#ابتسامات_رمضانية.. عندما غاص أبو حسن في عيون هنية (4)
محمد فهيم01-May-2203:49 PM
0
شارك
كاتب آخر
انطلق أذان الظهر، وهو ما يعني بتوقيت أبي حسن أنه حان الآن وقت الغداء، فعندها تتسمر أقدام أبي حسن ويغيب عقله إلا عن التفكير فيما ستحمله صينية الغداء اليوم، ومن سيحملها من النساء، وهل ترى هي بيضاء كحبات مسبحة معلمه التي تنير في الظلام، أم سوداء كليل ديسمبر ومثل أم حسن.
للحظات نسي الطعام والصينية والحسناء التي يحلم بها وتذكر كلماته التي يطلقها كلما رأى الست أم حسن: "يا مجمع الزفت أنا قلبي شبع منك لا موت بياخدك ولا مصيبة بتلمك"، والتي تصرخ عندها أم حسن في وجهه فينزوي بعيدا في أحد أركان دهليز بيته بجوار قفص الدجاج.
انتبه على آخر نداء في الآذان بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) والذي أطلقه الشيخ طه بصعوبة بدت على صوته المحشرج وكلماته المتقطعة، مع نفسه الضيق الذي يطرد الزفير بصعوبة أشد مما يدخل قفصه الصدري من شهيق بفعل سجائر اللف تلك التي لا يكاد ينهي واحدة منها حتى يُشعل الأخرى.
ولكن يبدو أنه نهار نادي، الصينية وصلت بدري وتحتها يمشي الهوينى قمر منير. تسمر أبو حسن في مكانه تحت لهيب الشمس، وقال بصوت سمعه الجميع: يخرب بيتك يا أم حسن. وألقى ما كان فوق كتفه الأيمن من قصعة مملوءة بالطين.
تسمر أبو حسن في مكانه تحت لهيب الشمس، وألقى ما كان فوق كتفه الأيمن من قصعة مملوءة بالطين. أغمض عينيه مرارا وفتحهما سريعا حتى أبقى عليهما في أوسع وضع لحدقيتيه دون أن يسمح لقرنيتيه أن تدوران أو جفنيه أن يتشابكان، إنها هنية ذات الطلة البهية ست الحسن والجمال التي يقصون عنها حكايات ألف ليلة وليلة.
انطلق أبو حسن، يهذي وكأنه قد طالته جرعة بنج من سرنجة الحاج عزب الزجاجية ذات الأسنان الطويلة العميقة المعقمة في طبق من الألومنيوم فوق الكانون، هو يمارس دور طبيب القرية التي لم تكن قد أنجبت طبيبا بعد، ومشفاها الحكومي تسكنه العناكب والثعابين والغربان.
بصوت مسموع للجميع، قال أبو حسن: عليا الطلاق ما بيفهم، حد يسيب القمراية دي ويموت، لو كنت أنا من تزوجت هنية ما كنت لأموت أبدا، ولكن ناس ليها هنية وناس ليها أم حسن سعدية.
سمعه المعلم، فانتبه لما يجري حوله، حيث توقف العمل وتسمر الجميع في أماكنهم ولم يعد يشغلهم سوى طبق البنور الذي قدم عليهم، وذلك الظل الهادئ الناعم الذي أطفأ لهيب شمس ظهيرة آب/ أغسطس، وتلك الرائحة التي لا يعرفونها ولم يشتموا منها إلا يوم عرسهم، فهم كل يوم من طلعتها وحتى غطستها في الطين والماء وعلى رؤوسهم الشمس والسماء.
جرى أبو حسن نحو هنية، مقررا أن يحمل عنها الصينية لعله يخطف نظرة من عينيها السوداوتين، أو يتسمع دقات قلبها الكمثري، أو يقترب من يديها الرقيقتين الناعمتين، أو يسمع عن قرب صوتها الذي يفوق سحره عذوبة صوت الست والصغيرة نجاة، أو حتى يستمتع برائحة عطرها، أو يتلمس ملابسها السوداء وشالها الحرير، وطعامها الذي تفوح رائحته وخاف أن تأتي على وقعه الجيران.
ولأن المعلم يفهم حيلة أبي حسن، فقد قرر أن يقطع عليه الطريق، مناديا عليه: يا أبو حسن، كلم أم حسن إنها تنادي عليك.
