هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مقدمة:
ظل التوحيد منذ بداية تاريخ الإسلام، موضوع قراءات متعددة، انطلقت في عصر التدوين وقبله وبعده، مع المتكلمين والصوفية والمتفلسفة، وامتد الاختلاف بين هذه القراءات، بفعل دخول عامل السياسة، حتى أضحى الجدل بين العقيدة والسياسة، محور التعليقات الفكرية التي صدرت عن مفكري الإسلام في مختلف حقول المعرفة الإسلامية.
لكن، في العصر الراهن، وبعد تطور العلوم الاجتماعية، أضحى التوحيد محورا مركزيا في انشغالات علم الأديان، وبشكل خاص، علم الأديان المقارن، وخاض مفكرو الإسلام المعاصرون، "حروبا" علمية وأكاديمية لإدخال التوحيد القرآني في الدراسات المقارنة، وتبنى بعضهم مناهج علمية مبتكرة في البحث والممارسة النقدية، ساعدت في تحقيق تراكم معرفي، فما قام به إسماعيل الفاروقي، في دراسته المقارنة للأديان، فجر النسق المعرفي المسيطر أكاديميا في الأوساط الأمريكية، وخلق الكثير من المتاعب للباحث الفلسطيني، الذي حمل هم "إسلامية المعرفة" و"نقد التحيز الغربي" بشكل مبكر في سبعينيات القرن الماضي.
غير أن التحديات الأكاديمية والمعرفية التي فجرها العصر الراهن، لم تكن وحدها مصدر الطلب على التوحيد، ومبرر البحث عن نموذج نظري للمواجهة المعرفية والأكاديمية، فالأمر لا يتوقف عند هذه الحدود الأكاديمية، فسجالات القرن الماضي، لم تعد تأخذ اليوم نفس المساحة السابقة، بل أخذت مكانها إشكالات أخرى أكثر خطورة، مما يرتبط بتأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، والثورة الرقمية، وتأثير كثافة التواصل والصورة، ودورها في صناعة الأفكار والتمثلات والعقائد، بل وفي تكييف الأذواق وتنميط النفسيات، وصناعة الأوهام وترسيخها، وخلق حالة فكرية متحكم فيها، يتم تغييرها وتعديل وجهتها كل حين.
هذه التحديات الخطيرة، عززت من جديد الطلب على التوحيد، ليس فقط كنسق تصوري قادر على ممارسة الجدل (علم الكلام) أو كنموذج للحقيقة قادر على خلق المفارقة مع الواقع ومعزز لعدم الارتهان (التصوف) أو كنموذج برهاني قادر على التعايش مع الخبرة العقلية (التفلسف)، وليس أيضا كنموذج معرفي، يمتلك القدرة السجالية والنقدية لمحاورة الخبرة الدينية السابقة (علم الأديان المقارن)، وإنما كمنهج صانع للمعنى والقناعة ومكيف للذوق والاختيار وصانع للثقافة (المهمة الجديدة المتجددة للتوحيد).
هذا التطور، وإن اختلفت مساراته في حقول مختلفة، إلا أنه يعكس تطورا تاريخيا، يعكس منحنى التوحيد في سياق حضاري، يبتدئ من لحظة الذروة، أي لحظة التوحيد كصانع للحضارة (في البدء كانت العقيدة)، ثم لحظة سقوط ركن أساسي في البناء الحضاري، هو الكيان السياسي المعياري للأمة (الحكم الراشد)، لتدخل معه العقيدة في تكيفات السياسة الداخلية وصراعاتها (علم الكلام والتصوف)، وتفاعلاتها مع الخارج (الفلسفة ومنتجات العقل اليوناني)، لتعبر لحظة (النموذج المعرفي التوحيدي) عن الحاجة لإثبات الوجود بعد تراجع دور العقيدة في الواقع وهيمنة المناهج الغربية على كل الحقول المعرفية، ثم ليطرح بعد ذلك سؤال وظيفة التوحيد في العصر الراهن بعد الثورة المعلوماتية والرقمية، وتأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، ودورها في صناعة فكر الإنسان وترسيخ نمط ثقافي حاكم له (مهام التوحيد المعاصرة).
