ضمن ممارسات الاستخفاف بالعقول وحالات الإنكار المتبجح، تأتي موافقة مجلس النواب
المصري على
تشريع جديد بشأن السجن والسجناء في ظل المساحة التي يشغلها هذا الملف في الساحة المصرية بكافة أطرافها الداخلية والخارجية، وكذلك الرسمية وغير الرسمية. وقد يعتبر النظام المصري أن مثل هذا التشريع هو قمة التطور الذي وصل إليه في هذا الملف، ويسعى لأن يحصل على الشرعية الدولية ويعتبر نفسه قد حقق المطلوب وتجاوز الملاحظات التي تقدم إليه في فعاليات المجلس الدولي لحقوق الإنسان. إلا أن جوهر التشريع الذي يتمثل في تغيير الأسماء يؤكد على أن النظام الانقلابي لا ينشغل إلا بالصورة واللقطة دون اهتمام بالمضمون.
فجوهر التشريع يتمثل في تغيير اسم "قطاع
السجون" التابع لوزارة الداخلية إلى "قطاع الحماية المجتمعية"، وسيستبدل اسم "مركز إصلاح وتأهيل" بلفظ "سجن"، و"مركز إصلاح وتأهيل عمومي" بمسمى "الليمان"، وبالنسبة للسجن المركزي فسيصبح معروفا بـ"مركز الإصلاح الجغرافي". ووفق القانون الجديد أيضا سيتحول مسمى مأمور السجن إلى مدير مركز الإصلاح، وسيصير السجان مشرفا، وسيكون السجين نزيلا. وقد بيّنت المذكرة الإيضاحية الصادرة عن الحكومة بشأن القانون أن البنود الجديدة في التشريع تأتي في إطار خطة حكومية لتطوير المؤسسات العقابية من حيث المسميات والمباني، وتوفير كافة الخدمات والرعاية للنزلاء لتأهيلهم اجتماعيا، وإدماجهم في المجتمع والاستفادة من قدراتهم، من خلال برامج وخطط التنمية ومراعاة حقوقهم.
حرص النظام المصري على تدشين مؤتمر لإعلان هذه الاستراتيجية وتسويقها على المستوى العالمي، باعتبارها تغير واقع ملف حقوق الإنسان على الأرض. كما اكتظ الفيديو كليب الذي نشرته الحكومة المصرية مع افتتاح مجمع السجون بتعبيرات النزلاء ومراكز الإصلاح، وغير ذلك من بنية شكلية ومسميات لفظية
لم يكن هذا التشريع مفاجأة للمتابعين للشأن المصري، فقد سبق وأن أعلنت الحكومة المصرية عن ذلك فيما أسمته باستراتيجية
حقوق الإنسان الصادرة نهاية العام الماضي، وكذلك الاحتفال بافتتاح أحد السجون الضخمة (شرق القاهرة)؛ حيث استغلت المناسبتين للتمهيد لهذه التسمية ("النزلاء" بدلا من "السجناء"). وقد حرص النظام المصري على تدشين مؤتمر لإعلان هذه الاستراتيجية وتسويقها على المستوى العالمي، باعتبارها تغير واقع ملف حقوق الإنسان على الأرض. كما اكتظ الفيديو كليب الذي نشرته الحكومة المصرية مع افتتاح مجمع السجون بتعبيرات النزلاء ومراكز الإصلاح، وغير ذلك من بنية شكلية ومسميات لفظية.
ولم يغب عن الحكومة المصرية استغلال عدد من المنظمات الحقوقية المصرية التي نظمت زيارات رسمية للسجون المصرية، ونشرت الصور والفيديوهات التي أكدت أن الأوضاع في السجون المصرية على أحسن ما تكون، وحرصت على تسويق الصور المصنوعة، واللقاءات المبرمجة للتأكيد على هذا الوضع الزائف والمضلل. ومن ثم فإن جل ما تقوم به الحكومة المصرية في هذا الملف من تشريعات ومؤسسات وسياسات وممارسات وآليات يظل شكليا وظاهريا، ويخاطب الغرب دون أي تغيير حقيقي أو حتى مجرد تغيير طفيف، بل على العكس فإن السجون والسجناء يتعرضون لضغوط شديدة جراء تنفيذ هذا التزييف الخطير.