تسمر الرجل في مكانه فإنه لا يخاف في حياته أشد من روسية أم حسن، ولكماتها التي تصيب أنفه مباشرة عندما تعلم أن عينيه تزوغان على غيرها، أو أن يديه تخبئان من النقود التي يقبضها من معلمه أو الحلوى التي يشتريها خلسة من دكان الزاملي.
وبينما هو يلتفت باحثا بعينيه عن أم حسن، قفز المعلم في مهارة وشطارة واقتدار أمام هنية، وحمل عنها الصينية، وغاص في عينيها فوقعت في قلبه، ووقع في قلبها، وراح الرجل الستيني زوج الاثنتين يعاين هنية، إلا أن المعلم تسمر هو الآخر مشدوها مشدودا ونسي عماله والبناء وصاحب البيت، وزوجتيه.
بادرها دونما مقدمات قائلا: تتجوزيني.
نظرت نظرة عميقة في عيني المعلم، وجرت مبتسمة تهز رأسها فرحا، فوقعت من فوق رأسها حوايتها التي كانت تضعها أسفل الصينية كما كانت تحترف الريفيات في حمل الطعام للحقول وأماكن عمل الأزواج والآباء، والتي كانت دائما ما تجلب بعدها الحبيب ثم العريس ومن بعدهما الزوج ورفيق العمر.
سمع أبو حسن، طلب معلمه الزواج من هنية، تردد في أذنه طويلا، فقرر الانتقام من معلمه الذي خدعه وحرمه من نظرة في عين هنية.
لم يشغله طعام الغذاء كثيرا هذا اليوم، فهناك لدى أم حسن بقايا من البصارة التي صنعتها له الجمعة الماضية بمرقة البطة التي لحقتها سكين الست خضرة جارتهم يوم الخميس.
ظل أبو حسن صامتا لا يتكلم، والمعلم يسخر منه ويتهكم عليه والكل يضحك على أبي حسن حتى صار مسخرتهم لذلك اليوم.
تحامل أبو حسن على نفسه لأجل غرضه، وقال لمعلمه: مبروك يا معلم عليك ست العرايس، زين ما اخترت ونقيت.
غاب أبو حسن عن العيون متعللا بفك حسرة ثم صلاة الظهر، لكنه لم يركعها وظل على حسرته منذ رأى هنيه وخدعه معلمه، وقرر الذهاب إلى الحاجة زوجة معلمه ليقص لها حكاية هنية، وهو الذي مارس تلك الهواية سنوات يكشف أسرار معلمه لدى الحاجة مقابل ورك فرخة بلدي أو رأس سكر وزجاجة شربات بالمانجو أو حتى كوب شاي سكر زيادة يبيع لأجلها معلمه.
لكن أبا حسن هذه المرة، التقى جميل نجل المعلم، شاب مهيب معلم يفوق والده وأجداده في صنعتهم، فقص عليه الحكاية، وأوعز إليه أن هنية مهلبية وخسارة حد يلهف هذا الطبق غير حد جميل، كهنية المهلبية.
قرر جميل حماية والدته الحاجة من زيجة ثالثة قد تأتي على ما تبقى منها، واستعد لتنفيذ خطته بالاتفاق مع أبي حسن.
صلى المعلم العشاء، في المسجد كعادته، وجد أبوحسن عن يساره وهو يسلم، شك فيه الرجل، ولكنه راح يتلاعب بمعلمه ويقول: لا بد أن أكون معك في هذه الليلة المفترجة.
توجها من توهما نحو بيت هنية، والشوق يسبق المعلم الذي ظل صامتا طوال الطريق بعدما تاه في عيني هنية، وأبو حسن يبتسم تارة ويخفي بمكر ابتسامته مرة أخرى، متعجلا اللحظات حتى يتم الانتقام.
استقبلهما أهل البيت بالترحاب والسرور، فللمعلم صيت وسمعة لا يرفض له طلب، فانساب في الحديث طالبا يد هنية، في اللحظة التي دخل فيها نجله جميل، فتوقف المعلم عن الكلام وفهم أنها وشاية أبي حسن.
استقبل أبو حسن جميل استقبال الفاتحين قائلا للجميع: زغروطة يا بنات العريس وصل.
استبشر أهل العروسة، واستبشرت هنية، وخطب جميل المهلبية، وطارت من يد المعلم بحيلة أبي حسن، الذي زاغ واختفى بعيدا عن عيني معلمه وبلغته الموجعة لينهال بها ضربا على صلعة أبوحسن في علقة آتية لا محالة ولكنها تأجلت بعض الشيء.