في البدء كانت العقيدة:
ربما كان سيد قطب رحمه الله من أكثر مفكري الإسلام الذين انشغلوا بمناقشة مفهوم العقيدة، وإن كان يحرص على استعمال لفظة التصور الإسلامي للإنسان والحياة وغاية الوجود الإنساني. ومع أن الانتقادات التي طالت أفكاره اتجهت إلى فهمه السياسي للتوحيد، كونه حاول أن ينطلق من مفهوم الحاكمية، ليبني عليها تصوره السياسي، الذي يتأسس على تشخيص الأنظمة، ثم المجتمعات، إلى جاهلية، إلا أن الجانب الأقوى في تناول هذا المفكر، هو أنه حاول أن يقرأ مفهوم العقيدة، ضمن سياقه الوظيفي، مركزا على أثر العقيدة، ودورها في صياغة الإنسان وفكره وسلوكه ومنهجه في التفكير ودوره في الحياة، متجنبا الخوض في الجدليات التي تم توارثها عن معارك علماء الكلام، ومركزا على الأثر الواقعي للعقيدة في العقل والنفس والإرادة الإنسانية.
وبغض النظر عن الإحالات السياسية لهذا المفهوم، والفهم الحركي الذي أضفاه عليه، إلا أن توجيهه لنصوص التوحيد في تفسيره "في ظلال القرآن" حاولت جهد الإمكان الانضباط للفهم القرآني للتوحيد، وأثره في الحياة. وقد لفت الدكتور لؤي صافي إلى هذا الفهم الذي كان مقصودا للشارع في التوحيد، إذ لم يقصد بالعقيدة مجرد تصورات ذات طبيعة نظرية محضة، منفكة عن الحياة العلمية للفرد والمجتمع، بل قصد من التوحيد، ترسيخ منظومة من التصورات الهادفة إلى التأثير في الفعل الإنساني، من خلال مجموعة من القيم والمبادئ الحاكمة، التي تنبثق من هذه التصورات وترتكز عليها.
ومع تأكيد لؤي صافي على الأثر السياسي للعقيدة، والفهم السياسي المبكر لوظيفة العقيدة، إلا أن التمييز يفرض نفسه، بين الأثر الطبيعي الذي ينتج عن العقيدة، دون أن يتم شحن معناها بالدلالة السياسية كما فعل سيد قطب، وبين ترسيخ عقيدة التوحيد بالمعنى القرآني، وترك الأثر السياسي الذي تنتجه لإرادة الخالق.
لقد أدركت قريش ابتداء الأثر السياسي للعقيدة، وأن مفهوم التوحيد إذا ترسخ في الواقع، وتوسعت قاعدته الاجتماعية، سينتج عنه ضرورة قلب الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكن لم يثبت في نصوص الشارع، ولا في فهم النبي وأسلوبه في التنشئة العقدية، أن تم ربط الفهم العقيدي للتوحيد بهذه الآثار، وإنما نتجت ضمن معادلة عقدية منضبطة، تقوم على طرفين: يكون فيه الالتزام بالعقيدة فعلا إنسانيا، بينما يبقى ترتيب الأثر عن ذلك، من صنع الله، دون حاجة إلى جعل التنشئة الاعتقادية مشحونة بالوظيفة السياسية، لأن الغاية من العقيدة في التصور الإسلامي هي الله، بينما تحرف التنشئة الاعتقادية ذات الوظيفة السياسية مفهوم التوحيد، وتجعله أداة للوصول إلى الحكم.
العقيدة والسياسة:
كثيرون حاولوا في قراءتهم لاشتداد الجدل العقدي في بداية تاريخ الإسلام أن يجعلوا من السياسة سببا في تكييف الجدل العقدي، وأن الصراع بدأ سياسيا، ثم أخذ تمظهرات عقدية، حيث أضحت العقيدة المسرح الأوسع الذي تتجلى فيه الصراعات السياسية، حتى انتهى الجابري في خلاصاته، إلا أن حقل العقيدة والكلام، كان بمثابة البنية الفوقية التي تخفي حقيقة الصراع السياسي بين الأطراف المتنازعة.
ومع أن هذا الفهم يصدق في كثير من الحيثيات على أطراف مهمة من هذا الصراع، إلا أنه من الجدير أن نلاحظ أن بداية الصراع السياسي في تاريخ الإسلام وأصله، أي ما بعد مقتل عثمان والخلاف على بيعة علي، لم يترتب عنه أي خلاف عقدي، ولم تباشر الأطراف المتنازعة أي لجوء لحقل العقيدة للتزود بالحجج، أو التغطية على الصراع السياسي، والتمويه عليه، وتصويره كما ولو كان مجرد صراع عقدي.
