نستكمل اليوم حديثنا عن الحكام العرب، وكيف يحققون هدفهم في السيطرة على الحكم، لكي يبقوا على عروشهم إلى الأبد، مهما كلف الأمة ذلك من خسائر، ومهما نتج عن ذلك من الكوارث.
* * *
رابعا: السيطرة على السلطة القضائية
معركة الحاكم مع القاضي قديمة قدم التاريخ، فالقاضي هو ملجأ الضعيف، وذخر العوام ضد بعضهم، وضد حاكمهم. والحكام العرب يعلمون جيدا أن
القضاء سلاح لا بد أن يكون في جعبتهم، لذلك لا يكتفون أبدا بتحييده.
يبدأ الحاكم العربي حكمه بتحييد القضاء، لكي يصل إلى الهدف الكبير، وهو إخضاع السلطة القضائية بشكل كامل.
بعكس الجيش والشرطة ومؤسسات القوة.. يستغرق إخضاع القضاء زمنا أطول، لأن المؤسسة القضائية بطبيعتها تعمل على تطهير نفسها بشكل دوري، ولأن طبيعة المنتمين لها من المتعلمين والمثقفين وليس من سفلة القوم كالجيش والشرطة، ولأن شيوخ السلطة القضائية يكون لهم دائما من المرجعية ما يمكنهم من إبطاء عملية السيطرة الحكومية، لذلك لا يمكن السيطرة على جهاز القضاء منذ الجيل الأول، بل يستغرق الأمر جيلين أو ثلاثة، وتبقى السيطرة غير مكتملة في جميع الأحوال.
مع مرور الوقت يتمكن المستبد من سن التشريعات التي تزيد من تبعية السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية، ويتحول جهاز القضاء إلى مجموعة من المخبرين والضباط، ينفذون ما يؤمرون به، حتى لو كان في ذلك مخالفة وقحة صفيقة لمبادئ القانون
ولكن.. مع طول بقاء المستبد في موقعه، يتغير كل شيء.
أول ما يفعله المستبد هو أن يسيطر على القضاة ماليا وماديا، من خلال تسليط مؤسسة ما (وزارة العدل عادة) على القضاة. بالسيطرة المالية يُعَسِّرُ حياة المستقلين من القضاة، ويُيَسِّرُ حياة الموالين، وهذا أول الخيط.
من أكثر الأسباب التي تُصَعِّبُ على الحاكم السيطرة على القضاء هو أن القاضي لا تُعرَف حقيقة اتجاهاته وأفكاره إلا بعد أن يتم تعيينه بسنوات طوال، حين يبدأ بإصدار الأحكام، وبالتالي حين تظهر حقيقة القاضي المحترم يكون قد أصبح في مركز قوة، وله أسبقيات، ووضع قائم بالفعل في مركزه.
لذلك يتخذ المستبد إجراءات كثيرة لمنع تسلل المحترمين إلى تلك المواقع، وذلك من خلال إقحام الموافقات الأمنية على التعيين، وعلى الانتقال، وعلى كثير من الأشياء، كالانتداب، والإعارة، والإجازات المفتوحة.. بذلك يتمكن من مكافأة القاضي الموالي، ومعاقبة القاضي المستقل.
مع مرور الوقت يتمكن المستبد من سن التشريعات التي تزيد من تبعية السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية، ويتحول جهاز القضاء إلى مجموعة من المخبرين والضباط، ينفذون ما يؤمرون به، حتى لو كان في ذلك مخالفة وقحة صفيقة لمبادئ القانون.
السلطة التنفيذية بعد مرور السنين تتحكم في كل من يتم تعيينه في جهاز القضاء من خلال توريث المنصب، ومن خلال تحويل الضباط إلى قضاة، وتتحكم في مرتب القاضي، وفي معاشه بعد أن يتقاعد، تتحكم في إجازاته وإعاراته، تتحكم في نقله من إدارة لأخرى، وفي انتقاله من منطقة لأختها، والأهم من ذلك أنها تستطيع أن تقيله من منصبه بعد أن تلفق له (عن طريق زملائه من القضاة) تهما مخزية.
من أهم ما يلجأ له الحاكم أن ينشئ مؤسسات قضائية فوقية، قضاء أعلى من القضاء.. محكمة عليا، وهذه المحكمة يكون لها الكلمة العليا، وبالطبع يكون التعيين فيها للقضاة الموالسين.. في مصر يسمونها "المحكمة الدستورية"، وهي مجرد مجموعة من المخبرين، وتعيينهم في مواقعهم مكافأة من الحاكم لشخص فاسد، لكي يستمر في فساده وإفساده.
ورغم كل ذلك.. تجد الحاكم العربي يعطي نفسه الحق في فرض قانون الطوارئ، وفي فرض محاكم استثنائية، وذلك خوفا من احتمال واحد في الألف.. أعني أن يكون هناك قاض شريف ما زال يجلس على منصته.
