(عن العنوان)
مفهوم الثورة في العنوان يقصد به الانتقال الواعي من وضع قديم رث ومرفوض إلى وضع جديد مأمول ومنشود، أما تعبير "المواجهة" فالقصد منه الخروج من الاصطلاحات الرائجة لتوصيف ما يحدث بأنه "غزو" أو "عملية تطهير" أو حتى "حرب"، لأن كل توصيف من هؤلاء يأخذنا إلى رؤية تخص أصحابها:
فمن يقف عند تعبيرات "الغزو" و"العدوان" لا يكشف بالضرورة عن تبعيته لأمريكا والنظام الأحادي للغرب وسلطة الناتو، فقد يكشف عن ميوعة سياسية وفقدان للرؤية الاستراتيجية كما في حالة الموقف المصري الذي بررته وزارة الخارجية في بيان متعاقل لدرجة الميوعة بعنوان: "طخه بس ماتموتوش يا بوي".
وموقف القاهرة الرسمي في هذا الشأن يمثل عشرات الدول التي تدعي تحركها وفق مبدأ "سلامة النية"، لتبرير حقيقتها كدول نائمة ومستكينة لنظام عالمي أممي ترميه أغلبيتها السياسية والإعلامية صباح مساء بتهمة العمى الأخلاقي وازدواج المعايير، ثم ينصاعون له مع كل معضلة ويحرصون على تقديسه والاصطفاف داخل قاعة الصلاة الأممية لتلاوة القرارات المعدة سلفا، والتي ينفذ المتحكمون الدوليون ما يناسبهم منها، ويتجاهلون ما لا يحبون، خاصة في فلسطين التي صدر لصالحها قرابة الثلاثين قرارا دوليا تعامى عنها الغرب، منذ القرار رقم 194 في نهاية عام 1948؛ المطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم، إلى القرار رقم 2334 في نهاية عام 2016 المطالب بوقف بناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.
موقف القاهرة الرسمي في هذا الشأن يمثل عشرات الدول التي تدعي تحركها وفق مبدأ "سلامة النية"، لتبرير حقيقتها كدول نائمة ومستكينة لنظام عالمي أممي ترميه أغلبيتها السياسية والإعلامية صباح مساء بتهمة العمى الأخلاقي وازدواج المعايير، ثم ينصاعون له مع كل معضلة ويحرصون على تقديسه
أما فريق "عملية التحرير" أو "التطهير" فهم مارقون تلعنهم أمريكا أو ضحايا سابقون، يردون جميل المراهم الروسية التي داوت جروحهم بعد اعتداءات غربية تغافل العالم "المثالي المسالم" وقانونه الدولي عن إدانتها أو حتى التهليل الإعلامي ضدها.
كذلك لا أحبذ وصف ما يحدث بأنه "حرب"، لأن الكلمة تحصر الصراع في مظهره العسكري وفقط، وهو مظهر خادع يسعى لتصوير المعركة بأنها "حرب غير متكافئة" بين دولة كبيرة باغية ودولة صغيرة مسالمة، بينما الصراع في حقيقته بين حلف غربي توسعي (ناتو) يزحف باتجاه إمبراطورية خسرت في الماضي القريب وحدتها وقوتها وصورتها، ثم تحركت مضطرة إلى المواجهة بعد سنوات من طلب الود، وهو السبيل الوحيد الباقي أمام "عزيز قوم أذله الغرب" لترميم صورته عن نفسه. لذلك يشمل الصراع أدوات ومجالات أوسع بكثير من الحرب بمعناها العسكري، خاصة في الأبعاد الاقتصادية والإعلامية، واستخدام المعركة المنتظرة منذ عام 2007 (بعد خطاب بوتين الشهير في مؤتمر ميونخ) لحقن القيادة الغربية الأحادية للعالم بإكسير الشباب ودماء الحرب الحماسية..
من هذه الرؤية للصراع اعتبرت أن مفهوم المواجهة بين الشرق والغرب، هو المفهوم الجوهري في المعركة التي تتخذ من أرض أوكرانيا مسرحا لها، ومن هذا المفهوم أكتب وأنظر إلى الأخبار والأحداث ومواقف الدول.