يمكن التعرف على شبكة الاستخفاف فيما يمكن تسميته بالتزوير التشريعي وأداته البرلمانية؛ إذا ما بحثنا في أهمية تغيير المفاهيم بشكل ظاهري وشكلي دون تغيير حقيقي للمنظومة العقابية. فهناك حالات عديدة وموثقة في السجون المصرية والمعتقلات توضح المدى الذي وصلت إليه السجون المصرية في إنزال العقاب على السجناء والمعتقلين بشكل مباشر (التعذيب)، بعيدا عن أي عقوبة أخرى من مثل الحبس الاحتياطي، أو التدوير، أو عقد المحاكمات في المقرات العقابية.
يمكن التعرف على شبكة الاستخفاف فيما يمكن تسميته بالتزوير التشريعي وأداته البرلمانية؛ إذا ما بحثنا في أهمية تغيير المفاهيم بشكل ظاهري وشكلي دون تغيير حقيقي للمنظومة العقابية
فعدد كبير من السجناء والمعتقلين يقبعون في غرف إسمنتية بدون أي نوافذ في حبس انفرادي لسنوات، لا يرون الشمس إلا في جلسات المحاكمات لتجديد أو تمديد مدة الحبس والاعتقال، حيث يتم ترحيلهم في عربات السجن، وفي بعض الحالات في سيارات الإسعاف إلى مقرات المحاكم والنيابة، ويقبعون في غالب الأمر داخل السيارة تحت حراسة مشددة؛ لا يرون أهليهم ولا يلتقون بمحامييهم إلا فيما ندر. وهذه الجلسات التي تعقد كل بضعة أشهر هي التي يرى فيها السجين/ المعتقل الحياة خارج قبره الإسمنتي الذي يمنع فيه من كل شيء بما في ذلك الكلام أو حتى قراءة القرآن بصوت مرتفع.
وما نقوله ليس افتراء على النظام، ولكنه موثق عند العديد من الهيئات الحقوقية المصرية والدولية، ولعل
حالات الوفاة المتكررة جراء هذه الظروف تؤكد ذلك الأمر بشكل عملي، حيث وثقت منظمة "نحن نسجل" في تقريرها لعام 2021 وفاة ما يقرب من 60 سجينا، ما بين الإهمال الطبي والتعذيب وسوء مقرات الاحتجاز.
خطورة هذا الأمر تتمثل في أن مجتمع
المعتقلين والسجناء في مصر حدثت فيه زيادة غير مسبوقة في السجون والمعتقلين؛ فقبل شهرين فقط من تولي السيسي حكم البلاد، أي في أبريل/ نيسان 2014، لم تكن أعداد السجون في مصر تزيد على 42 سجنا ضمن 25 منطقة للسجون، وفق ما نشرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهي منظمة حقوقية، إلا أن هذا الرقم تضاعف منذ ذلك الوقت لما يقرب من ثلاثة أضعاف، سواء على مستوى السجون أو السجناء. فهناك تقديرات ترى أن عدد السجون في مصر بلغ 78 سجناً حتى نيسان/ أبريل 2021، تضم نحو 120 ألف سجين، بينهم قرابة 65 ألف سجين ومحبوس سياسي، ونحو 54 ألف سجين ومحبوس جنائي، وفق تقرير للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
إن الاطلاع على الجهود الدولية في التعامل مع السجون والسجناء على المستوى العالمي يكشف عن الجريمة التي يمارسها النظام المصري بحق هؤلاء المواطنين الذين وقعوا تحت وطأة ظلم بيّن وحالة سجون مخزية؛ وتمثل الظلم المركب والممنهج في المحاكمات غير العادلة ابتداء، إضافة إلى المعاملة التي يتعرضون لها والظروف التي يعيشون فيها.
