يشهد العالم موجة تضخمية ازدادت شرارتها اشتعالا مع الحرب الروسية الأوكرانية التي بدت تأثيراتها بصورة مباشرة على
أسعار السلع الأساسية، لا سيما السلع الزراعية وفي مقدمتها القمح، فضلا عن ارتفاع
أسعار النفط والغاز، ونفقات التسليح، وانتقلت هذه التأثيرات إلى العديد من السلع الأخرى. وهو ما يعكس أن
التضخم الذي يعيشه العالم اليوم هو تضخم مصدره الأساسي جانب العرض (الإنتاج)، وليس الطلب (الدخل أو الإنفاق).
وقد برز أثر التضخم بصورة واضحة على أسعار السلع في
مصر، وبدا الناس يشتكون من ارتفاع الأسعار وخرجت تعليقات وفيديوهات ساخرة لوصف ما يعاني منه المواطن المصري من ارتفاع الأسعار بصورة مبالغ فيها حتى ردد البعض أن
الحرب على أرض أوكرانيا والغلاء في مصر.
ومما لا شك فيه أن ارتفاع الأسعار لم يخص مصر وحدها، بل امتد إلى دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وحتى تركيا وغيرها، ولكن الوضع في مصر
أكثر سوءا إذا قيس ذلك بمستوى دخل المواطن المصري مقارنة بغيره من تلك الدول، لا سيما وأن التضخم في حقيقته يمثل انخفاضا للقدرة الشرائية لحاملي النقود، باعتباره ارتفاعا مستمرا في مستوى الأسعار، وهذا الارتفاع يخفض القوة الشرائية للنقود، والقيمة النقدية الثابتة للأصول التي يمتلكها الناس.
برز أثر التضخم بصورة واضحة على أسعار السلع في مصر، وبدا الناس يشتكون من ارتفاع الأسعار وخرجت تعليقات وفيديوهات ساخرة لوصف ما يعاني منه المواطن المصري من ارتفاع الأسعار بصورة مبالغ فيها
والتضخم بصفة عامة هو ظاهرة
اقتصادية واجتماعية مركبة ومتعددة الأبعاد والأسباب، وتمتد لكافة قطاعات النشاط الاقتصادي، وهو يعني حركة مستمرة من خلالها يرتفع المستوى العام للأسعار، أيا كان سبب هذا الارتفاع؛ سواء زيادة كمية النقود أو عدم التوازن بين التيار النقدي والتيار السلعي أو غير ذلك من الأسباب.
والتضخم بحق جريمة اجتماعية وسرقة لما في جيوب الشعوب، لا سيما إذا اتبعت الدولة سياسة مالية ونقدية تعتمد على التمويل بالعجز وطبع البنكنوت، وأسرت هدفها في زيادة أرباح المشروعات الاحتكارية وشبه الاحتكارية وامتصاص القوة الشرائية للعمالة المنتجة، وتحقيق اختلال بين أسعار المواد المصنعة والمصدرة من البلاد المتقدمة وبين أسعار المواد الأولية المستوردة من البلاد النامية؛ لصالح الأولى على حساب الثانية.
والارتفاع الملحوظ للأسعار يعد مؤشرا على تفاقم ظاهرة التضخم، وهو ليس الأثر الوحيد المتولد عن التضخم فالآثار الاجتماعية الخاصة به تنعكس على طريقة توزيع الدخل والقوة الشرائية للأفراد، فضلا عن الآثار التي يمتد تأثيرها على الجهاز الإنتاجي والعلاقات الاقتصادية في المجتمع، وتوزيع الدخول لصالح الأشخاص الاقتصادية القوية على حساب الأشخاص الاقتصادية الضعيفة بما يتجاوز في الأهمية مجرد الارتفاع في الأسعار، وفقد النقود وظائفها الأساسية كمخزن للقيمة ومقياس لها فضلا عن كونها وسيطا للتبادل.
والتضخم في حقيقته مصيبة اقتصادية، ولكن قد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد، فمن خلاله يربح بشر، ويخسر آخرون ولكنهم كثر. فالرابحون هم أصحاب المشروعات ويلحق بهم أصحاب المهن الحرة، حيث يواجهون التضخم برفع أسعار منتجاتهم سلعية كانت أو خدمية، بما يرفع من معدلات أرباحهم، بل إن المنتجين يحققون أرباحا إضافية نتيجة استفادتهم من كميات السلع المخزونة والمنتجة طبقا لنفقات ما قبل فترة التضخم، وحتى لو تمت زيادة الأجور، فان المشروعات تتوقع زيادة في الطلب على منتجاتها مع استمرار ارتفاع الأسعار، وهذا ما يجعلها تزيد من حجم إنتاجها وتستفيد بذلك من مزايا الإنتاج الكبير.