مفهوم المواجهة بين الشرق والغرب، هو المفهوم الجوهري في المعركة التي تتخذ من أرض أوكرانيا مسرحا لها، ومن هذا المفهوم أكتب وأنظر إلى الأخبار والأحداث ومواقف الدول
(عن الموقف العالمي)
تبدو الخريطة العالمية غربية بنسبة 73 في المائة حسب تصويت الدول في المنظمة الأممية، فقد استنكرت 141 دولة "الغزو الروسي"، بما فيها ميكرونيزيا وسيشيل وتوفالو وبالاو وكيريباتي وفانواتو وجزر مارشال، بينما اعترضت أربع دول فقط ومعها
روسيا بالطبع، أما الدول الأربع الفاقدة (اللي مقطعة البطاقة) فهي بيلاروسيا وكوريا الشمالية وسوريا العزيزة وإريتريا.. نعم قالت إريتريا الصغيرة الفقيرة "لا" في وجه من قالوا نعم!
لا أعتبر أن نسبة الاثنين ونصف في المائة المؤيدة لروسيا تعبير حقيقي عن الموقف من الانقسام العالمي تجاه المواجهة الخطيرة في أوكرانيا، فالتصويت وسيلة تلفيقية لصناعة خبر إعلامي عن موازين الصراع وإظهار أن هناك أغلبية عددية وأقلية غير مؤثرة، بينما الواقع يتحدث بلغة أخرى وأرقام أخرى، وهذا ما تكشفه قائمة الدول الممتنعة، وهي القائمة التي تتضمن مكامن القوة والخطر والمواقف المؤجلة لعدد من الدول التي استخدمت أسلوب "نقلة الانتظار" كما هو معروف في الشطرنج. ومن بين هذه الدول الصين والهند وباكستان وإيران وأكثر من 30 دولة أخرى بنسبة 18 في المائة. وقائمة الممتنعين تتوزع بين أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتضم ثلاث دول عربية في مقدمتها الجزائر والعراق ثم السودان، بينما غاب لبنان والمغرب، وهو أمر مفهوم بالنسبة للبنان الذي يعاني من غياب الدولة الموزعة سياسيا بين إيران والسعودية وفرنسا، ورأي الشارع الباحث عن حياته المسروقة، لكن غير المفهوم أن تغيب دولة مثل فنزويلا، وأن تكتفي كوبا بموقف الامتناع انتظارا لما تسفر عنه الأحداث، مثلها مثل جنوب أفريقيا وأرمينيا!
خريطة
المواقف تخبرنا بشكل حاسم أن أوروبا وأمريكا الشمالية بالكامل على قلب رجل واحد (ربما لأول مرة في التاريخ)، فهذا الإجماع لم يحدث في الحربين العالميتين ولا في المواجهة الروسية العثمانية أو الفرنسية، ولا في غزوات فيتنام والعراق وأفغانستان وقصف صربيا، ومن قبلها في غزوات أمريكا لدول الفناء الخلفي في أمريكا اللاتينية، والتي كانت تعتبرها "غزوات تأديب" لا تستحق الاستنكار الدولي، بل تستوجب التأييد والتحية.
لا أعتبر أن نسبة الاثنين ونصف في المائة المؤيدة لروسيا تعبير حقيقي عن الموقف من الانقسام العالمي تجاه المواجهة الخطيرة في أوكرانيا، فالتصويت وسيلة تلفيقية لصناعة خبر إعلامي عن موازين الصراع وإظهار أن هناك أغلبية عددية وأقلية غير مؤثرة، بينما الواقع يتحدث بلغة أخرى وأرقام أخرى، وهذا ما تكشفه قائمة الدول الممتنعة
(عن الموقف المصري)
تتبنى القاهرة "رؤية قانونية شكلية" في خطابها الخارجي والداخلي، لكن ليس من المهم أن يكون المعلن هو ما يحدث على أرض الواقع، لذلك فإن تصويت المندوب المصري ضد التدخل العسكري الروسي في دولة جوار، اقتضى من وزارة الخارجية إصدار بيان تفسيري وتبريري يوضح أن مصر تعمل بمبدأ دولي متفق عليه لا يجيز التدخل بالقوة في أرض دولة أخرى، وهو ما يذكرنا بمواقف سابقة تحترم في ظاهرها القانون الدولي، مثل تعليق مصر لاعترافها باستقلال كوسوفو، لأنها لا توافق على تفكك الدول والنزوع الانفصالي، بينما كانت تدعم في الخفاء المكشوف انفصال جنوب السودان عن شماله مثلا، وكذك صمتت عن قصف وتدمير الناتو لليبيا بموافقة عربية في الجامعة التي أضرت بالدول العربية أكثر مما أضر بها الكنيست، لهذا سعى "إعلام الدولة" (تعبير يعجبني لأنه حاجة فاشية معتبرة على غرار "تنظيم الدولة") إلى تفسير للتفسير الذي ورد في بيان الخارجية، متضمنا استنكار الغزو وتفعيل الحوار الدبلوماسي، والاعتراض على المقاطعة الدولية إذا خرجت عن نصوص القانون الدولي.
