أنت منذ الآن غيرك هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق،
ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضا أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ،
كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟ كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!
أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك!
يبدو أن النصر الذي حققته المقاومة
الفلسطينية بغزة ضد الاحتلال، بشكل أخلّ بتوازن الرعب المعتمد من الأخير لردع أي تحرك فلسطيني أو إقليمي في المنطقة، أخرج كثيرا من الأعداء الصريحين أو الأعداء المتخفين في ثوب الأنصار من جحورهم، خوفا من المعادلات الجديدة التي أرساها واقع تمكنت فيه صواريخ المقاومة من الوصول إلى تل أبيب، مخترقة القبة الصاروخية الإسرائيلية التي كثيرا ما قدمت، كما التفوق الاستخباراتي والعسكري للكيان، على أنها "خارقة"، فصارت بعد الذي حدث تستجدي المساعدة الأمريكية لإعادة الاعتبار لكبريائها المشروخ.
انتقدوها في البداية من منطلق أنها تدخل حربا غير متكافئة لا قدرة لها على الاستمرار فيها، فصارت هي التي تقرر متى توقفها بعد أن تنادى "الوسطاء" والقوى الدولية الوازنة للدفاع عن أمن إسرائيل وحقها و"شعبها" في العيش بـ"سلام" خارج الملاجئ والأنفاق. بعدها صار تصيد أي حركة ديبلوماسية من حركة
حماس، وممثليها في الداخل والخارج؛ مهمة توزعت فيها الأدوار بين بيادق الداخل والخارج خدمة لأهداف صهيونية أو عربية قُطرية أو محلية ضيقة، تستر عورة سلطة كان رفع وتيرة التنسيق الأمني وقمع المظاهرات المنددة بالجرائم الصهيونية واعتقال النشطاء؛ مهمتها الوحيدة طوال أيام معركة سيف القدس وما تلاها، حتى انتهى الأمر بأجهزتها لتعذيب نزار بنات وقتله، وإخفاء جثته لتجرئه على الانتقاد.
أنا والغريب على ابن عمِّي.
وأنا وابن عمِّي على أَخي.
وأَنا وشيخي عليَّ.
هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة، في أقبية الظلام.
من يدخل الجنة أولا؟
منْ مات برصاص العدو، أم مَنْ مات برصاص الأخ؟
بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوّ لك ولدته أمّك!
لقد اجتمع أعداء حركة حماس الأيديولوجيون والسياسيون كما أعداء
المغرب المعلَنون؛ لانتقاد زيارة وفد من الحركة برئاسة إسماعيل
هنية للمملكة المغربية قبل أيام، بعد أن أنكروا على الحركة توجيه الشكر لدولة إيران على دعمها للمقاومة من منطلق "طائفي".
في الداخل الفلسطيني، هناك من يريد من المقاومة أن تعيش متخفية في قناع "أبو عبيدة" وتكتفي بالأنفاق بيوتا، حيث تبذل الجهد والأرواح في مواجهة الاحتلال، فيما يستأثر هو وأبناء فصيله بدعوات الزيارات الخارجية وترف الفنادق والمنتديات ليتاجر بالانتصارات والنكسات على حد سواء. هؤلاء لن يعدموا بيانات وكتابات وأشعارا، فهذا أقصى ما يمكنهم تقديمه لمن يشتري ويدفع مقابل كلمات. هؤلاء ليسوا فقط أطرافا من السلطة، أخافتهم مواجهة الحركة على الأرض وفي الانتخابات، بل هيئات وأفراد "تتبنى" نهج المقاومة "اللفظية" سبيلا للبحث عن مكان في الساحة والمنتديات وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي. لكنهم في الواقع، أطراف "أصيلة" في فلسطين "أخرى" تقتل فيه السلطة ناشطا انتقدها، ويفتتح فيها مستثمر مشروعا "ناجحا" أتى لتلبية طلب محلي قوي ممثلا في فندق للحيوانات، في وقت يتوزع فيه أبناء البلد في المنافي والمخيمات في الداخل والخارج على حد سواء.