يسجل عدد من الدارسين، ومنهم، الدكتور لؤي صافي، أن الصحابة رضوان عليهم، منذ بداية الاعتراض على بيعة علي، أبقوا الصراع في إطاره القانوني الدستوري، ولم ينقلوه إلى صراع عقدي، يستعمل فيه التوحيد لتقوية هذا الطرف أو ذلك، أو لسحب المشروعية عن هذا الطرف أو ذاك، بل بدأ استخدام التوحيد وحقل العقيدة مع الخوارج، وتشكيلهم لفرقة سياسية متميزة، تنطلق من الآية "إن الحكم إلا لله" مرتكزا لرفض التحكيم، وتكفير طرف من أطراف الصراع السياسي (معسكر معاوية) فضلا عن الحكمين اللذين قبلا قواعد التحكيم، وباشراه بشكل عملي (عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري)، إذ أفضت هذه التصورات الجديدة، التي أضفيت على الصراع السياسي بعدا عقديا، إلى إدخال العنف السياسي كأحد أدوات تسوية النزاع، فقام الخوارج بقتل علي بن أبي طالب ابتداء، ثم انتقلوا بعد ذلك، إلى قتال معاوية، ليؤول الأمر بهم إلى تشكيل فرقة سياسية تطلب الحكم.
لؤي صافي
وفضلا عن هذه البداية التي تصرف فيها الصراع السياسي في حقل التوحيد، جاءت بداية أخرى، مع الشيعة، الذين تبلور مذهبهم مع ترسخ الحكم الأموي، وانتقل من المطالبة بشرعية علي، إلى المطالبة بشرعية انتقال الحكم إلى أهل بيته، من الحسين بن علي إلى أبنائه وأحفاده من الأئمة الاثني عشر.
تركزت مقولة الشيعة، على اختلاف مذاهبهم، على مقولة عقدية تأسيسية، هي أحقية علي بالخلافة بناء على الوصية، وأن الحكم يبقى في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس قضية مصلحية تناط باختيار العامة، بل هي قضية تدخل في أصول الدين (الإمامة)، وهي ركن الدين وأساسه المتين، وأنها قضية نصية، لا مجال لتحكيم العقل والمصلحة فيها، بالنظر والتقدير والاختيار، وأن الأمر محسوم دينيا وليس متروكا للعامة.
وهكذا دخلت "الإمامة" في صلب الجدل السياسي، وصارت مع الشيعة، بل وحتى مع الشيعة قضية دينية، تندرج ضمن أصول الدين، وليست فقط قضية فرعية، مصلحية، تحسمها الأمة بالتقدير المصلحي، واعتماد الآليات التي تراها مناسبة للإجابة عن الفراغ الدستوري والقانوني.
غير أن هذا الصراع السياسي، الذي أقحمت فيه العقيدة تحكما، أخذ أشكالا مختلفة، لحظة الانفتاح الثقافي على الوافد الأجنبي، والاحتكاك مع مخرجات العقل اليوناني، فانبرى علماء الكلام إلى التصدي لهذه المخرجات، محاولين تقديم قراءة لنصوص التوحيد تسعف في المجادلة مع الغير، والدفاع عن عقيدة الإسلام، فكانت هذه الممارسة في البدء معرفية بالأساس، تدور حول ذات الله وصفاته، وكسب الإنسان، وهل هو من اختياره أم يعود إلى قدر الله، لكنها لم تخل من الالتباس بقضايا السياسة، فالسجالات الكلامية التي دارت حول حكم مرتكب الكبيرة، وأيضا حول تجويز خطأ الصحابة، الذين اشتركوا في حروب الفتنة، لم تكن بعيدة عن حقل السياسة، فسواء منهم الذين كفروا مرتكب المعصية، أو الذين نسبوه إلى المعصية والفسق، أو الذين أرجأوا أمره إلى الله، أو الذين قالوا بالمنزلة بين المنزلتين، فكل هؤلاء، لم تكن أحكامهم بعيدة عن خدمة الأطراف السياسية المتصارعة.
وحتى قضية خلق القرآن، التي تبدو في جوهرها قضية معرفية محضة، لم تكن في الظاهر سوى صدى لحاجة السلطة في تصفية خصوم سياسيين بالاستعانة بأطراف سياسية خادمة (المعتزلة).
