كتاب عربي 21

مداخل التلبيس والالتباس.. مفاهيم ملتبسة (2)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

في كثير من الأحوال تمر علينا سياقات مختلفة ومشاهد متنوعة وتبرز كلمات، وتتوارى أخرى، وتأتي معان وتُطرد أخرى، ولا نحاول أن نتعرف على المداخل التي قد تفسر هذه الأحوال في عالم المفاهيم وميدان الكلمات. ونظراً لأنني قد اهتممت بمشروع المفاهيم منذ فترة طويلة، وما تطرقت إليه في هذا الباب وعملي المتواضع فيه؛ من إشكالات وتأويلات؛ فإن الأمر بالمجمل ربما يعود الى حال الالتباس والتلبيس المفاهيمي، حال الالتباس الذي يشير إلى الحيرة من جراء عوامل كثيرة، وعامل التلبيس الذي يشير إلى التعمد والقصد، وحال التبرير والتغرير الذي يتعلق بعالم الكلمات والأفكار والمفاهيم.

وكذلك حال السلطة التي تصدِّر كل ألوان الخوف، فتغلف عالم إدراك المفهوم بما يخدم تلك السلطة ومعالم طغيانها، والعوالم الرمزية التي يقوم عليها ذلك الرمز الشيطاني الذي يتلاعب بالعقول من خلال الكلمات والأفعال في تلك السياقات الشيطانية وغسيل المخ الجماعي، وعالم الخديعة والمخاتلة التي ترتبط بزخرف القول وربما فائض الكلام، وكذلك الكلام الساكت الذي لا معنى له وليس له من أثر حقيقي في حياة الناس، ليشكل بابا من أبواب اللغو المفاهيمي. كل ذلك يدور بين سياقات التلبيس ومشاهد الالتباس.

وكنت قد أشرت في المقال السابق إلى ضرورة الاهتمام بعالم المفاهيم لأهميته الكبرى في تمكين الهوية الثابتة والقدرة على التعبير عن الإرادة الواضحة؛ ليقوم عالم المفاهيم بكل وظائفه في البلاغ والبيان والإفصاح، ويشكل بذلك مدخلاً من مداخل بناء الوعي وترشيد السعي. إن عالم المفاهيم بما يمثل من عالم إدراكات يشكل في حقيقة الأمر أول عتبات الوعي الحضاري والتعرف على تلك المداخل السلبية التي قد تهجم على ميدان المفاهيم؛ إن وضعاً وإن نقلاً وإن تداولاً واستعمالاً، ومن المسائل التي تشكل مقدمات للوعي للتعرف على موانعه أو مواجهة محاولات تزييفه، فينتقل من تلك الحال لإدراك عالم السلبيات في المفاهيم إلى ضرورة بناء مفاهيمي، يسهم في ذلك الوعي الإيجابي والجمعي في الأمم والثقافات والحضارات والشعوب، فيشكل بذلك إطاراً مهما ليس فقط في بناء الوعي الآني، ولكن يسهم في تمكين الوعي الممتد، ولا يرتبط فقط بالوعي الفردي ولكن يبني صروحاً من الوعي الجمعي؛ كل ذلك أمر يتعلق بعالم الإدراكات والتصورات ويسهم في بناء الآراء والاتجاهات والمواقف والسلوكيات.

عالم المفاهيم بما يمثل من عالم إدراكات يشكل في حقيقة الأمر أول عتبات الوعي الحضاري والتعرف على تلك المداخل السلبية التي قد تهجم على ميدان المفاهيم؛ إن وضعاً وإن نقلاً وإن تداولاً واستعمالاً

وفي هذا المقام وفي صدر هذه السلسلة حري بنا أن نتناول تلك المداخل السلبية، مشيرين إلى المعاني التي تتعلق بالمفاهيم التي تقوم على بناء الوعي الشامل. إن إدراك مدخل المفاهيم العدوة والكلمات العدوة -والتي أشار إليها كل من صادق الرافعي وعبدالوهاب المسيري- ذلك المدخل الذي يحاول تمرير مصطلحات ومفاهيم العدو حتى تتمكن منا فتؤدي إلى هزيمة الإرادة المعنوية قبل أي هزيمة مادية، وتشكل الشروط المتعلقة بتغلغل تلك المفاهيم وتمكنها من النفوس فتشكل بذلك مدخلاً من مداخل انتصارات العدو في معركة المعنى والذاكرة المتعلقة بأمتنا.
مدخل الاستبداد الذي يتعلق بحال الطغيان والاستخفاف، وهو أمر شديد الخطورة حينما يتعلق بالحالة الفرعونية والطغيانية التي تصدر عالم المفاهيم الذي يضمن للاستبداد استمراره وللطغيان فرض سلطانه

أيضا مدخل الكلمات المظلومة التي أشار إليها "البشير الإبراهيمي" حينما تحدث عن ظلم الكلمات وعملية التضليل التي تتعلق بها للحقيقة والعقول، كذلك مدخل الاستبداد الذي يتعلق بحال الطغيان والاستخفاف، وهو أمر شديد الخطورة حينما يتعلق بالحالة الفرعونية والطغيانية التي تصدر عالم المفاهيم الذي يضمن للاستبداد استمراره وللطغيان فرض سلطانه.

وكذلك مدخل اغتصاب الكلمات ضمن ما يقوم من انقلابات؛ ذلك أن الانقلابات التي يمكن أن تحدث هنا أو هناك إنما تُحدث انقلاباً في عالم المفاهيم وعالم القيم والأخلاق، وما يرتبط بذلك من إدراكات حتى يوطن الانقلاب مفاعيله ويمرر خطابه ووطد نظامه.

