لعل يوم التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003 كان يوما فارقا في تاريخ الأمة العربية. الوصف هنا ينسحب على تلقي خبر سقوط بغداد بين حاكم ومحكوم في الأمة العربية، وبين بعض الدول وأخواتها، يوم تفرقت فيه الأمة وتقطعت أوصالها إلى حيث اللا عودة. ولأن المقال هو بالأساس سياسي تحليلي يحمل رأيا وفكرة، فلن أبكي على أطلال حاضرة الأمة وعاصمة الخلافة لما يزيد عن الخمسة قرون، ساد فيها المسلمون العالم وحكموا شرع ربهم وأشاعوا العدل ما استطاعوا.
حدث غير مجرى التاريخ الحديث
في عمر الأمم أحداث تغير وجه التاريخ، فسقوط بغداد واحتلال
العراق لا يقل في نظري عن فتح القسطنطينية أو مقتل ولي عهد النمسا فرانز فرديناند، أو هزيمة الخلافة العثمانية وسقوطها بعد مقتل ولي عهد النمسا واندلاع الحرب العالمية الأولى. فلقد كان لسقوط بغداد واحتلال العراق تداعيات كبيرة إذ شهدت حوادث وسوابق على مستويات عدة، وأظهرت حقيقة النظام العالمي الجديد الذي يحكم العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وترسيخه بعد سقوط حائط برلين وإدارة العالم بمعرفة قطب واحد يستطيع أن يصنع الكذبة، ويجبر العالم على تصديقها من خلال أوراق الضغط من ناحية، وبقوته العسكرية التي أريد لها أن تتنامى وتسيطر على مربع اللعب الجيواستراتيجي في العالم من ناحية أخرى.
فلم تكن فرية امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل لتقبل، فالاستراتيجية الأمريكية أسست على تحقيق مصالحها في المنطقة باستخدام كافة الوسائل حتى ولو حادت هذه الوسائل عن الشرعية القانونية أو الدولية، وحتى لو حادت عن مصالح دول المنطقة ولو كانت حليفة أو صديقة، وبغض النظر عن شرعية تلك الوسيلة أم لا، وبغض النظر عن مصالح دول المنطقة.
ومن ثم فإن احتلال العراق لم يكن إلا حالة من فرض الهيمنة على دول المنطقة من خلال إسكات الدولة الأكبر والأقوى فيها، في حينها، ما يسمح لها بفرض سياسة جديدة للمنطقة تديرها على نحو يتوافق مع حجمها كقطب أوحد في العالم مكن من مقدرات هذه المنطقة، وهو ما أرادت أمريكا تثبيته باحتلال العراق، ورضخت له الأنظمة العربية سريعا لهشاشة بنيتها التشاركية، سواء في القرار أو وحدة الرؤية، وتشوش مفهوم الأمن القومي العربي، مقابل مصالح محدودة في الجغرافيا والأثر.
تداعيات سقوط بغداد على العراق
لقد كان لاحتلال العراق تداعيات كبيرة على البلد المحتل، فعلى الرغم من أن أمريكا بررت الحملة العسكرية على العراق بحماية العالم من شرور نظام دكتاتوري يملك أسلحة دمار شامل، وبشرت بالتوازي مع ذلك بقيم ديمقراطية ترسخ العدالة والحرية وتداول سلمي للسلطة في دولة لا يقصى فيها أحد.
لكن النتيجة التي انتهت إليها الحملة الأمريكية على العراق أفضت إلى دولة رعب تحكمها المليشيات غير عابئة بالقانون، وعلى الرغم من أن الدستور الذي وضعه الأمريكيون ينص على ترسيخ الحريات وبسط العدالة بين مكونات الشعب العراقي، فإن نتيجة تطبيقه صورة كارتونية لممثلي تلك المكونات وتصدر كامل في مشهد الفيلم العبثي لمكون واحد مدعوم خارجيا، وهو أحد الخطايا التي ارتكبها
الاحتلال، ومن مشى في ركبه من دول المنطقة، بتمكين
إيران من قرار بغداد، فأصبح رئيس البرلمان "السني" مرشحا من طهران، وإلا لن يحصل على المنصب، وأصبح على رئيس الوزراء "الشيعي" أن يكون مواليا للمرجعية ومرشد الثورة ومؤمنا بمبادئها الخومينية ليجلس على المقعد. حتى رئيس الجمهورية، فهو رهين القرار الإيراني من خلال برلمان يسيطر عليه الموالون لها.
