كتاب عربي 21

عسكرة المواطنة.. المواطنة من جديد (61)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
تتواتر المشاهد والشواهد التي تتعلق بعسكرة الدولة والمجتمع في ظل نظام الثالث من تموز/ يوليو، بعد الانقلاب العسكري الذي شهد قطع الطريق على مسار ديمقراطي. ولا زلت أتذكر ذلك اليوم في بداية عام دراسي سابق، عندما قام ضابط بتنظيم طابور الصباح في إحدى المدارس وتحدث عن "الشرعية المسلحة"، مبررا ومؤكدا دور الجيش في تحديد كل ما هو شرعي في البلاد، وكل ما هو شرعي من سلوك العباد. أراد بذلك أن يخترع مفهوما جديدا للشرعية بصفة معسكرة، حينما يضيف إليها وصف المسلحة.

ويترافق مع ذلك حديث لرأس ذلك الانقلاب، ناقلا ومستهينا وموجها كلامه إلى رئيس وزرائه التابع له: "معلش يا دكتور مصطفى المفروض يبقى فيه ضابط في كل قرية". وهو القائل إنه يستطيع في زمن قليل لا يتجاوز الساعات أن ينشر جيش مصر في قراها عرضا وطولا، على خلفية الاعتراضات التي تصاعدت جراء قرارات إزالة المباني بدعوى عدم وجود تراخيص لها.

هذه الأمور جميعا بعضها مع بعض، تؤكد أنها ليست مجرد تصريحات عابرة، ولكنها تصور من العسكر كيف يتحكمون في المجتمع وحياته المدنية. ولعل كل تلك الأمور ترتبط بالنظرة المتناقضة لكل من العسكري والمدني وأدوارهما في المجتمع، حينما كشفت عن ذلك الزيارة التي قام بها رأس الانقلاب لأحد المشروعات وأراد أن يعرب عن استيائه، فقال بملء فيه: "فين المدني اللي هنا؟"، وهو يعلم أن المكان فيه العديد من عساكره وضباطه الحاليين والسابقين، وهم من المؤكد من يتولون مناصب قيادية في هذا المكان، ولكنه يبحث عن ذلك الشخص المدني حتى يؤدبه ويكيل له كل تقييم سلبي، وكأن الموظف المدني هو المسؤول عن كل فشل داخل المجتمع ومؤسساته.

وفي مشاهد مقابلة سنرى هذه المفارقات المهمة حول تلك الأوصاف المتعلقة بفاجعة "عربة الترحيلات"، فإن الضابط ابن اللواء الذي قام بهذه الجريمة المنكرة، كان موضعا لحديث بين مدير مكتب السيسي آنذاك ومستشار المجلس العسكري للشؤون القانونية في حينه. وقد كشف تسريب شهير المحادثة التي جرت بينهما، حيث طلب مدير المكتب من المستشار القانوني أن يتدخل لدى القاضي لتخفيف عقوبة الضابط المجرم لأن "أبوه هيموت عليه".

هكذا كشف ذلك التسريب كيف يتصرف الانقلاب مع من قتل 35 نفسا بعد أن أطلق قنبلة غاز داخل عربة ترحيلات محكمة الغلق، وقد كانت تعبيرات ذلك الشخص كاشفة عن رؤيتهم للناس والمواطنين، حيث يقول له: "شوف لنا حكاية الضابط بتاع القضية اللي مات فيها حاجة وتلاتين بتاع"، بحسب ما ورد في التسريب.

قاتل يدلل ومقتول يستخف بحياته وروحه، إنها المفارقة التي تؤكد كيف أن هذا النظام المعسكر يرى المدنيين وأرواحهم أن لا وزن لها، أما ابن الباشا اللواء، فمن المفروض أن ننقذه لأن أباه "هيموت عليه"، ومن ثم كان ذلك ضمن منظومة لا تأبه بنفس المواطن العادي وكرامتها ولا بحياته وصيانتها. ومن ثم كانت تلك الحكاية التي تؤكد هذا التوجه، والتي تحدث فيها المنقلب في جمع من عساكره مطمئنا إياهم بأن من يقوم بقتل مدني فلن يحاسب (هناك مناخ جديد لن يكون المدني قادرا على الوقوف أمام الضابط أحمد، الذي يمكن له أن يستخدم الخرطوش أو الغاز في قتل أو إصابة المتظاهرين في أعينهم، وأنه لن يحاسب، وأن المتظاهرين أدركوا ذلك).

ويكمل هذه الصورة الدور الذي يقوم به القضاء في عهد الانقلاب، والذي يصدر أحكام الإعدام دون أي ضوابط قانونية أو دينية أو سياسية أو حتى عددية، فقد يبلغ المحكوم عليهم بالمئات دون أي مبالاة.

وفي إطار تأكيد هذا التصور العسكري للعلاقة بين المدني والعسكري، فقد تفتق ذهن العسكر لمواجهة الأزمات الكبرى في وزارة النقل فجاؤوا بعسكري لقيادة الوزارة، وكأنه هو القادر على مواجهة هذه الأزمات، على الرغم من أن الأجهزة المختلفة والمتنوعة في وزارة النقل تدار من قبل عسكريين سابقين.

