ليس الأمر كله سياسة،
فالدين كان حاضراً في الحرب الروسية الأوكرانية من جانب طرفي الأزمة!
لا يريد بوتين أن يسلم بالأمر الواقع، أو ينسى أن بلاده كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، وتمثل إحدى القوتين في العالم، فميخائيل جورباتشوف، هذا العميل الأمريكي، خضع لإرادة الغرب ومن ثم قام بتفتيت الاتحاد السوفييتي. وهو (بوتين) لا يريد أن يسلم بالمكتوب، "ولا أرضى أبات مغلوب"، كما يقول العندليب، وكل ما هنالك أنه يبحث عن مبرر لعودة هذه الإمبراطورية، مستغلاً انشغال الغرب بالصين، وانشغاله بالعدو الأخضر، ممثلاً في الإسلام، فعمل على تقوية روسيا، فلما اشتد ساعده نازعته أحلام الإمبراطورية. ومن يتابع حركاته وسكناته سيقف على أنه مهووس بجنون العظمة، يتصرف على أنه القيصر، وتفتقد تصرفاته للدبلوماسية واللياقة عندما يلتقي ضيوفه، إنه يعيش بخياله في زمن الإمبراطوريات الكبرى في العصور الوسطى!
وإذ وجد هناك محاولات (لم تكلل بالنجاح) لضم أوكرانيا لحلف الناتو، مما يعني حضور قواته والقوات الأمريكية بالذات لإقامة قواعد عسكرية لتحاصر روسيا، وتخنقها، فقد قال هي الحرب. ومع أنه كان من الواضح أنه لن يسمح لها بالانضمام للحلف، فلم يطمئنه الغرب، وهو ما بدا مبرراً سياسياً لعدوانه، إلا أن الدين كان حاضراً في ذهنه، وإن كان يخفي في نفسه ما الله مبديه، تماماً كما يخفي طموحه في عودة الاتحاد السوفييتي، وتصدر منه تصريحات غير جادة بهذا المعنى، بهدف بث الطمأنينة في قلوب الغربيين، وقد استفاد من غفلتهم وتغافلهم في تقوية بلده، الذي استلمه ضائعاً، يهرب منه العلماء إلى الغرب، والراقصات إلى الشرق!
الدين كان حاضراً في ذهنه، وإن كان يخفي في نفسه ما الله مبديه، تماماً كما يخفي طموحه في عودة الاتحاد السوفييتي، وتصدر منه تصريحات غير جادة بهذا المعنى، بهدف بث الطمأنينة في قلوب الغربيين، وقد استفاد من غفلتهم وتغافلهم في تقوية بلده
البعد المستتر إلا قليلا، هو الخاص بما
تمثله كييف من أهمية دينية لدى الروس، فالدولة الروسية الأولى تأسست في أوكرانيا، والروس عندما اعتنقوا المسيحية في وقت متأخر نسبياً عام 988 من ميلاد السيد المسيح، كان هذا بمعمودية إمبراطور دولة كييف الروسية!
وهو بعد يشرحه مشهد مررنا علينا مرور الكرام، فقبل حربه المجنونة ضد أوكرانيا، كان بوتين يمارس الغطاس الكنسي، في حضور قساوة يرفعون الصلبان، وكأننا أمام فرع من أصل، هو الحروب الصليبية!
وهو مشهد لم يقف أمامه الانسان العربي طويلاً، حتى لا يزعزع يقينه وما استقر في وجدانه، ألا وأنه الزعيم الروسي، فلا بد من أنه يستهدف عودة الشيوعية والانتصار لها، ليسهل بالتالي على العقل العربي البسيط اتخاذ موقفه ضده، استمراراً للعداء الأول الذي استغله الغرب في حشد المجاهدين العرب لملاقاة الإلحاد في أفغانستان، ومن خلال تعاون عواصم عربية بعينها في عملية الحشد، مع التسليم بأن المجاهدين لم يكونوا جزءاً من هذه التفاهمات الاستخباراتية ولم يكونوا جزءاً من عملية التنسيق، فيمكن القول إنه توافق في الأهداف بدون اتفاق عليها!
فالمجاهدون العرب لم يكن يساورهم شك في أنهم يخدمون دينهم بمواجهة المد الإلحادي الذي سيطر على دولة إسلامية هي أفغانستان، وقد ذهبوا الى هناك لملاقاة هذا العدو الذي جاء إلى بلادهم برجليه، مع التعمق في هذا المشهد الكنسي بما يخدم الأهداف الاستراتيجية للمواطن العربي في زمن صار فيه العالم قرية واحدة!
لدينا في عالمنا العربي من مدعي العلمانية صنف متشددة ومغال، لا يختلف عن أهل المغالاة في التيار الإسلامي، وهم دائماً يشعلون نار الخلاف أمام أي مشهد إسلامي باعتباره يمثل خلطاً لا يجوز بين الدين والسياسة، وهم الذين يبحثون عن النضال السياسي في المناطق الآمنة، فيفتعلون معارك استنزاف الوقت والصحة، في بلاد تعاني من الاستبداد والفقر والفساد
إن لدينا في عالمنا العربي من مدعي العلمانية صنف متشددة ومغال، لا يختلف عن أهل المغالاة في التيار الإسلامي، وهم دائماً يشعلون نار الخلاف أمام أي مشهد إسلامي باعتباره يمثل خلطاً لا يجوز بين
الدين والسياسة، وهم الذين يبحثون عن النضال السياسي في المناطق الآمنة، فيفتعلون معارك استنزاف الوقت والصحة، في بلاد تعاني من الاستبداد والفقر والفساد. لكن هذا لا يشغلهم، فهم منشغلون بمعارك الحداثة الكبرى ممثلة في الخلط بين الدين والسياسة، مع حساب أي تصرف على أنه يدخل ضمن هذا الخلط، ومن هنا كان الصياح بأن الرئيس مرسي يغير هوية مصر!
