كتاب عربي 21

قيس سعيد والميتافيزيقيا السياسية

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600

يتواصل الدوران حول نفس المكان، حيث استأنفت الأطراف الدولية ضغوطها على الرئيس قيس سعيد. يصدر بيان عن هذه الجهة، ثم يقع إجراء اتصال بأحد المسؤولين في تونس، بعد ذلك يقرر طرف آخر إرسال مبعوث أو وفد من أجل إحراج صاحب السلطة والقرار. 

في هذا السياق حل بتونس وفد عن الاتحاد الأوروبي الذي أعرب عن "قلقه الشديد من حل البرلمان". ودعا إلى "العودة في أقرب وقت إلى العمل الطبيعي للمؤسسات" وتنظيم "حوار شامل لكل الأطراف السياسية والاجتماعية". كما جددت المتحدثة باسمه التأكيد على "أهمية احترام المكاسب الديمقراطية، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون والحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك الحقوق المدنية والسياسية، بما يضمن استقرار البلاد وازدهارها".

ما لم يدركه الغربيون حتى الآن أن الرئيس سعيد لن يفهم لغتهم، ولن يستمع لنصائحهم، ولن يغير شيئا من سياسته، ولن يعدل منها وفيها أية جزئية قد ترضيهم. وما سيقولونه سيلقي به وراء ظهره، وسيعمل بعكسه تماما، وإذا لم يعجبهم ذلك، عليهم أن يشربوا من البحر.

أما الأدلة على ذلك فهي كثيرة. آخرها قراره حل البرلمان. هذا القرار الذي أثار كالعادة ضجة، واستنكرته أطراف خارجية دولية وإقليمية. مع ذلك استمر سعيد في ترديد قوله بأن الماضي لن يعود، ملوحا ببرلمان بديل سيكون وطنيا حسب قوله. وعوض أن يتراجع عن إحالة أعضاء البرلمان الذين تحدوه واجتمعوا افتراضيا وقرروا إبطال كل المراسيم التي أصدرها، حصل العكس، حيث تواصل التحقيق العسكري معهم كأن شيئا لم يكن! رغم مطالبة منظمة "العفو الدولية" بوجوب إسقاط التحقيقات ذات الدوافع السياسية ضد النواب في تونس.

الجهة الوحيدة الخارجية التي تم الرد عليها بقوة هذه المرة هي تركيا، وبالأخص رئيسها رجب أردوغان الذي سبق أن صرح بأن "حل البرلمان الذي يضم أعضاء منتخبين مثير للقلق بشأن مستقبل تونس وضربة لإرادة الشعب التونسي". فرد عليه سعيد "لنا سيادتنا واختياراتنا.. لسنا إيالةً، وعزتنا وكرامتنا قبل كل اعتبار، ولا يمكن أن ننتقل من مرحلة إلى أخرى بناء على الارتماء في أحضان الأجانب". 

كان ردا حادا بسبب العلاقة القوية التي تربط الرئيس التركي برئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، وبالتالي اعتبر أن موقف أردوغان مساندة مفضوحة لحركة النهضة التي تعتبر الخصم الرئيسي والمباشر لقيس سعيد. كما طالب أنصاره بطرد السفير التركي، دون إدراك أهمية تركيا على الساحة الإقليمية والدولية. 

 

يتواصل سعي الرئيس نحو خلط الأوراق، والبحث عن صيغ من خارج الدستور لقلب المشهد السياسي برمته، وفرض واقع بديل، دون النظر إلى الكلفة السياسية والاقتصادية لمثل هذا الأسلوب في إدارة شؤون البلاد والعباد. في المقابل تحاول المعارضة أن تسجل حضورها ولو بشكل رمزي، ولا يزال أملها معلقا بإمكانية بناء جبهة في وقت قريب تحت عنوان "الإنقاذ".

 



ما عبر عنه أردوغان ورد بصيغ مختلفة على لسان شخصيات ومؤسسات دولية، مع ذلك بقي الطريق معبدا أمام الرئيس التونسي لتنفيذ أجندته المثيرة للجدل. هو ليس رافضا لفكرة البرلمان، لكنه يؤمن ببرلمان مختلف عن المجلس النيابي الذي قام بحله قبل أيام قليلة، ويعمل على استبداله بآخر لا تكون الأحزاب مهيمنة عليه، ولا يتمتع بصلاحيات تنافس صلاحيات الرئيس، ولا يكون قادرا على معارضته والتمرد عليه وإبطال إجراءاته، ولا يتمتع بإمكانية سحب الثقة منه. برلمان ضعيف ومشتت، يتكون أساسا ممن سيتم انتخابهم عبر الاقتراع على الأفراد، ويمكن سحب الوكالة من أي واحد منهم، أي عزله واستبداله بآخر من قبل الناخبين. 

وعندما اعتبرت المعارضة والكثير من أهل الاختصاص أن كل طريقة الاقتراع هذه من شأنها أن تعزز فكرة الحكم الفردي، يحتج أنصاره، ويقولون إن البلاد في حاجة إلى حاكم قوي يدير شؤونها بعيدا عن الأحزاب واللوبيات والعصابات!

لكن معظم المهتمين بالشأن الانتخابي يؤكدون على أن نظام الاقتراع الذي يتمسك به الرئيس من شأنه أن "يشجع على الوجاهة العائلية والعروشية والمحلية"، وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى مجلس نيابي أسوأ من سابقه، لا برامج، ولا رؤى، ولا أفقا، ولا قدرة على تحقيق التوازن.

المعركة بين سعيد وخصومه لم تنته، فهي مستمرة، رغم أن المبادرة لا تزال بيد الرئيس. إذ يتواصل النزول إلى الشارع للتعبير عن التحدي ورفض الوضع الاستثنائي، لكن عدد المتظاهرين يقل يوما بعد يوم. أما الإحراج الخارجي للرئيس فبقي بدون فاعلية، ولم يتحول إلى إرادة مفضوحة من أجل إسقاط قيس سعيد والعمل على إزاحته كما ترغب في ذلك بعض الأطراف السياسية وتتمنى وقوعه. وهو ما جعل عديد المعارضين يدركون بأن تغيير موازين القوى لن يكون إلا عبر النضال الداخلي. وإذ يحاول الرئيس التلويح بورقة الحوار الوطني، والتأكيد على القول بأن ذلك قد بدأ فعلا بعد استقباله لعدد من ممثلي المنظمات، إلا أن الأمين العام لاتحاد الشغل اعتبر أن اللقاء الذي جمع قيس سعيد بأعضاء المكتب التنفيذي كان لقاء "بروتوكوليا ولا علاقة له بالحوار"، وأن الاتحاد لا يقبل حوارا لا تشارك فيه الأحزاب.

بناء على ما تقدم، يتواصل سعي الرئيس نحو خلط الأوراق، والبحث عن صيغ من خارج الدستور لقلب المشهد السياسي برمته، وفرض واقع بديل، دون النظر إلى الكلفة السياسية والاقتصادية لمثل هذا الأسلوب في إدارة شؤون البلاد والعباد. في المقابل تحاول المعارضة أن تسجل حضورها ولو بشكل رمزي، ولا يزال أملها معلقا بإمكانية بناء جبهة في وقت قريب تحت عنوان "الإنقاذ".


التعليقات (0)