في المحصلة، يمكن اختصار المسار الذي أخذه مفهوم التوحيد ضمن هذه الديناميات إلى ثلاثة متجهات، الأول، يستعين بالعقيدة لبناء مشروعية سياسية، والثاني ينقل التوحيد إلى أقانيم معرفية معاصرة بهدف المجادلة مع مخرجات العقل اليوناني، مع التكيف مع مواضعاته، والثالث، هو التوظيف السياسي للتوحيد من قبل السلطة لإدارة التوازن السياسي.
ومع أن الأول والثالث، يشتركان في التوظيف السياسي للتوحيد، إلا أنهما يختلفان في الموقع الذي يتم فيه هذا التوظيف، ففي الأول، تبني الجماعة السياسية، مشروعيتها من الانتظام في قراءة معينة للتوحيد، في حين، لا تستعين الدولة بالتوحيد لاكتساب مشروعية سياسية، بل تستعين بفرقة عقدية، لتقوية نفوذها لصد خصم سياسي مفترض، يؤسس أطروحته السياسية، على فهم عقدي، ينتهي مفعوله إلى نقض شرعية السلطة القائمة أو التشكيك فيها وإضعافها أو المس بصورتها.
النموذج المعرفي التوحيدي:
يقدم إسماعيل الفاروقي نموذجا بارزا في تقديم قراءته للمهمة الجديدة للتوحيد، فإكراهات الهيمنة الفكرية، وحضور الخلفية الغربية في المناهج العلمية التي تدرس العلوم الاجتماعية، وسيطرة هذه المناهج حتى على الحقل الأكاديمي العربي، دفع الفاروقي وغيره، إلى طرح مشروع "إسلامية المعرفة"، والتأسيس له، بمشاريع "نقد التحيز في المناهج الغربية" الدارسة للعلوم الاجتماعية.
في هذا السياق قدم الفاروقي، مشروعه، الذي برز في عدد من كتبه، وخاصة كتابه "التوحيد" وكتابه "الأخلاق المسيحية".
انطلق مشروع الفاروقي في نقد الأديان من مطلبين منهجيين أساسيين: الأول، هو فك الارتباط والانخراط في الظاهرة الدينية، ويعني به أن على الباحث أن يضع معاييره أو معايير دينه أو ثقافته بعيدا، وأن ينخرط من داخل الظاهرة الدينية ويكتشف منطقها من الداخل. والثاني، هو وضع مبادئ لفهم الدين وتقييمه، فعملية فهم الدين حتى تكون موضوعية، لا بد لها أن تكون مؤطرة بقواعد ومبادئ موضوعية عقلانية.
إسماعيل الفاروقي
انطلق الفاروقي في قراءته للمنظور الفلسفي للتوحيد من أربع مقولات تأسيسية، اعتبر في الأولى، أن الأديان كلها من أصل واحد، وافترض في الثانية، أن كل دين صحيح ينتسب إلى الدين الأصلي الواحد، إلا أنه يتأكد تاريخيا أنه قد لابسته إضافات من صنع البشر أو هو من صنع البشر أصلا، ورفض في الثالثة، إدانة أو اتهام أي دين، ما دام من الضروري افتراض صحة الأديان بحكم كونها من مصدر واحد، وما دام لم يتأكد عبر النقد تلبسها بالإضافات البشرية أو كونها من صنع بشري. وأما المقولة الرابعة، فقد خصصها لبيان أهمية العقل، واعتباره أداة لنقد الأديان وتقييمها، والنظر في مدى صحة انتسابها إلى الدين الأصلي، أم انزياحها عنه بسبب الإضافات البشرية التي صاحبت تطوره التاريخي.
وقد وضع الفاروقي خمسة مبادئ موجهة للفهم الديني، حاول صياغتها بشكل فلسفي، حتى تصير نموذجا يستعان به في فهم كل الأديان. فاشترط في الأول، الانسجام الداخلي، أي خلو النسق الديني من التناقض أو الاختلاف بين مكوناته وعناصره، واشترط في الثاني، الانسجام مع المعرفة الإنسانية المتراكمة، واشترط في الثالث، اتساق الحقيقة الدينية مع الخبرة الدينية الإنسانية، وفي الرابع، الانسجام والمناسبة للواقع الواقع. واشترط في الخامس، مبدأ الهدف الحق، أو خدمة الدين للأخلاق والخير والقيم العليا.