الخاسرون من التضخم فهم الأكثر نصيبا في المجتمعات من: المقرضين وصغار المدخرين والعمال وأصحاب المعاشات والفلاحين، فالمقرضون يتأثرون بالتغير في قيمة النقود بالانخفاض وفقدانها وظيفتها كمخزن للقيمة
أما الخاسرون من التضخم فهم الأكثر نصيبا في المجتمعات من: المقرضين وصغار المدخرين والعمال وأصحاب المعاشات والفلاحين، فالمقرضون يتأثرون بالتغير في قيمة النقود بالانخفاض وفقدانها وظيفتها كمخزن للقيمة، حيث يلتزمون باسترداد قروضهم بقوة شرائية أقل مما أعطيت. وفي المقابل فإن المقترضين هم المستفيدون لأنهم يسددون القروض بقيمتها الإسمية والتي تقل عن قيمتها الحقيقية وقت الاقتراض.
وفي ظل ظروف التضخم العادي أو اليسير (الذي يتغابن فيه الناس عرفا) لا يجوز شرعا للمقرض أن يطلب سداد القرض بقيمته الحقيقية بما يعادله من ذهب أو نحوه بسعر نفس يوم منح القرض، فهذا ربا، فالعبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار، ويحل شرعا سداد القرض أو الدين بنفس قيمته الإسمية بنفس العملة المقترض بها أو بعملة مغايرة بسعر يوم الوفاء للقرض.
ومع ذلك يمكن للمقرض في حالة توقع التضخم التحوط عند التعاقد بإجراء القرض أو الدين بغير العملة المتوقع هبوطها، وذلك بأن يعقده بعملة أكثر استقرارا كالدولار أو سلة عملات أو بالذهب ونحو ذلك.
كما أنه في حالة التضخم الفاحش (الذي لا يتغابن فيه الناس عرفا) فإنه يرجع في تقدير الدين إلى التراضي، وعند انعدام التراضي يرجع إما إلى القضاء أو التحكيم حسب الأحوال، ولا مانع عند حصول التضخم الفاحش بعد نشوء الدين من اتفاق الدائن والمدين عند السداد على رد الدين بالقيمة أو توزيع الضرر بين الطرفين صلحا، ويجوز إمضاؤه قضاء أو تحكيما، ولا يجوز الاتفاق على ذلك عند التعاقد، وفقا لما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
أما أصحاب الودائع في البنوك بالعملة المحلية لا سيما صغارهم، فهم من الخاسرين من التضخم حتى ولو كانت هناك زيادة في العائد على ودائعهم، فلن تعوض هذه الزيادة في حقيقتها التضخم.
العمال وما يلحق بهم من ذوي الدخول الثابتة فهم أيضا من الخاسرين من التضخم، حيث إن دخولهم ثابتة لا تتغير بتغير قيمة النقود، في حين أن دخولهم الحقيقية (أي قدرتهم على تحويل أجورهم النقدية إلى سلع وخدمات تتناقص)، وحتى لو استجيب لهم بزيادة أجورهم فإن ذلك لا يقلل من آثار التضخم الضارة
وللتحوط ضد انخفاض القيمة الحقيقية لودائعهم، يمكن لأصحاب هذه الودائع -الذين لا يعتمدون على عوائد ودائعهم في تلبية حاجتهم المعيشية الدورية- الاحتفاظ بالودائع بعملة مستقرة كالدولار، أو بشراء ذهب أو شراء عقار وتأجيره، أو تكوين محفظة استثمارية من كل ذلك، ويتوقف ذلك على حجم ما يمتلكونه من ودائع.
أما العمال وما يلحق بهم من ذوي الدخول الثابتة فهم أيضا من الخاسرين من التضخم، حيث إن دخولهم ثابتة لا تتغير بتغير قيمة النقود، في حين أن دخولهم الحقيقية (أي قدرتهم على تحويل أجورهم النقدية إلى سلع وخدمات تتناقص)، وحتى لو استجيب لهم بزيادة أجورهم فإن ذلك لا يقلل من آثار التضخم الضارة على الأجور، إذ غالبا ما تنقضي فترة زمنية بين ارتفاع الأسعار والزيادة في الأجور، كما أن الزيادة في الأجور تكون دائما أقل من الزيادة في الأسعار.
twitter.com/drdawaba