فالمواثيق والعهود الدولية لا تنشغل بالمسمى بقدر ما تنشغل وتهتم وتعتني بمنهجية التعامل داخل السجون، والحفاظ على كرامة السجناء وتحريم التعذيب وحماية السجناء من الإدارة، وتوفير الرعاية الصحية، والحفاظ على حياة السجناء. وإذا ما تأملنا ذلك لوجدنا غيابها جميعا عن المنظومة السجنية المصرية التي لا تهتم إلا بصورتها في الخارج، ولا يهمها إلا أن يستطيع المسؤولون المصريون أن ينكروا أن هناك سجناء مصريين، ولكن هناك نزلاء يقيمون في مراكز تأهيل. أما ما يجري في هذه "السلخانات" أو أيا كان اسمها فهو أمر آخر. وطالما أن هناك من بين الحقوقيين المصريين من يذهب في زيارات مرتبة ويصور أوضاع السجون والسجناء كنزلاء في فنادق؛ فمصر آمنة من الانتقادات الدولية ومحمية من الانتقادات وقادرة على الرد على الانتقادات والبيانات الدولية.
ما الذي يفيد السجين من تغيير صفته إلى نزيل بدلا من سجين، أو تغيير مسمى السجن إلى مركز تأهيل، إن استمرت نفس السياسات ونفس الأشخاص ونفس الممارسات التي تصل إلى الاستعباد
ما الذي يفيد السجين من تغيير صفته إلى نزيل بدلا من سجين، أو تغيير مسمى السجن إلى مركز تأهيل، إن استمرت نفس السياسات ونفس الأشخاص ونفس الممارسات التي تصل إلى الاستعباد؛ إلا أن يكون ذلك تزويرا على الحقيقة وتدليسا متعمدا على حالة السجون حتى يمرروا أكاذيبهم المُجتَرة بأنه ليس في مصر من معتقلين.
إن التغيير الحقيقي الذي يمكن أن يكون محل احترام وتقدير من العديد من الأطراف الداخلية والخارجية أن تتوقف تلك الممارسات الإجرامية في حق هؤلاء وأن يتم التعامل معهم بصورة عادلة وقانونية محددة، وأن تكون هناك نزاهة وشفافية ومساءلة في ملف السجون، وأن يتم منح هؤلاء السجناء/ النزلاء، أو أي اسم يطلق عليهم، حقوقهم في المحاكمة العادلة، وفي ظروف سجن لائقة، وأن تتوقف الممارسات العقابية للسجين وأهله، وأن يُمكّن هؤلاء الذين لم يستقبلوا أي زيارة من
أسرهم لمدد تزيد عن ثماني سنوات أو أكثر من لقاء أهاليهم ومحاميهم، وأن يسمح للأطفال باحتضان آبائهم وأمهاتهم، وأن يسمح للمعتقلين أن يلمسوا طرف ثوب أمهاتهم قبل وفاتهن؛ خصوصا أن بعضهم بات يمر بحالة نفسية رافضة لمِنّة الطاغية أن يقبل كفنها، والبعض الآخر من المجهولين لا يُمَكَّن من ذلك من الأصل؛ لا الثوب ولا الكفن..
ماذا أصابك يا وطن؟! وما تلك الصفة الجديدة "المواطن النزيل" بدلا من "المواطن السجين"؟!.. ومن ذا الذي يسهم في تلك العملية الكبرى من التزييف ممن يدعي أنه يمثل شعبا في برلمان؛ فصار يُجمِّل بل يزور لنظام فاشي مستبد رغم قبح سياسات الاستبداد والمستبدين؟.. ألا سحقا للظالمين ومن عاونهم أجمعين.
twitter.com/Saif_abdelfatah