسمير، وزير الجيوش الفرنسي أثناء الحرب.
هرب العديد منهم للعيش في فرنسا، لكنهم عاشوا عيشة ذل وهوان، حتى جاء الرئيس ماكرون معتذرا لهم عن الحيف والظلم الذي أصابهم، والإهمال الذي عوملوا به منذ وطأت أقدامهم أراضي فرنسا، حيث أُسكنوا في مخيمات على هوامش المدن، وفي سجون مهجورة، نعم في السجون المتداعية التي أصبحت لا تليق حتى بالسجناء، ومات أطفالهم من الجوع وبسبب التقصير واللا مبالاة. وهذا مصير كل خائن، يعيش دائما مخزيا في ذل الخيانة، وفي مهانة واحتقار تحت أقدام أسياده.
لا غرض عندي من هذا التذكير التشفي في حال
الحركيين أو ما بقي منهم على قيد الحياة، فالكارثة التي حلت بهم درس بليغ لكل من باع نفسه وغدر أهله وبني جلدته. ولا أريد الحديث عن أبنائهم، فمن شابه أباه فما ظلم. ولكني أريد الحديث عن مجموعة من الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية ممن سأطلق عليهم اسم "الحركيين الجدد"، وهم فئة جديدة انبثقت من بين المهاجرين وأبنائهم وخرجت إلى الإعلام؛ لا لتنبري للدفاع عن ذويها والتصدي لخصومهم، ولكن لتزيد الطين بلة ولتُحمِّلهم كل المسؤوليات. ومواقفهم من قضايا العرب والمسلمين في فرنسا تلتقي في صلبها مع موقف الحركيين سالفا، لكن مع فرق هائل، فإذا كان غالبية الحركيين من الجهلة ومعدومي الثقافة ومن الطبقات الفقيرة، فإن الحركيين الجدد ينتمون في غالبيتهم إلى الطبقة المثقفة الوسطى، والتي يدفعها تملقها وحب الشهرة والظهور إلى اتخاذ مواقف أقل ما يقال عنها أنها مخزية وماكرة وخبيثة.
يدفعهم حب المال والجاه والشهرة إلى قلب مواقفهم رأسا على عقب، للطعن واللمز والغمز في أقرب الناس إليهم، يكذبون جهارا، ويدّعون الخبرة في مجالات هم أبعد الناس عنها وعن معرفتها، إذ لا يكفي أن تحمل اسما عربيا لتكون ضليعا في الثقافة والحضارة الإسلامية بله في الدين والتدين.. يُزوِّرون الحقائق ويزيفون الواقع، يؤتى بهم كشهود زور فيصرخون وينهقون، ويحكون انطلاقا من واقع معيش "في مخيلتهم"، ثم يدّعون معرفة الحقيقة من الداخل وتراهم يخاطبون غيرهم من المثقفين المنصفين: "أنتم لا تعرفون، أنتم لم تجربوا، أنتم بعيدون عن الحقيقة، نحن أصحاب الحال"، فيؤخذ كلامهم على محمل الجد من طرف المواطنين الأصليين. والأدهى من ذلك أنهم يتعاملون بمنطق الوقيعة للوصول إلى مآربهم، فهم يظنون أنهم كلما زاد تنديدهم بثقافة الأصل كلما زادت حظوتهم، وكلما انسلخوا عن تدينهم كلما ارتفعت أسهمهم عند من لا يرضى إلا بتمريغ أنفهم في التراب.
