تحتل مسألة
الدستور إلى جانب البرلمان أهمية مركزية في تاريخ الحركة الإصلاحية
التونسية. وعند استعراض التاريخ التونسي المعاصر يلاحظ حجم التضحيات التي قدمها التونسيون عبر أجيال من أجل أن يكون لهم دستور يحمي حقوقهم، وأن يكون لهم برلمان يعبر عم إرادتهم وينقل مطالبهم.
جاء دستور 1959، أي دستور ما بعد الاستقلال، وبدل أن يكون ضامنا لأحلام تلك الأجيال، إذا به يحتوي على ثغرات قاتلة، وحتى المكاسب التي تضمنها أجهضتها ممارسة الحكم الفردي، وقضى عليه التنصيص على رئاسة الزعيم بورقيبة مدى الحياة.
ثم قفز الجنرال ابن علي إلى السلطة في غفلة من الجميع، فعمق الحكم الفردي، وحول البلاد إلى سجن كبير، وجعل من الدستور ورقة بالية لا قيمة لها بعد تعميق الفجوة بين النص والواقع.
عندما ظن الجميع أن قصة الدستور اكتملت، إذا بها تعود من جديد، حيث انطلقت المعركة الثانية حول البحث عن دستور آخر
بعد الثورة تحركت النخبة من جديد، وقررت التوجه نحو صياغة دستور بديل. عاشت البلاد لحظات غير مسبوقة من أجل بناء مرجعية دستورية جامعة، وموحدة للجميع. تابع التونسيون تلك المعارك الصاخبة من أجل التوصل إلى نص يحمي الحقوق، ويحقق التعايش رغم حدة الاختلافات واتساع رقعة التنوع.
عندما ظن الجميع أن قصة الدستور اكتملت، إذا بها تعود من جديد، حيث انطلقت المعركة الثانية حول البحث عن دستور آخر. قال الرئيس
قيس سعيد في آخر ظهور إعلامي وسياسي له: "نحترم الدستور لكن يمكن إدخال تعديلات على نصه"، مؤكدا أن هذا العمل يتم في إطار الشرعية واحترام القانون والدستور.
لماذا اضطر الرئيس لقول ذلك؟ لأن مستشاره وليد الحجام صرح لرويترز بأن هناك ميل لتعديل النظام السياسي، ربما عبر استفتاء ويُفترض تعليق الدستور وإصدار نظام مؤقت للسلطات. وأضاف الحجام بوضوح: "هناك ميل لتغيير النظام السياسي الذي لا يمكن أن يتواصل. وتغيير النظام يعني تغيير الدستور عبر الاستفتاء".
كان لهذا التصريح الوقع السيئ على معظم النخب التونسية التي انتقدت بشدة تصريحات المستشار، وطالبت الرئيس سعيد بنفي ذلك أو تأكيده. لهذا وجد الرئيس نفسه مضطرا للتخفيف قليلا من حجم الصدمة، وبدل أن يعلن كونه ينوي إيقاف العمل بدستور 2014، تحدث عن إدخال تعديلات عليه.
خالفه في ذلك بالكامل أغلبية أساتذة القانون الدستوري، كما تصدى له نواب البرلمان وكل الأحزاب السياسية تقريبا.
فحركة النهضة شددت على "رفضها القاطع لمحاولات بعض الأطراف المعادية للمسار الديمقراطي، وخاصة من بعض المقربين من رئيس الدولة، الدفع نحو خيارات تنتهك قواعد الدستور". وأوضحت أن "دستور 2014 مثل أساس التعاقد السياسي والاجتماعي وحظي بتوافق جل العائلات السياسية ورضى شعبي واسع، كما مثل أساسا للشرعية الانتخابية لكل المؤسسات التنفيذية والتشريعية بتونس". وحذرت الحركة من أن "هذا التمشي سيؤدي حتما بالنظام إلى فقدان الشرعية والعودة للحكم الفردي، والتراجع عن كل المكتسبات
الديمقراطية وضمانات الحريات وحقوق الإنسان".
من الأفكار الخاطئة الرائجة حاليا في تونس القول بأن الدستور الحالي هو دستور "حركة النهضة"، وهذه مغالطة كبيرة لا يمكن القبول بها أو تبريرها
كما دعا الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي "الديمقراطيين التونسيين" إلى ترك خلافاتهم جانبا للوقوف في وجه عودة "الدكتاتورية"، إذا تمّ تعليق العمل بالدستور. ورغم أن مواقف هذه الأطراف كانت متوقعة لأنها اعتبرت منذ البداية حركة 25 تموز/ يوليو "انقلابا"، إلا أن الأطراف الأخرى التي باركت تلك الحركة، واعتبرتها "تصحيحا للمسار"، كشفت اليوم عن موقف مغاير، وحذرت الرئيس من مغبة نسف الدستور، أو حتى مراجعته في غياب مشاركة جميع الأطراف، ودون الاستناد على برلمان منتخب. فحركة الشعب - على سبيل المثال - التي ساندت سعيد قلبا وقالبا، ارتفعت من داخلها أصوات ) النائب خالد الكريشي ( الذي أكد في تدوينة له على أن من " يتحدث عن تعديل الدستور في غياب مجلس النواب فهو واهم ".
من الأفكار الخاطئة الرائجة حاليا في تونس القول بأن الدستور الحالي هو دستور "حركة النهضة"، وهذه مغالطة كبيرة لا يمكن القبول بها أو تبريرها. فالمجلس التأسيسي الذي تم انتخابه وتعهد بصياغة الدستور الجديد؛ كان يمثل جميع الأطياف والأحزاب والمذاهب. وقد خاض الجميع معارك كبرى من أجل الوصول إلى صيغة مقبولة من الجميع.
يرتكب الرئيس سعيد خطأ فادحا لو أصر على الذهاب في هذا الطريق إلى الآخر. سيجد النخبة السياسية ضده، وسيعمق من حالة العزلة الداخلية والخارجية التي بدأت تهدده بجدية. إذا كان الشوط الأول من المغامرة قد خلق انقساما فعليا في صفوف النخبة، فإن إقدامه على تعليق الدستور ومحاولة جر البلاد نحو وثيقة بديلة من شأنه أن يخلق مشهدا مغايرا
وقد تصدت الجامعية والنسوية رجاء بن سلامة لهذه المغالطة عندما ذكرت الجميع بأن دستور 2014 "ليس دستور الإخوان إلا لفاقدي الذّاكرة أو عديمي الثّقافة الدّيمقراطيّة. إنه ليس دستور الإخوان لأنّ الإسلاميّين عجزوا عن جعله دستورا لدولة دينيّة". كما أضافت: "نعم هناك تناقضات ومواطن التباس في هذا الدّستور، لكنّ الطّعن فيه، وترذيله، والتّلويح بإلغائه، لإدخال البلاد في مجهول أخطر من المجهول الذي نحن فيه، فمرفوض، مرفوض".
يرتكب الرئيس سعيد خطأ فادحا لو أصر على الذهاب في هذا الطريق إلى الآخر. سيجد
النخبة السياسية ضده، وسيعمق من حالة العزلة الداخلية والخارجية التي بدأت تهدده بجدية. إذا كان الشوط الأول من المغامرة قد خلق انقساما فعليا في صفوف النخبة، فإن إقدامه على تعليق الدستور ومحاولة جر البلاد نحو وثيقة بديلة من شأنه أن يخلق مشهدا مغايرا، وسيجله يواجه جميع الأحزاب والمنظمات والمثقفين، وربما جزءا من الشارع الذي لا يزال يسانده وإن كان بحماس يفتر شيئا فشيئا.