تسأل أحدهم: وما هي هوية مصر؟ فيبدو السؤال مفاجأة له، ثم تسأله عن مظهر الخلط بين الدين والسياسة، فلا تجد سوى إمامته للصلاة لزائريه في القصر الرئاسي، أو أنه يصلي الجمعة والفجر في المسجد، مع نقل الصلاة في الأولى تلفزيونياً!
ولأن العالم قرية صغيرة، فقد أمكن للمواطن في أحراش أفريقيا أن يتابع الانتخابات الأمريكية، ورأى كيف تأخر الرئيس المنتخب بايدن عن حضور مراسم التنصيب، لذهابه للكنيسة وتأخره هناك!
نشأة العلمانية:
والنموذجان الروسي والأمريكي كاشفان عن أن ممارسة الطقوس الدينية من الحاكم لا تندرج في باب المنهي عنه علمانيا، بحسبانه خلطاً بين الدين والدولة، أو بين الدين والسياسة، وكاشف كذلك عن أن "جماعتنا" ليسوا علمانيين ولكنهم منتحلو صفة، يقودهم لذلك ليس كراهيتهم للإسلام كما يحلو للعقل البسيط أن يصفهم، ولكنه الجهل المطاع، والهوى المتبع!
ونشأة العلمانية أوروبياً، كانت لمواجهة هيمنة الكنيسة على الحكم والحياة العامة، وليس في ممارسة الطقوس الدينية، ولم ير أحد بالتالي خروجاً عليها بطقس الغطاس الذي قام به الرئيس الروسي، أو طقس الصلاة الذي قام به الرئيس الأمريكي!
بيد أن العقل المسلم البسيط لا يحب الدخول في دروب لم يعهدها، لذا فالرئيس الروسي إذا نجح فإنه سينتصر للشيوعية، وهذا ليس صحيحاً، فالانتصار ليس للمذهب، وليس أيضاً للدين، وهو يحارب مسيحيين (هم غالبية شعب أوكرانيا) وإن كان الرئيس الأوكراني يهودياً، أدهش البعض أنه طلب من رجال الدين اليهودي الصلاة له، واستنكروا عليه ذلك، وكأن هناك من قال لهم إنه أشهر إسلامه، ذلك بأن هذا العقل البسيط درج على معارك الحق فيها أبلج والباطل لجلج!
ولا بد من تدريب العقل العربي بشكل عام، على معارك ليست بين أصحاب الجنة وأصحاب السعير، فالأمور ليست دائماً تدور بين اللونين الأبيض والأسود، فهناك اللون الرمادي بدرجاته، وكل طرف في هذه المعركة إن سرك منه شيء ساءتك أشياء!
قد تكون هذه الحرب هي نهاية بوتين، ليتجرع الهزيمة، جزاء وفاقاً على جرائمه في سوريا وقد أهلك الحرث والنسل، لكنه في المقابل كشف هشاشة الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي أثبتت أن من يتغطى بها عريان حتى مما يستر العورات، وهو الدرس الذي توصل إليه الرئيس الأوكراني في المحنة، الأمر الذي سيجعله الأقرب إلى تركيا
فقد تكون هذه الحرب هي نهاية بوتين،
ليتجرع الهزيمة، جزاء وفاقاً على جرائمه في سوريا وقد أهلك الحرث والنسل، لكنه في المقابل كشف هشاشة الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي أثبتت أن من يتغطى بها عريان حتى مما يستر العورات، وهو الدرس الذي توصل إليه الرئيس الأوكراني في المحنة، الأمر الذي سيجعله الأقرب إلى تركيا منه للاتحاد الأوروبي اذا ألقت الحرب أوزارها واستمر في موقعه. وقد رأى الأوكرانيون العذاب وتقطعت بهم الأسباب، ولا تنسَ أن هذا الصمود إنما يرجع إلى طائرات بيرقدار التركية، وأن
تركيا صاحبة الصوت الأعلى تنديداً بما يجري!
وفي المقابل، فإن مجنون روسيا رأى من الأهوال ما دفعه للقبول بالتفاوض، وهو من كان يعتقد أنه قادر على إلحاق النصر السريع، لكن في المقابل أن معركته ضد صاحب الهوى الصهيوني، فالرئيس الأوكراني أيد إسرائيل عندما وقع العدوان على غزة، لكنه ليس الشيطان الرجيم في هذه الحرب!
إنها الهزيمة الثانية للغرب بالقيادة الأمريكية، بعد هزيمته في أفغانستان، وهذا ليس هو الموضوع، فما يهمنا أن الدين كان حاضراً في العدوان الروسي.
فأين العلمانيون العرب؟!
twitter.com/selimazouz1