ومن تلك المداخل أيضا مدخل العلاقة بين الغالب والمغلوب؛ الذي يقوم على التقليد والتبعية وفيه يحاكي المغلوب الغالب في مفاهيمه، حيث يبتلعها ابتلاعاً، أو يتزيّا بها من دون أن يفطن إلى معالم عدم مناسبتها أو تأثيراتها وفاعليتها، وتعبر عن حال الاستهلاك المفاهيمي الذي يضر به أو مستقبله.

ولعل كل ذلك يرتبط أيضا بمدخل خطير من جراء التفاعل الدوني والمنهزم في سياقات التغريب، أي اتباع سنَن الغرب وحضارته وثقافته وقيمه من دون مناقشة أو تعقيب؛ تحت دعوى "ارتقاء قيم الغرب وإنسانيتها وعالميتها".

ولعل عالم المفاهيم حينما يكون مسكوناً بحال السلطة والتسلط والصراع فإنه ينتج تلك المفاهيم التي تتعلق بالاستعباد والعبودية، فكان ذلك التمييز البصير الذي أتى به "أبو حيان التوحيدي" في كتابه المهم "رسالة في العلوم"، وكأنه يشير إلى تصنيف خطير ومهم يميز بين "المفهوم العبد" و"المفهوم الحر".

ومن أخطر المداخل كذلك مداخل التسميم السياسي والمعنوي والحضاري الذي يجعل الكيان الحضاري والاجتماعي في قابلياته واهناً خائراً فاقد الإرادة، فيتعامل مع عالم المفاهيم بمسلك مريض لا يحسن إطلاقاً إلا أن يتعامل مع عالم أفكار انتقده "مالك بن نبي"؛ بإسهاماته في رصد المفاهيم والأفكار الميتة أو المميتة أو القاتلة أو من نوع المفاهيم المخذولة والمنتقمة، وكذلك تبني المفاهيم المتخاذلة وبعض هذه المفاهيم التي تتحول من خلال "الفكرة الوثن" إلى "المفهوم الوثن".

وتبدو لنا كذلك مداخل الالتباس والحيرة في كثير من السياقات، والتي تشير إلى مداخل الحمولة السلبية في عالم المفاهيم التي تجعلنا نفر من أو نتخلى عن تلك المفاهيم، فنصاب بفوبيا المفهوم إن تداولاً وإن استعمالاً. وها هي المداخل التي تورث القلق والاضطراب أصلا من خلال "مدخل الحيرة" في عالم مفاهيم المراحل الانتقالية التي يختلط فيها الحابل بالنابل، ما لم يكن هناك عقل مُميز بصير يعرف للمراحل الانتقالية قدرها ويتعرف على عالم المفاهيم الانتقالي وضروراته.
ميزان المفاهيم الذي يفضح هذا التلبيس ويخرجنا من هذا الالتباس هو من صميم مهمة البيان التي ترتبط بعموم الإنسان، وتشكل في حقيقة الأمر بناء الرشد في وعيه وتمكين الفاعلية في سعيه

ولعل أيضا من مصادر ذلك الالتباس ما يعود إلى استخدام مدخل الثنائيات ضمن مظاهر كثيرة، وضمن عمليات تلقي خطيرة لتلك الثنائيات التي تسكنها حالة صراعية تؤدي في النهاية إلى حال من التنازع والفرقة والاستقطاب التي قد تتشكل في حروب أهلية كلامية، وكذلك مفاهيم تتعلق بمحاولات التجميل الكاذب؛ وتجميل القبيح باستخدام زخرف القول ومحاولات صناعة الصورة زيفاً وتزويراً.

مداخل بعضها من بعض تعبر عن مسالك عدة تؤثر على عالم المعاني فتوهن الإرادة الحضارية، وتشكل حالة من حالات الالتباس الجماعية وقابليات التلبيس؛ التي تثور مع كل حادث أو حديث يبرز فيه فيؤدي إلى حالات من الخضوع أو الخنوع أو من الخذلان أو التخذيل أو من التهوين أو التهويل أو من التطويع أو التطبيع.

وميزان المفاهيم الذي يفضح هذا التلبيس ويخرجنا من هذا الالتباس هو من صميم مهمة البيان التي ترتبط بعموم الإنسان، وتشكل في حقيقة الأمر بناء الرشد في وعيه وتمكين الفاعلية في سعيه. من أجل ذلك فإننا في مفتتح هذه السلسلة يجب أن نقف على تلك المداخل السلبية في عالم المفاهيم والتعرف عليها، ونحدد موضع الإشكال والخلل فيها، ونبين طرائق الاستجابات الفاعلة لها.

وضمن هذا الاهتمام وقبل التعرض لحزم مفاهيم بعينها تعالج كافة هذه المداخل، يأتي بيان خطورتها كل واحد منها في مقال مستقل يوضح الأضرار والمفاسد التي يمكن أن تلحق بالأوطان وكرامة الإنسان، وكذلك الوقوف على تلك الآثار ومدافعتها ضمن ساحة التدافع المفاهيمي لبناء وعي جديد، وتمكين مسالك سعي سديد.

 

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (1)
حمدى مرجان
الأربعاء، 18-05-2022 10:48 ص
قال احدهم : " الظواهر الاجتماعية معقدة ، والتنبؤ بنتائجها مستحيلا " ، فاذا كنت لا تستطيع التنبؤ بالنتيجة فلن تستطيع وضع الخطة التي تحصل بها علي النتائج المرجوة ، الا اذا كانت التيارات الفاعلة الرئيسية في المجتمع في نفس الاتجاه