تبدو هذه الصياغة أكاديمية معرفية غير ذات تأثير، لكن مترتباتها في الواقع، وفي خضم التفاعل الحضاري والثقافي والديني، كانت أقوى من المتوقع، فقد أظهر هذا النموذج نتيجتين خطيرتين، الأولى، ظهرت مع كتابه "الأخلاق المسيحية"، وفيها طبق نموذجه على الأديان، وبشكل خاص المسيحية، وأما الثانية، فظهرت مع كتابه "التوحيد" الذي طبق فيه منهجه على العقيدة الإسلامية، مستنتجا تمتعها بالمعيارية والتماسك الداخلي والاتساق مع المعرفة الإنسانية ومع الخبرة الدينية ومع الواقع، فضلا عن رعايتها لمبدأ الهدف الحق، ليخلص من ذلك إلى أهمية ممارسة الصراع المعرفي، من خلال تقديم أطر منهجية جديدة، تنطلق من فلسفة التوحيد كما رسمها الإسلام، وتنتقد التحيز الغربي، وتضع مشروعا معرفيا جديدا يطال كل حقول المعرفة الإنسانية والاجتماعية.
مهام التوحيد المعاصرة
وإذا كانت لحظة الفاروقي فكرية ومعرفية بامتياز، تشير إلى التحدي الفكري، الذي مثلته الثقافة الغربية وخلفياتها الفلسفية، وانعكاس ذلك على مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، فإن اللحظة الراهنة، أضحت أكثر تعقيدا، بحكم أن الأمر لم يعد يقتصر على تحديات بناء مناهج منافسة بخلفية موضوعية غير متحيزة، يكون منطلقها الرؤية التوحيدية، وإنما الأمر صار يتعلق بثورة تكنولوجية رقمية تواصلية معلوماتية، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، واضطلاع الهاتف النقال، بدور مركزي في حياة الإنسان، في صناعة فكره واختياره وذوقه وتكييف نمط حياته وصياغة ثقافته.
لقد أفضت نتائج هذا التطور التكنولوجي الرقمي إلى تغيرات قيمية ضخمة، أفضت إلى تحول مفاهيم مركزية صنعتها عقيدة التوحيد، وترسخت في ذهن المسلم تاريخيا، فكان نصيبها الاهتزاز، إذ تم المس بشبكة من المفاهيم والقناعات والتصورات التوحيدية المركزية.
لقد خلقت شبكات التواصل الاجتماعية، وجملة التطبيقات المعاصرة، عبر استثمار الصورة، مفاهيم جديدة، تنتسب كلها إلى مجال الاستهلاك، بحيث أضحى مفهوم الرضا والقناعة المرتبطة بعقيدة التوحيد، تعبر عن نمط ماضوي في تمثلات المستهلك المسلم.
ولم يعد خطر هذه التحديات يقتصر على ترسيخ مفهوم جديد للنوع (الجندر)، وتدمير مفاهيم الخصوصية والوظيفية بين الجنسين، بل اتجه إلى ضرب كل المفاهيم التوحيدية التي تؤطر نمط العلاقات داخل المجتمع المسلم، سواء منها التي تربط علاقة الرجل بالمرأة، أو علاقة الزوج بالزوجة، أو علاقة الأبناء بالآباء، أو غيرها من علاقات العلم والعمل والجوار، بل طال الأمر حتى علاقة الإنسان بنفسه، بعد بروز مفهوم الحق في الجسد، وتم الاشتغال بكثافة على مفهوم الحرية، وبشكل خاص، الحرية الفردية، حتى أضحت مختلف الشبكات المفاهيمية المرتبطة بعقيدة التوحيد، تواجه عملية دك الحصون، مما يبرر الحاجة إلى علم توحيد جديد، ينصرف إلى مواجهة هذه التحديات القيمية الجديدة.
فهمي جدعان
لقد كان المفكر العربي فهمي جدعان على حق حينما خلص في كتابه "أسس النهضة عند مفكري الإسلام" في نهاية عرضه لمشاريع النهوض العربي، إلى تثبيت أولوية الاشتغال على إعادة صياغة التوحيد بالشكل الذي يطهره من المصاحبات التاريخية (جدل الماضي)، ويحصنه من مصاحبات السياسة، ويرسخ دوره الوظيفي في مواجهة التحديات القيمية الجديدة، وتقديم نموذج جديد في الحوار والتفاعل والإقناع للأجيال الجديدة.