في الإقليم المغاربي وفي بعض الدول التي صارت "الوساطة" في القضية الفلسطينية قبلة الحياة الوحيدة الممكنة لأنظمتها المأزومة، ارتفعت الأصوات تندد بزيارة بلد تورط نظامه في التطبيع مع العدو وخيانة القضية جهارا نهارا وعلى رؤوس الأشهاد. كان المطلوب على ما يبدو العمل في الخفاء وممارسة الخيانة في اليخوت والمنتجعات والصحاري.
لقد تنادت بعض الأصوات متحدثة بلسان محتكري شعارات دعم القضية حينا وفتح الأبواب للجهاد أحيانا، ضد بلد يعترف بعلاقته مع الكيان، لأسباب قهرية، ساهم فيها الأقربون قدر ما شاؤوا ونفخوا في أسباب تأجيجها وديمومتها منذ عقود. لقد صار هؤلاء أحرص من القضية الفلسطينية من أبنائها المقاومين، بل صاروا يزايدون على المقاومة "شرعنتها" لنظام خائن للقضية وللشعب الفلسطينيين. زد على هؤلاء، من يعتقدون أن شعار "التطبيع جريمة"، وإن بقي مجرد شعار لا أصل له في الواقع، يمنح صاحبه الحق الحصري في استقبال المقاومة قبل غيره، وهو الذي لم يستطع حتى اليوم "التطبيع" مع الطبقة السياسية ببلاده، وعلى الأخص الأحزاب الداعمة لـ"ثورة الياسمين"، حتى يخيل للمرء أن المقصود بالجريمة هو تطبيع العلاقة مع الشركاء في الوطن. قضية فلسطين أكبر من أن تصبح مجرد ورقة انتخابية أو ورقة لتعزيز النفوذ الإقليمي وتسجيل النقاط، والمقاومة أدرى بمصلحتها بين إنشاد الشعارات والإقدام على الأفعال؛ سلبية كانت أو إيجابية.
وفي المغرب، حيث قضى الوفد الفلسطيني أيامه في لقاءات لم تستثن غير سفير سلطة رام الله، الذي قيل إنه رفض اللقاء بعد القبول المبدئي، لم يجد خصوم حزب العدالة والتنمية، من الأحزاب والشخصيات اليسارية على الخصوص، غير فزاعة إمكانية استغلال الوجود الفلسطيني لترقيع "بكارة" الحزب التي تلوثت بتوقيع أمينه العام على وثيقة "التطبيع" باعتباره رئيسا للحكومة، كحملة انتخابية سابقة للأوان. هؤلاء يعرفون قبل غيرهم أن الحزب سيعاقب على إهداره لوعود انتخابية ما كان تحرير فلسطين جزءا منها، وما كتاباتهم وصراخهم غير محاولة يائسة لاستغلال الزيارة، باعتبار القضية الفلسطينية ورقة التوت الأخيرة التي تستر عورة يسار، فقد بوصلته وتوزع أبناؤها بين المناصب المخزنية في المؤسسات والمجالس والهيئات غير المنتخبة، بعد أن أعيتهم الهزائم الانتخابية أو الانفصال الكلي عن نبض الشارع، كما تؤشر عليه بيانات تصدر من محبرة خطابات أكل الدهر عليها وشرب. حماس حركة مقاومة نعم، لكن الكفاح الفلسطيني بالنسبة إليهم رأسمال يساري لا يحق لغير اليسار أن يقترب منه ولو في حالة الإفلاس التي يعيشها.
أيها الماضي! لا تغيِّرنا.. كلما ابتعدنا عنك!
أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟ وماذا تريدون مني؟
فنحن أيضا لا نعرف.
هكذا كتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في قصيدته "لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة"، منتقدا ما أسمي وقتها "انقلاب" حماس بالقطاع.
أبياته تصلح اليوم، لكن، ويا للسخرية، في مواجهة أعداء حماس.