يتبادر في ذهن الكثيرين سؤالا يطرح نفسه: هل مصر مقبلة
على الإفلاس؟ وقد تباينت الإجابة على هذا السؤال ما بين مؤيد ومعارض، وحتى تتضح الحقيقة فإن الأمر يتطلب الوقوف على مفهوم الإفلاس وأسبابه وتبعاته، ومدى إمكانية تعرض الحالة المصرية لذلك.
بداية الإفلاس في تعريفه البسيط هو أن تكون الديون الحالّة على المدين أكثر من ماله، وهو يختلف عن التفليس الذي يعني حكم القاضي على المدين بالإفلاس بمنعه من التصرف في ماله. وإذا كان هذا بالنسبة للأفراد والشركات، فماذا عن الدول التي تمثلها حكومات؟
إنه ببساطة قد يكون من الصعوبة بمكان أن تجد دولة ذات سيادة ديونها الحالّة أكثر
مما تمتلكه، فهل هذا يعني عدم إطلاق مصطلح الإفلاس عليها؟
القول بإفلاس الدول إن لم يكن حقيقة لفظا فإنه بالطبع كائن مجازا، حيث إنه يتعلق بعجز الحكومة عن سداد ما عليها من ديون حالّة، لا عجز الدولة ذاتها
في الواقع أن الأمر في القول بإفلاس الدول إن لم يكن حقيقة لفظا فإنه بالطبع كائن مجازا، حيث إنه يتعلق بعجز الحكومة عن سداد ما عليها من ديون حالّة، لا عجز الدولة ذاتها. فالدولة لها ثلاثة أركان اساسية هي: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية. لذا فإن التخلف عن السداد السيادي يقابله مرادف حقيقة هو إفلاس الحكومات أو مجازا هو إفلاس الدول، وقد يكون هذا العجز بإعلان رسمي من الحكومة، بأنها لن تدفع ديونها كليا أو جزئيا، أو بدون أي إعلان رسمي.
وقد شهد العالم نماذج دولية للإفلاس، منها إفلاس دول مثل البرازيل والمكسيك والإكوادور والأورجواي وتشيلي وإسبانيا وغيرها. ومن النماذج القريبة للإفلاس نموذج الأرجنتين التي توقفت في العام 2001 عن سداد ديونها الخارجية التي بلغت نحو 132 مليار دولار، وعجزت عن الوفاء بالتزاماتها، ولجأت لصندوق النقد الدولي والالتزام بروشتته لعلاج أزمتها، ولكن جاءت النتائج باضطرابات واحتجاجات شعبية، نتيجة لإملاءات الصندوق التقشفية. كما كان نموذج اليونان واضحا جليا حيث أعلنت إفلاسها في العام 2012، لعجزها عن سداد ديونها التي وصلت لنحو نصف تريليون يورو، ولولا وقوف دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها ألمانيا معها -حتى لا تنتقل عدواها لدول الاتحاد الأوروبي- ما خرجت من أزمتها.
ويرجع أسباب التخلف عن سداد الدولة ديونها السيادية إلى الإفراط في الاقتراض، لا سيما حينما تكون تلك القروض غير منتجة ولا ينتج عنها قيمة مضافة أو توليد تدفقات نقدية للسداد، وتستخدم في مشروعات مظهرية، أو ترقيع القروض السابقة، فضلا عن ضعف الإيرادات في الدولة بصفة عامة، مما تضطر معه إلى المزيد من القروض لسداد ما استحق منها، وهو ما يدخلها في حلقة جهنمية من الاقتراض، ويجعل الدولة المقترضة تحت رحمة المقرض لا سيما في سعر الفائدة المرتفع، كتعويض عن خطر التخلف عن السداد.
يرجع أسباب التخلف عن سداد الدولة ديونها السيادية إلى الإفراط في الاقتراض، لا سيما حينما تكون تلك القروض غير منتجة ولا ينتج عنها قيمة مضافة أو توليد تدفقات نقدية للسداد، وتستخدم في مشروعات مظهرية، أو ترقيع القروض السابقة، فضلا عن ضعف الإيرادات في الدولة
ولا يعني إفلاس الدول إجبارها على سداد ديونها، فالحكومات ذات سيادة، وبمقتضى ذلك فإن لها السيطرة على شئونها الخاصة. ولكن في واقع الأمر فإن الدول المقرضة لا تقف مكتوفي الأيدي تجاه ديونها، حيث تقوم بالضغط على الحكومة المدينة للسداد، بل ووضع أيديها على أملاك الحكومة في الخارج، وإن كان يصعب عليها ذلك في الداخل من خلال إعلان الحرب، حيث حظر ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوة من قبل الدول بالتهديد بالحرب أو شن حرب ضد دولة مدينة لفشلها في سداد ديونها للاستيلاء على الأصول لإنقاذ حقوق دائنيها. ومع ذلك فإن هذا الأمر يتوقف على قوة الدولة، لا سيما وأنه كان نهجا متبعا من الدول الكبرى من قبل حيث فعلته المملكة المتحدة مع مصر في العام 1882م، وكذلك فعلته الولايات المتحدة مع فنزويلا في منتصف 1890م، واحتلال هايتي عام 1915م، كما احتل الفرنسيون إحدى جزر اليونان في عهد السلطان عبد الحميد الثاني من أجل دين على الدولة العثمانية لصالح شخص فرنسي.