هل يتمكن الحاكم بعد كل ذلك من التحكم في السلطة القضائية؟
الإجابة أنه لا يتحكم في كل القضاة، ولكنه يفسد السلطة نفسها، يفسد أعرافها وقيمها، بحيث يصبح القضاء مؤسسة ملوثة، لا يمكن تقويمها ذاتيا، ويصبح استقلال القضاء تحصينا للفساد والفاسدين أكثر منه تحصينا للقاضي.
* * *
خامسا: السيطرة على المؤسسات الدينية
المؤسسات الدينية في الوطن العربي شديدة الأهمية، والمستبد يعلم ذلك جيدا!
السيطرة على المؤسسة الدينية تعني أن تقوم بمهمتين.. الأولى: أن تؤيد الحاكم تأييدا مطلقا، وتأييد المؤسسة الدينية لا بد أن يستند لأساس ديني.. فهو ليس تأييدا بمنطق الديمقراطية مثلا، بل لا بد أن يستند إلى منطق ديني شرعي.
لا بد من إسباغ طابع ديني على رأي المؤسسة الدينية في معارضة الحاكم، وهو طابع سلبي بالطبع، يبدأ بالفسق، وينتهي بالكفر واستباحة الدم
فإذا كان الحاكم من سلالة بيت النبي (أو يزعم ذلك) فلا بد أن تظهر المؤسسة الدينية تأييدها بناء على ذلك، وإذا كان له شرعية أخرى (وأد الفتنة.. منع التطرف.. القضاء على المذاهب الأخرى.. محاربة الاستعمار) فلا بد للمؤسسة الدينية أن تفلسف وجود الحاكم وشرعيته بالدين.
أما المهمة الثانية: فهي شيطنة أو تكفير أو تفسيق المعارضة..
ولا بد من إسباغ طابع ديني على رأي المؤسسة الدينية في معارضة الحاكم، وهو طابع سلبي بالطبع، يبدأ بالفسق، وينتهي بالكفر واستباحة الدم.
* * *
سادسا: السيطرة على الإعلام
من أسهل المجالات التي تتحكم فيها الأنظمة العربية هو الإعلام..
والسبب في ذلك أن بداية
الاستبداد في الوطن العربي كانت مع بداية اختراع وانتشار وسائل الإعلام (التلفاز بالذات)، وبالتالي كانت في قبضة الدولة من البداية.. جهاز التلفزيون أصلا تأسس في عهد الانقلابات العسكرية العربية، وبالتالي هو مثل خضراء الدمن؛ بذرته خبيثة، وأساسه الكذب، وديدنه النفاق منذ يومه الأول.. بقية الوسائل الإعلامية كالصحف وغيرها لم يستغرق تأميمها وقتا يذكر، وأصبحت أهميتها في الدرجة الثانية منذ اخترع جهاز التلفاز.
المؤسسات الإعلامية ما قامت ولا تأسست إلا من أجل السيطرة على الناس، وما أشرف عليها إلا أجهزة التخابر والمؤسسات الأمنية.
المؤسسات الإعلامية ما قامت ولا تأسست إلا من أجل السيطرة على الناس، وما أشرف عليها إلا أجهزة التخابر والمؤسسات الأمنية
لذلك ستجد أن الأصل في الإعلامي أن يكون مخبرا مواليا للمستبد.. وما غير ذلك هو الاستثناء، وكلما ارتقيت في السلم الوظيفي داخل هذه المؤسسات أصبح وجود الشرفاء داخلها أصعب وأصعب!
هناك اتجاهات سياسية يمنع أتباعها من التعيين بالمطلق، ولم يتمكن من الدخول من المنتمين إليها إلا استثناءات محدودة.
من أكبر إنجازات الثورات العربية أنها فتحت سماء الإعلام، وهو أمر عجز الطغاة عن إغلاقه حتى الآن (بسبب تطورات تكنولوجية خارجة عن إرادتهم).
بالسيطرة على الإعلام يتم تغيير الخريطة الذهنية للمواطن، فتزرع فيه أفكار خبيثة جديدة، وتقتل فيه أفكار نافعة أصيلة، ويتغير في ذهن الناس الصواب والخطأ، والحلال والحرام، والممكن والمستحيل (يصبح التغيير مستحيلا.. يصبح تدميرا للدولة والأمة).
ومن أهم ما يتم غرسه احتقار الإنسان لنفسه، فردا وجماعة.. وبهذا تغرس العدمية في نفوس الشباب، وتصبح المقاومة عبثا.
إن انتقاء الإعلاميين يمتد ليصل إلى انتقاء الذين يطلون على الشاشات كضيوف، أو يملكون حق الكتابة في صفحات الرأي بشكل دوري أو شبه دوري.
* * *
لا يفوتني أن أشكر تفاعل القراء مع هذه السلسلة.. وبإذن الله نختم في الأسبوع القادم..
twitter.com/arahmanyusuf
موقع الكتروني: www.arahman.net