منذ أن بدأت أعي بالشأن السياسي وأنا أسمع عن أزمة
القضاء ومعضلة استقلالية القضاة في
تونس. كنت يافعا حين تم إلقاء القبض على ابن عمي بتهمة الانتماء إلى خلية تابعة للحزب الشيوعي الممنوع من النشاط، وتمت محاكمته ضمن محاكمة مجموعة "آفاق" التي حاولت أن تؤسس لمنتدى سياسي معارض قائم على التنوع الأيديولوجي، وإن طغت عليه العناصر ذات التوجه اليساري. في تلك الأجواء كثر الحديث عن الأحكام الجاهزة، وعن تدخل السلطة التنفيذية بزعامة الرئيس بورقيبة في توجيه القضاة الذين يقبلون بوضع أنفسهم تحت تصرف السلطة في القضايا السياسية.
ازداد الأمر سوءا في ظل حكم الرئيس ابن علي، الذي استعمل القضاء بشكل فج من أجل تصفية خصومه واحدا تلو الآخر، لهذا سارعت معظم التيارات والأحزاب بعد الثورة إلى المطالبة بإصلاح القضاء وحمايته من كل أشكال التدخل في شؤونه.
تضمن الدستور تأكيدا واضحا على أن القضاء سلطة مستقلة؛ في الفصل 102 الذي ينص على أن "القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات"، كما أن "القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون". كما تمتع القضاة لأول مرة في تاريخ تونس بانتخاب
المجلس الأعلى للقضاء، وأعطيت لأعضاء هذا المجلس الحق في انتخاب رئيس للمجلس من بينهم، بعد أن كان رئيس الدولة هو الذي يحتكر رئاسة القضاة.
بقي الجسم القضائي يعاني من ظاهرة الفساد التي لا تزال متفشية بشكل واسع حسب شهادة القضاة أنفسهم. لهذا عندما ركز الرئيس قيس سعيد انتقاداته في الفترة الأخيرة على هذا الملف وجد تجاوبا واسعا من قبل الجميع. وانتظر الجميع أن يتخذ الرئيس إجراءات جذرية للقضاء على هذا الداء العضال، لكن ما حصل حتى الآن أثار المخاوف
مع ذلك بقي الجسم القضائي يعاني من ظاهرة
الفساد التي لا تزال متفشية بشكل واسع حسب شهادة القضاة أنفسهم. لهذا عندما ركز الرئيس
قيس سعيد انتقاداته في الفترة الأخيرة على هذا الملف وجد تجاوبا واسعا من قبل الجميع. وانتظر الجميع أن يتخذ الرئيس إجراءات جذرية للقضاء على هذا الداء العضال، لكن ما حصل حتى الآن أثار المخاوف، إذ بدا وكأن قيس سعيد يريد أن يتولى بنفسه في ظل المرحلة الاستثنائية
التدخل في القضاء من أجل إعادة هيكلته وفق منظوره الخاص، وأن يدفع بالقضاة نحو فتح ملفات
خصومه السياسيين من خلال إيقافهم ومحاكمتهم بحجة كونهم يشكلون "خطرا داهما على الدولة والشعب".
الرئيس سعيد في حاجة مؤكدة للقضاء من أجل الوصول إلى هدفه الكبير، والذي يتمثل في تغيير جوهري ليس فقط للنظام السياسي، وإنما أيضا التخلص من المنظومة السائدة بكل مكوناتها. وهي منظومة لا تعود فقط إلى تاريخ اندلاع الثورة، وإنما تمتد إلى تأسيس الدولة الوطنية. إذ عبر القضاء يمكن محاكمة أو إبعاد المتحكمين في المنظومة ورموزها، وبالتالي خلق الفراغ الذي سيتولى ملأه بمؤسسات بديلة وبمسئولين جدد؛ ولاؤهم للرئيس وحده.
سعيد في حاجة مؤكدة للقضاء من أجل الوصول إلى هدفه الكبير، والذي يتمثل في تغيير جوهري ليس فقط للنظام السياسي، وإنما أيضا التخلص من المنظومة السائدة بكل مكوناتها. وهي منظومة لا تعود فقط إلى تاريخ اندلاع الثورة، وإنما تمتد إلى تأسيس الدولة الوطنية
المعضلة التي تواجه قيس سعيد حاليا أن المؤسسة القضائية بدأت تتململ وتبدي اعتراضات جوهرية وليست فقط شكلية. فرئيس المجس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر أعلن صراحة أنه "بات من الواضح أن رئيس الجمهورية سيصدر مرسوما متعلقا بالمجلس الأعلى للقضاء"، وإذا اتجه هذا المرسوم إلى إلغاء المجلس الأعلى للقضاء "فهو تدخل في القضاء"، وذلك يعني "إلغاء للضمانات الممنوحة للقضاة وإلغاء للباب المتعلق بالسلطة القضائية في الدستور، وله تأثير مباشر على باب الحقوق والحريات باعتبار أن القاضي هو الحامي للحق والحرية".
في نفس السياق، أكد رئيس جمعية القضاة التونسيين على أن الإصلاحات العميقة "تبقى من مسؤوليات السلطة الدائمة ومجلس نواب الشعب، وهي إصلاحات تمس الأشخاص والمؤسسات والتشاريع، ولا يمكن المضي فيها كلها خلال وضع استثنائي".
واعتبر الحمايدي أن مؤسسة المجلس الأعلى للقضاء "ترتبط بمؤسسات النظام الديمقراطي، وإلغاؤه يمثل خطرا على استقلال القضاء والحقوق والحريات".
ستحمل الأسابيع القادمة إجراءات جديدة تتعلق بالمؤسسة القضائية تحديدا، والتي تجد نفسها اليوم أمام تحديات كبيرة. فهي من جهة مهددة في استقلاليتها النسبية، خاصة في حال صدور مرسوم جديد يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء وإعادة هيكلته وفق تصور بديل، وهو ما يقتضي التصدي لذلك بشكل قانوني ومؤسساتي
معركة قيس سعيد مع المؤسسات القائمة متواصلة، لكنه لا يعبأ كثيرا بالاحتجاجات والاعتراضات المتواصلة والصادرة عن أكثر من جهة. ستحمل الأسابيع القادمة إجراءات جديدة تتعلق بالمؤسسة القضائية تحديدا، والتي تجد نفسها اليوم أمام تحديات كبيرة. فهي من جهة مهددة في استقلاليتها النسبية، خاصة في حال صدور مرسوم جديد يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء وإعادة هيكلته وفق تصور بديل، وهو ما يقتضي التصدي لذلك بشكل قانوني ومؤسساتي حتى تحمي ذاتها من أي توسع محتمل للسلطة التنفيذية.
من جهة أخرى، القضاة مدعوون في نفس الوقت إلى تحمل مسؤولياتهم في مقاومة الفساد، من خلال القيام بإصلاحات ذاتية جدية تعيد لهم الاعتبار، وتثبت مدى استعدادهم للقيام بهذه المهمة قبل أن يتولى رئيس الدولة قلب الطاولة عليهم، وتغيير موازين القوى في صفوفهم، والتدخل في شؤونهم رغما عنهم، وبالتالي يعطونه المبرر لفرض نوع من الوصاية عليهم، عندها سيجد تأييدا واسعا من قبل المواطنين. فالجميع يريدون التخلص من قضاء فاسد؛ لأن العدل هو أساس العمران.