تكاثر عدد هؤلاء الحرْكيين الجدد بتصاعد الإعلام اليميني المتطرف، يجمعهم التملق من أجل مصالح ذاتية عابرة وزائلة، والرغبة في الشهرة والظهور، لكن وقْعهم السلبي على الجالية العربية والمسلمة كبير من ظهورهم الدائم والمستمر على وسائل الإعلام، فقد أصبحوا نجومها كلما كان الحديث عن الإسلام والمسلمين في فرنسا، وما أكثره هذه الأيام مع انطلاق الحملات الانتخابية، كما تجمعهم مواقفهم العلمانية المتطرفة رغم تشتت أفكارهم وانتماءاتهم، حيث نجد جزءا منهم في حركة "الربيع الجمهوري" ذات التوجه اليساري العلماني المتطرف، ويتوزع آخرون بين أحزاب اليمين واليسار على السواء، باستثناء حزب "فرنسا غير الخاضعة" نظرا لمواقف زعيمها ومناصرته الواضحة للمسلمين، كما نجد منهم بعض "الأئمة" - مع التحفظ على المصطلح - الذين باعوا ضمائرهم وبعض الخبراء المُخبرين أو الكتاب المغمورين دون نسيان بعض الإعلاميين، لا يحملون من الهوية والثقافة العربية الإسلامية شيئا غير الاسم، ولن نذكر اسم أحد منهم، فعن هذا يبحثون.
ما قلناه، لا يعني أن أغلب المواطنين الفرنسيين من أصول مهاجرة عربية أو إسلامية لا يحبون فرنسا أو يكرهونها ويعادونها كما يحلو القول لبعضهم، بل العكس هو الصحيح، فهم يحبون فرنسا ولا ينكرون جميلها، وهي التي أعطتهم رغد العيش وأخرجت الكثير منهم من الفقر المدقع. هم ممتنون لفرنسا التي تسمح بحرية التعبير وحرية الرأي، فرنسا بلد القانون المحترم الذي أعطاهم المواطنة حين يوجد عرب دون جنسية في مناطق أخرى من العالم.. يحترمون علمانية فرنسا التي ستمح بحرية الاعتقاد وتجعل كل الأديان سواسية، وتعطي الحرية في التدين وممارسة العقيدة، كما تعطي الحرية للتحرر وللفسوق والفجور، ما دام كل هذا يتم في احترام للقانون ودون تعدّ على الآخرين.
أن تكون مواطنا فرنسيا لا يعني الذوبان كليا، ولا يعني التنكر لدينك وثقافتك وأهلك، ولا يعني أن تذود عن أفكار اليمين المتطرف بحجة "الاندماج" أو بذريعة الانفتاح والحداثة والمعاصرة، ولا يعني أن تناصر العلمانية المتعصبة وتقول إن وشاح المرأة تطرف وتشدد لا يناسب قيم الجمهورية. ويكفي الرجوع إلى ماض قريب كي نرى كيف كان لباس المرأة الفرنسية الأصيلة والأصلية، يومها لم يدّع أحدٌ أن ذاك اللباس تعبير عن
أيديولوجيا معينة أو دين من الأديان. ويكفي الرجوع إلى كتاب "تاريخ الحجاب، من العصور الوسطى إلى مجلس الفاتيكان الثاني" لصاحبته المؤرخة نيكول بيليجرين، وقد قدمته الدكتورة فرانسيسكا كنادي سوتمان في مقالة بعنوان "الحجاب.. ألف سنة من الحضور في الغرب"، كي تتضح الرؤية، وتدحض مزاعم أولئك الذين يدعون أن الحجاب تعبير عن الأيديولوجيا الإسلاموية السياسية، متخذين كرأس حربة هؤلاء "الحركيين الجدد".
هي ظاهرة قديمة جديدة، تظهر عند مراحل الضعف والوهن، وهذا حال مسلمي فرنسا الآن، حيث يخرج من بين المستضعفين من يزيد من عمق الجراح ليطعن ويغدر، معتقدا حسن صنيعه، لكن هيهات هيهات، فالتاريخ علمنا أن أسوأ الناس هم هؤلاء الذين يدعون الانتماء والقرابة بينما هم أشدّ الناس ظلما وعدوانا، هم المعنيون بكلام الكاتب الفرنسي الشهير فولتير، وهو الذي لو كان حيا لصُنّف بين الإسلامويين- اليساريين: "يا إلهي، احفظني من أصدقائي. أما أعدائي، فسأتكفل بهم".