ولكن استمرت الحوادث كما هي إن لم تكن قد زادت وتيرتها، ومع ذلك لم نجد من الوزير العسكري وإعلام السامسونج أي قدر من تحمل المسؤولية، بل وتم تحميل المدنيين المسؤولية كاملة في هذا الشأن، سواء باعتبار أن سلوكيات الناس هي السبب في الحوادث، أو العاملين في هيئة السكك الحديدية.

وقد تبنى الوزير مقولات "مكارثية" واتهم معظم العاملين في الوزارة بأنهم إخوان، وأوعز إلى مجلس الشعب لإصدار قانون لفصل الموظف بتهمة انتمائه للإخوان. ورغم ذلك استمرت الحوادث في الوقوع ولم يتحمل الوزير المسؤولية، بل إنه اعتبر أن مجرد مطالبة البعض له على مواقع التواصل الاجتماعي بالاستقالة هو أمر غير مقبول، وأنه رجل عسكري لا يمكن له الهروب من المعركة. فالوزير العسكري مستمر في منصبه بغض النظر عن الكوارث؛ لأن العسكري لا يهرب من ميدان المعركة. هكذا يعتبر الوزير نفسه في معركة مع الشعب المصري، هكذا يفهم مهام منصبه، لا باعتبار أنه يقوم بخدمة عامة قابلة للمساءلة والحساب!

تقع مثل تلك الأفكار في ذلك الباب المهم الذي يتعلق بالعلاقات المدنية العسكرية وعلاقته بمفهوم المواطنة؛ إنما يشكل في حقيقة الأمر مع تلك الحالة المعسكرة في الدولة والمجتمع أكبر خطر يمكن أن يمس عصب الحياة السياسية المدنية، ويجيّر كل مناحي وأنشطة المجتمع إلى تلك الحالة العسكرية المفروضة قسريا، وبما يؤكد أن تلك استراتيجية ممنهجة ضمن سيطرة العسكر على مناحي ومناشط الحياة كافة.

ولعل ما رصده الدكتور يزيد صايغ في دراسته الأخيرة وتعداد هذه المناشط المختلفة، يؤكد سيطرة العسكر على أنشطة مختلفة، خاصة تلك المتعلقة بمفاصل الاقتصاد، بل وكذلك كل مجالات الخدمة العامة التي تتعلق بمعاش الناس.

هذا الأمر الذي نشهده، إنما يشكل اعتداء على كل أصول الحياة المدنية، وبالضرورة تجفيف السياسة الحقيقية ومحاولة صياغة المجتمع على شاكلة المطالب العسكرية ورؤيتها لعملية تسيير حياة المجتمع والمواطنين. بل إن الأمر يتطرق إلى تلك الدُّور التي تقام فيها الأفراح والحفلات والمناشط التي تتعلق بخبز الكعك والبسكويت والسيطرة على سوق لبن الأطفال، وعلى قطاع من المستشفيات، فضلا عن ساحة المقاولات والبناء.

كل ذلك إنما يؤكد عملية الزحف المعسكر على كل المناشط التي يجب أن تقوم عليها قوى مدنية، ولكن تلك المصادرات الكبرى لكل أنشطة الحياة لمصلحة العسكر، وضمن تصورات لحياة مدنية معسكرة إنما تشكل عسكرة للقطاعات كافة؛ بل وتصدر قرارات تلو القرارات باعتبار مؤسسات معينة مثل الجامعات مناطق عسكرية، ضمن عملية السيطرة الكاملة على كل أنشطة المجتمع ومجالاته المتعددة وقطاعاته المنتجة، ليشكل ذلك استيلاء على الحياة العامة والمدنية بكامل تشكيلاتها ونشاطاتها.

ماذا يعني كل ذلك بالنسبة للمواطنة؟ يعني تحويل المواطنة المدنية إلى حالة معسكرة، وأنشطة الحياة العامة إلى مجالات معسكرة، وإلى المعنى الذي يتعلق بقيمة المواطن. فالموظف المدني هو قرين الفشل، والعسكري لا يخطئ ولا يحاسب، إنها حالة من العصبية والعنصرية، صارت تعشش في جنبات المجتمع بأسره لتهضم كل ما يتعلق بمعنى حقوق الإنسان وحقوق المواطنة، بل حتى المؤسسات السياسية صارت في التكوين والتشكيل من شأن الأجهزة الأمنية والمخابراتية، وبات الأمر شراكة بين العسكر في التحكم والسيطرة والأنظمة الأمنية والبوليسية التي تمارس أنواع قمعها كافة، فتصادر الحريات وتقوم بالاعتقالات وتروع المجتمع لتصنع منه مجتمع الخوف والفزع والترهيب.

كل ذلك يجعل المواطنة حالة معسكرة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقدم معنى لحياة مدنية أو لحياة سياسية، العسكرة صارت عنوانا للدولة والمجتمع وباتت العلاقات التي توطن لتلك المقولة أن "العسكر فوق الجميع"، وأن "المواطن بصفته المدنية لا ثمن له"؛ وأن استقرار حكم العسكر يمكن أن يطيح بالمواطنة والمواطن، كيانا وحياة ووجودا ومعاشا.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)