قد لا يختلف المهتمون بالشأن
التونسي في أن الرئيس
قيس سعيد قد ربح أغلب معاركه السياسية منذ أن ترشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة. لقد استطاع المساعد الجامعي (وهي أدنى رتبة في السلم الوظيفي والعلمي داخل الجامعة) أن يطرح نفسه باعتباره "خبيرا دستوريا"، وأن يكتسب مصداقية كبرى بحكم اتخاذه مسافة واحدة من أطراف الصراع في الحكم والمعارضة، وبحكم إظهاره بعدا "صناعيا" لا يتزلف للسلطة في أغلب المسائل الخلافية. كما استطاع أن يمرر بعض محاور مشروعه السياسي مستفيدا من صورة الزاهد في الحكم أحيانا، والمتردد في خوض غمار التجربة السياسية أحيانا أخرى، رغم أنه قد طرح نفسه بديلا للمنظومة السياسية منذ 2011، وأعاد طرح ذلك المشروع سنة 2013 تحت عنوان "من أجل تأسيس جديد"، الأمر الذي صرح به هو نفسه لصحيفة "الشارع المغاربي" خلال الحملة الانتخابية الرئاسية سنة 2019.
بالإضافة إلى ضبابية مشروعه وعدم طرحه للنقاش العام داخل وسائل الإعلام التقليدية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، كان أكبر نصير للمرشح قيس سعيد هو انقسام المنظومة القديمة على ذاتها بعد رحيل المرحوم الباجي قائد السبسي وتعدد مراكز نفوذها المتصارعة، وعدم جدية
النهضة في ترشيح أحد قيادييها. فمن المعلوم أن الحركة -لأسباب تتعلق بخيارها الاستراتيجي في التوافق مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة، وتتعلق أيضا بمراعاة الواقع الإقليمي الرافض لتولي "إسلامي" رئاسة الدولة" في تونس- لم ترشح الأستاذ عبد الفتاح مرور إلا في وقت متأخر وبعد فشل المفاوضات السرية مع يوسف الشاهد، أحد وكلاء المنظومة القديمة. وفي الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، لم يكن انتصار "الخبير الدستوري" على نبيل القروي، أحد رموز الفساد والدولة الريعية، إلا لحظة التتويج لخيارات اتصالية وتنظيمية ولمواقف "شَعبوية" آتت أكلها رغم أنف الطبقة السياسية التقليدية كلها.
الإضافة إلى ضبابية مشروعه وعدم طرحه للنقاش العام داخل وسائل الإعلام التقليدية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، كان أكبر نصير للمرشح قيس سعيد هو انقسام المنظومة القديمة على ذاتها بعد رحيل المرحوم الباجي قائد السبسي وتعدد مراكز نفوذها المتصارعة، وعدم جدية النهضة في ترشيح أحد قيادييها
بصرف النظر عن منطق "المؤامرة" الذي يرى في الرئيس قيس سعيد ومشروعه السياسي صنيعة محور الثورات المضادة وبعض مكونات المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي داخل أجهزة الدولة والمجتمع المدني والنقابات، أظهر الرئيس التونسي قدرة كبيرة على توظيف تناقضات المشهد السياسي وآفاته الأيديولوجية وصراعاته الهوياتية، كما نجح في استثمار فشل الوسائط الحزبية في إسناد الشرعية الانتخابية بمشروعية الإنجاز ليقوم بشيطنة
مجلس النواب والنظام البرلماني المعدل، بل ليشيطن مجمل المنظومة السياسية ومسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته معتمدا على حلفائه الموضوعيين داخل بعض الأحزاب وفي أغلب المنابر الإعلامية.
ولم يكن الرئيس لينجح في هذه "المعارك" لولا انتهازية الكثير من الفاعلين السياسيين وقابليتهم للتلاعب، ولولا
هشاشة المنجز الديمقراطي، بل هشاشة الوعي/ المطلب الديمقراطي ذاته حتى في صفوف أكثر الفاعلين الجماعيين ادّعاءً له. وفي التحليل الأخير، فإن الرئيس لم يفعل غير استثمار "المتاح" الذي حكم المشهد السياسي منذ رحيل المخلوع، والدفع بالأزمات السياسية الدورية إلى نهاياتها المنطقية، أي الاستجابة للانتظار الجماعي لمخرج سياسي من خارج الخيارات التأسيسية للجمهورية الثانية، وتقديم ذلك المخرج بالتقابل مع تلك الخيارات وضد فلسفتها السياسية.
رغم أن الطبقة السياسية لم تحمل أطروحات السيد قيس سعيد على محمل الجد منذ أن طرح "بديله" بصورة صريحة سنة 2013، ورغم أن منطق "الإنكار" ما زال يحكم الكثير من "حلفاء الرئيس" داخل الأحزاب والمركزية النقابية والإعلام، حتى بعد أن أظهر الرئيس أنه قد حوّل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تمهد لتنزيل مشروعه السياسي كما طرحه قبل الانتخابات، ورغم انتصار الرئيس في كل "معاركه" السياسية (فرض مرشحيه في رئاسة الحكومة من خارج خيارات الأحزاب الكبرى أو حتى من خارج كل الترشيحات الحزبية قبل 25 تموز/ يوليو الماضي، الجمع بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية واحتكار "السلطة التأسيسية"، وعدم خضوع مراسيمه لأية سلطة رقابية، ورفض الحوار حتى مع أنصار "تصحيح المسار"، وتوظيف أجهزة الدولة لإنجاز الاستشارة الإلكترونية،
والتفرد بإدارة حالة الاستثناء على خلاف صريح النص الدستوري، والعودة لمنطق التعليمات الشفوية المخالفة للقانون، والسيطرة على الإعلام العمومي بتواطؤ "الهايكا" ونقابة الصحفيين.. الخ)، فإن ذلك كله لا يعني حتمية انتصاره في "الحرب" التي تتحكم فيها متغيرات تتجاوز البعد السياسي الصرف، بل تتجاوز توازنات الضعف التي تحكم الأطراف المؤثرة محليا.