وفي هذا السياق كتب أحد أساتذة العلوم السياسية المشهود لهم بـ"التحليل" (مشتقة من وظيفة المحلل في الزواج بعد ثلاث طلقات) أن الفلسفة التي انطلق منها قرار مصر بالتصويت ثم التبرير هي "المصلحة الوطنية". فمصر لها علاقات تجارية واقتصادية وعسكرية مع روسيا (وبوتين هيبني لنا مفاعل الضبعة)، كذلك فإن لمصر شراكة كبيرة مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا ولا يمكن التضحية بأي من الطرفين، لذلك يقتضي الموقف أن "ترقص مصر على السلم"، وهذا وصف للميوعة السياسية التي تختلف في رأيي عن مواقف الدول صاحبة "المواقف المؤجلة"، بالرغم من أن بعضها يفكر بطريقة ميكافيللية وينتظر للانضمام إلى الفريق الرابح.
بما أن النظام في مصر نزل بها إلى حظيرة الدولة المستكينة، فهو يتبع منهج "الاستاتيكو" ويتحرك دائما في صندوق الانصياع والحفاظ على المواقف الراهنة دون أي رؤية للمستقبل، ودون أحلام ومطامح سياسية لتحديث العالم ونظام إدارته
لكنني أراهن على العقلاء دائما الذين يفهمون أن النظام الدولي الراهن نظام أحادي، مهيمن، معيب، فاشل، مزدوج المزاج والمعايير، لا يدير العالم بنزاهة، لذلك يتحينون الفرصة لإعلان وفاته والسعي لتشكيل نظام جديد متعدد الأقطاب. وبما أن النظام في مصر نزل بها إلى حظيرة الدولة المستكينة، فهو يتبع منهج "الاستاتيكو" ويتحرك دائما في صندوق الانصياع والحفاظ على المواقف الراهنة دون أي رؤية للمستقبل، ودون أحلام ومطامح سياسية لتحديث العالم ونظام إدارته.
(عن الموقف الشخصي)
أنا دائما مع الصراع ضد الاستكانة، مع الحركة ضد السكون، مع التحديث والتطوير ومعالجة الأخطاء ضد الإبقاء على القديم وتثبيت الأمر الواقع كضرورة، لهذا فأنا مع المواجهة بصرف النظر عن نتائجها العسكرية، وهذا لا يعني أنني مع طرف ضد آخر، فمواقف الانحياز لفريق ضد فريق تناسب المشجعين ولا تناسب النقاد والمهتمين بشؤون اللعبة. هؤلاء الفاعلون يجب ألا ينظروا للفرق، لكن للقوانين وقواعد اللعبة وجمالياتها ونزاهتها.
الاستقطاب لن يحدث على الضفة الغربية فقط، فهناك عالم آخر سيلتئم، وهناك قوة جديدة ستشعر بمهانة الخضوع للتأميم الغربي للرأي والقوانين والأموال الخاصة للمواطنين الآخرين
لذلك من حق بوتين أو أي شخص غيره أن يعلن التحدي وأن يخوض مباراته ضد بطل العالم، ليس لنعبد الفائز، ولكن لنؤكد لأنفسنا وللآخرين أن البطل ليس إلها، لكنه "منتصر مؤقت"، لا يجب أن يصادر كل شيء لصالحه. وكما أن الغرب قادر على الحشد وتعبئة 140 صوتا خلال ساعات في صندوق الجمعية العمومية للعالم، فإن الاستقطاب لن يحدث على الضفة الغربية فقط، فهناك عالم آخر سيلتئم، وهناك قوة جديدة ستشعر بمهانة الخضوع للتأميم الغربي للرأي والقوانين والأموال الخاصة للمواطنين الآخرين..
هذه الهيمنة المتعجرفة ستؤدي إلى تشكيل بدائل دولية جديدة، ليخرج العالم من احتكار الدولار ونظام سويفت والقدر الأمريكي برمته، والرهان بحد ذاته على زوال نظام وبزوغ نظام جديد، هو الأمل الذي يجب أن يفكر به الأحرار غير الخاضعين لمشيئة الإله الأمريكي الملحد.
والقضية تستحق مقالات أخرى، إذا يسر لنا الله.
[email protected]