وحينما تحدث حالة تخلف الدولة عن السداد أو تظهر بوادرها، فإن الحكومات تحاول مواجهة ذلك، ويتوقف ذلك على تصنيف الديون وفق عملتها، وكذلك جنسية الدائن (محلي أو دولي)، وكونه قطاعا خاصا أو دولة أو مؤسسة دولية. وغالبا ما تلجأ الحكومات لصندوق النقد الدولي للحصول على المزيد من القروض وتطبيق ما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي يتم معه اتخاذ تدابير تقشفية، وتعويم العملة، وبيع المزيد من الأصول الحكومية، وزيادة الضرائب، وهو ما ينعكس أثره سلبا على الحماية الاجتماعية.
كما قد تدخل الدولة غير القادرة على السداد في مفاوضات مع الدائنين لإعادة جدولة الديون، ومحاولة تخفيض أو شطب جزئي لها. وقد شهدت الأزمة الاقتصادية الأرجنتينية (1999-2002) شطب بعض الدائنين لنحو 75 في المائة من ديونهم المستحقة، في حين رفض آخرون ذلك وانتظروا تغيير الحكومة (2015م) للحصول على عروض تعويض أفضل لجدولة ديونهم.
في حالة تغير نظم الحكم بالثورات فقد يكون ذلك مدخلا مفيدا للتخلص من الديون، حيث يمكن للحكومة الجديدة التشكيك في شرعية الحكومة السابقة، وبالتالي التخلف عن سداد الديون السيادية باعتبارها ديونا بغيضة، باعتبار الديون البغيضة ديونا شخصية يتحملها النظام أو الحكومة وليس الدولة ككل، طالما أنها لم تؤد إلى تلبية احتياجات أو مصالح الدولة
وقد تتخذ الدول المدينة من نادي باريس مكانا لجدولة ديونها المتعثرة والحيلولة دون إعلان إفلاسها، وهو مجموعة غير رسمية مكونة من مسؤولين ماليين ممولين من 20 دولة جلها من أكبر الاقتصادات في العالم، تقدم خدمات مالية مثل إعادة جدولة الديون للدول المدينة بدلا من إعلان إفلاسها، أو تخفيف عبء الديون بتخفيض الفائدة عليها، وإلغاء الديون بين الدول المثقلة بالديون ودائنيها. وغالبا ما تتم التوصية أو تسجيل الدول المدينة بالنادي عن طريق صندوق النقد الدولي بعد أن تكون الحلول البديلة لتسديد ديون تلك الدول قد فشلت، وهذا يعني من الناحية العملية ضرورة أن يكون للدولة المدينة برنامج مع صندوق النقد الدولي مدعوم باتفاق مشروط.
كما أنه في حالة تغير نظم الحكم بالثورات فقد يكون ذلك مدخلا مفيدا للتخلص من الديون، حيث يمكن للحكومة الجديدة التشكيك في شرعية الحكومة السابقة، وبالتالي التخلف عن سداد الديون السيادية باعتبارها ديونا بغيضة، باعتبار الديون البغيضة ديونا شخصية يتحملها النظام أو الحكومة وليس الدولة ككل، طالما أنها لم تؤد إلى تلبية احتياجات أو مصالح الدولة، بل تم استخدامها لتدعيم النظام على حساب المواطن، وتوزيع المغانم على الفئة الحاكمة دون النظر إلى حقوق الشعب. ومن الأمثلة على ذلك: التخلف عن سداد ديون فرنسا بعد الثورة الفرنسية، والتخلف عن سداد السندات التي قامت به حكومة هولشتاين التي أنشأها الاتحاد الألماني بالدنمارك في عام 1850م ، وكذلك تخلف الحكومة البلشفية عن سداد ديون الإمبراطورية الروسية بعد وصولها للسلطة في عام 1917م.
twitter.com/drdawaba