لم يترك الاحتلال، كما وعد، تداولا سلميا للسلطة، بل تدويرا للوجوه التي أتى بها، وإن شاخت، ولم يترك دولة قانون كما بشّر، بل شبه دولة يحكمها الهوى والمرجعيات. ولم ير العراقيون مساحة الحريات، فلا صحافة ولا إعلام، والكل موالٍ ومدفوع بمصالح مموليه، ومن يخرج عن الخط فكواتم صوت أسلحة فرق الموت جاهزة. وحتى الحق في التظاهر الذي يصرخ فيه الشعب من أنينه، تعلوه صرخات فوهات سلاح القوات الأمنية والمليشيات لتسكت تلك الأصوات، ومن يقتل منهم لا يجد في مرفق العدالة منصفا له ولذويه.
فالقاضي قضى بأن الحكم للخضراء وأن الشعب عبيد إحسانها، وفشل المشروع، وفشل معه العراق كدولة، وصار مضرب المثل في محاضرات الدورات التأهيلية لمخابرات العالم كمثال لصناعة الدولة الفاشلة، فأفقرت الدولة التي تعوم على بحيرة من نفط، بعد أن نهبت أموال النفط وفروق الأسعار الموضوعة في الموازنات لتذهب لطهران فروض طاعة وموالاة ولا عزاء للمواطن العراقي. وبالنتيجة فإن الاحتلال ترك دولة مشوهة طائفية تفتقد العمل المؤسسي ويغيب عنها مرفق العدالة، كما تغيب عنه عقولها إما بالهجرة أو بالقتل، وفي ظل انتهاج سياسة تناهض الحريات.
آثار غزو العراق على الأمة العربية
لم تكن آثار غزو العراق محدود بالنطاق الجغرافي الذي حل به، بل كانت متعدية إلى الأمة العربية كلها، فإن لم تكن تلك الآثار واضحة في حينها، ولم تقرأها دوائر صنع القرار في أمتنا وعلى الأخص الخليج الذي لم يبارك الاحتلال بل دعمه، فإن آثارها الآن باتت أكثر ظهورا عليه، وأكثر من يعاني منها الآن هو الخليج الذي دعم.
لا شك أن تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة يهدد دول الخليج، ولقد ظن الخليج أنه سينهي مخاوفه من جمهورية كبيرة في الجوار، لكنه بيده هدم حائط الصد ضد الأطماع الإيرانية. وإن كان صدام حسين شكل خطرا على الخليج لا سيما بعد الخطأ الاستراتيجي الذي شد طرف الخيط من بكرة الصوف لانهيار المنظومة القومية، وهو ما كانت تسعى إليه السعودية ومن خلفها نظام مبارك في مصر بقدر، إلا أن الخليج بدعمه للاحتلال الأمريكي للعراق استحضر العفريت الذي سيظل يخيفه، لا بالرسائل السياسية ولكن على الأرض، بعد أن صرح نائب رئيس المخابرات الإيرانية السابق بأن طهران أصبحت تسيطر على أربع عواصم عربية، منها بالقطع بغداد، ولعل حديث الإعلام الإيراني وموتوري النظام وأنصاره في عدة بلدان من أن الحجاج المسلمين سيأخذون تأشيراتهم للبيت الحرام في مكة، من طهران، لهو كشف عن نية طهران الكامنة.
آثار الاحتلال طالت الحكام الذين أصبحوا مدينين للأمريكان، وأصبح عليهم دفع الجزية في صورة صفقات سلاح أو استثمارات طوعا أو كرها، وانسحب الأمر على الجمهوريات بعد الممالك، وأصبح للرئيس أن يرتكب الانتهاكات بحق شعبه كيفما شاء ووقتما شاء، مرتكنا على الرصيد الذي يقدمه من قوت شعبه للمحتل الأمريكي. ولما اندلعت ثورات الربيع العربي تردد الأمريكان بين دعم الدكتاتوريات وبين الحفاظ على صورتها التي رسمت بدعم الديمقراطيات وحق الشعوب في تقرير مصيرها، فاختارت الثانية على أن تكون التفافة لإعادة دكتاتوريات المصالح، فدعمت بأموال الخليج انقلابات لا تزال مستمرة تنفيذا للاستراتيجية التي نهجتها باستخدام كافة الوسائل لتحقيق مصالحها، ولو حادت عن مبادئها المعلنة بدعم
الديمقراطية.
لم تكن الدبابة يوما وسيلة لتطبيق الديمقراطية، واسألوا في ذلك أفغانستان وكوبا وكولومبيا وتشيلي وفنزويلا، واسألوا تركيا أردوغان وإيران مصدق، واسألونا عن مصر وانقلابها، ولو طال الزمن، قبل أن تسألوا العراق الذي خرج فيه الشباب رافضين الاحتلال في صورتيه الأمريكية والإيرانية المتخادمتين. شعوبنا وعت أن المحتل الجديد وكيل ولو طعم مطعمنا وتشبه بنا.