إن "الحرب" الحقيقية التي يخوضها الرئيس والتي انتصر في بعض معاركها هي حرب على
الديمقراطية التمثيلية بمختلف أجسامها الوسيطة، وهي حرب يقدم الرئيس فيها نفسه باعتباره "بديلا" قد يتقاطع مؤقتا أو تكتيكيا مع بعض الفاعلين الجماعيين في الديمقراطية التمثيلية، ولكنه يعلم جيدا أنه سيتواجه معهم لا محالة. ففلسفته السياسية تتعارض جذريا مع فلسفة الحلفاء ومصالحهم المادية ورساميلهم الرمزية؛ بقدر تعارضها مع أطروحات الخصوم الصريحين للانقلاب/ تصحيح المسار.
لقد استطاع مشروع "الديمقراطية المجالسية" أو المباشرة أو القاعدية -وهو أحد تفرعات الفكر اليساري كما بيّن ذلك الفيلسوف الماركسي سلافوي جيجك- أن يربح "معاركه" مستفيدا من آفات العقل السياسي لحلفائه وخصومه على حد سواء، ولكنه استطاع أن يربح لأن أغلب الذين يسندونه في "الدولة العميقة" ما زالوا ينكرون أنه "بديل شامل"، أو على الأقل ما زالوا يؤمنون باستحالة نجاح الرئيس في ذلك، ويراهنون على توقّفه عند نقطة التقائهم الموضوعي معهم: تعديل النظام إلى نظام رئاسي مع إقصاء حركة النهضة وتشريك "القوى الديمقراطية" ببرلمان يقوم على وساطة الأحزاب لا على القوائم الفردية، أي تعديل النظام السياسي بطريقة لا تهمش النخب "الحداثية" ولا تلغي الحاجة إلى أجسامها الوسيطة في الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني.
نجاح الرئيس في حربه على الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة سيعني فعلا أنه يُمثل زمنا سياسيا جديدا، ولكنه لن يكون زمنا طوباويا كما يدعي أنصاره، ولن يكون أيضا لحظة تجاوز جدلي للديمقراطية التمثيلية وأزماتها الدورية، بل سيكون لحظة ارتكاس إلى زمن "الحاكم- الإله"
لعل أكبر تحد سيواجه الرئيس في المرحلة المقبلة هو ذاك الذي سيأتيه من حلفائه الموضوعيين، وليس من خصومه الذين عارضوا الانقلاب معارضة مبدئية. فانتصاره في "الحرب" سيعني انتفاء الحاجة إلى الأحزاب وإلى كل الأجسام الوسيطة بفلسفتها الحالية، وتحولها جميعا إلى ملحقات وظيفية بمشروع الرئيس. فأي دور للأحزاب في منظومة سياسية تقوم على الانتخابات المحلية بنظام الاقتراع على الأفراد وبمنطق "سحب الوكالة"؟ وأي دور أو مصداقية للنقابات في حال وافقت المركزية النقابية على إملاءات صندوق النقد الدولي أو اضطرت تونس إلى الذهاب إلى "نادي باريس"؟ وأي دور لأي مؤسسة أو جسم وسيط في منظومة سياسية يجمع الرئيس فيها كل السلطات بما في ذلك "السلطة التأسيسية"؟ وأي معنى للديمقراطية ولحرية التعبير في فضاء تهيمن عليه التعليمات وأحادية الصوت؟ وما هو معنى الإرادة الشعبية وقد صادرها الرئيس واحتكر الحديث باسمها بصورة لا تقبل النقض أو المساءلة أو حتى مجرد التشكيك؟
إن نجاح الرئيس في حربه على الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة سيعني فعلا أنه يُمثل زمنا سياسيا جديدا، ولكنه لن يكون زمنا طوباويا كما يدعي أنصاره، ولن يكون أيضا لحظة تجاوز جدلي للديمقراطية التمثيلية وأزماتها الدورية، بل سيكون لحظة ارتكاس إلى زمن "
الحاكم- الإله" الذي لا راد لمشيئته ولا عاصم من مراسيمه التي تسندها "شرعيتان": شرعية الاصطفاء الإلهي وشرعية التفويض الشعبي. ومهما كان مآل مشروع الرئيس، فإن نجاحه في "معاركه" ضد الديمقراطية التمثيلية، وما أظهرته تلك النجاحات من هشاشة المؤسسات وانتهازية الأجسام الوسيطة وعدم قدرتها على تجاوز خلافاتها وتقديم أي بديل ذي مصداقية رغم المخاطر الوجودية التي تتهددها، كل ذلك يدعو إلى مراجعة سردية "الاستثناء التونسي" ونجاح "الانتقال الديمقراطي السياسي" وما أسسا من توافقاتٍ كانت عاقبتها ما نرى.
twitter.com/adel_arabi21