في
المقال السابق عرضنا الجزء الأول من رسالة المثقف المنفي للديكتاتور الذي يحكم البلاد، من غير أن نفصح من يكون المثقف، ومن يكون الديكتاتور، لأن الغرض من الرسالة هو التعميم ومواجهة جنرالات
القمع بصورتهم وأفعالهم التي يحفظها التاريخ وتوثقها الكتابة. وفي هذا المقال نننشر الجزء الثاني من الرسالة:
.. وقيدوا الورود (1)
لم تعد البلاد إلا سجنا كبيرا مؤلفا من سجون صغيرة، كأنها قطار يتجه نحو الجحيم.
هذا التوصيف خطير جدا ومرعب جداً..
يقول اليائس المتعَب: "ربما هي النهاية".. ويقول المتفائل المؤمن بالإصلاح والتغيير: "ربما لدينا فرصة ضرورية لتبدأ النهضة".
السيد الرئيس.. أعرف مثلك أن الأوضاع صعبة، لكن علينا أن نراجع الخطايا أولاً..
جداول من عسل مر أغرقت البلاد في مستنقعات من الصمت الأبله..
كيف ستتقدم من دون نقد؟
كيف ستصحح الأخطاء؟
لقد فرضت الرقابة على كل شيء.. الصحافة والفن وكلام الناس.. ليس للشعب أدوات للتعبير عن نفسه، سواء لإظهار أوجاعه، أو لاقتراح الإصلاح
لقد فرضت الرقابة على كل شيء.. الصحافة والفن وكلام الناس.. ليس للشعب أدوات للتعبير عن نفسه، سواء لإظهار أوجاعه، أو لاقتراح الإصلاح.
يا للبلد المسكين.. حانة مشبعة برائحة البول، يختلط فيها الطعام بالأشواك، وتغرز فيها الكلاب المسعورة أنيابها في القلوب.
كان للإعلام مهمة معروفة، لكنه اليوم صار له مهمة مزدوجة: تضليلنا واتهامنا..
في "نقابتنا المريعة" مثلا، لم يفعل القيمون عليها شيئا حيال فضيحة منع الكتاب المعارضين من ممارسة مهنتهم (في الكتابة وإبداء الرأي)، على الرغم من وجود القوانين التي تحمي هذا الحق.. إن هؤلاء الأوصياء لا يدافعون عن الكتاب أبداً، لأنهم كلاب شرسة جاهزة لنهشنا ما لم نكن مطيعين مثل بقية القطيع.. إنهم رجال لبسهم العار.
أما الأغلبية الضعيفة، فكان لا بد لها من الكذب والخداع والانحناء المذل كشروط للبقاء في أمان الظل والذل.. لقد كانوا يتجنبون بكل الطرق أن يكون لهم ملف في جهاز الأمن، مع أن الكل لهم ملفات: الشهداء في القبور، الأبطال في المنافي والسجون، وأولئك الشهداء الذين تجهلهم فخامتك.. شهداء الصمت، أولئك البسطاء الذين يشعرون بالحرج في أعماقهم، ويعتبرون أنفسهم مذنبين، لأنهم خانوا أفكارهم ومعتقداتهم، وتظاهروا بغير ما يؤمنون، أو عاشوا في ظلال الخوف الرمادية محبوسي الأنفاس، لتجنب الوعيد والتنكيل.
الأغلبية الضعيفة، فكان لا بد لها من الكذب والخداع والانحناء المذل كشروط للبقاء في أمان الظل والذل.. لقد كانوا يتجنبون بكل الطرق أن يكون لهم ملف في جهاز الأمن، مع أن الكل لهم ملفات: الشهداء في القبور، الأبطال في المنافي والسجون، وأولئك الشهداء الذين تجهلهم فخامتك
لعلك تعرف يا فخامة الرئيس أن صحيفة عندك تلقت منذ بضعة أعوام مقالا لكاتب يطالب الرئيس الفرنسي ديجول بالتنحي، فتمت مصادرة العدد، لأن الرقيب رأى أن مقالا كهذا قد يُفهم باعتباره "نداء خبيثا" لكي تترك السلطة!
وفي مناخ كهذا كانت جميع التعليقات في الصحافة والراديو والتليفزيون تصب دائما وأبداً في صالح "معجزات وملاحم نظامك"، حتى أفرزت سيلا من المدائح والنفاق والتهليل..
مثل جنة للمجانين (2)
البلاد تأكل روحها، حيث لا حضور فيها لفنان أو كاتب حر أو مجنون جميل..
دعني أشرح لك هذه النقطة أيها الرئيس، دعني أخبرك كيف يعيش اليوم في البلاد كاتب مستقل لا يريد الانخراط في الفساد:
يعيش مهمشا منبوذا، عندما ينطق أحدهم اسمه بالصدفة في لقاء تلفزيوني أو مقال، تحذفه الرقابة وتضع مكان اسمه نقط أو كلمة "إلخ" أو "صفارة إذا كان الاسم منطوقا"، ويتم تحذير من نطق بالاسم بألا يتكرر ذلك. إنهم (واقعيا) ليسوا موجودين، أو يوجدون لشتمهم وفضحهم والنيل من سمعتهم، أما أعمالهم فمحجوبة وممنوعة، والإهانات توجه إليهم باستمرار، من دون أن يكون باستطاعتهم الدفاع عن أنفسهم او الاعتراض على ما يحدث ضدهم.. حيث يتحول المثقف إلى قطار شبح او بهلوان (3).
فخامة الرئيس:
أنت تختار كل "ممثلي الأمة" عبر أنظمة تمنع المعارضين من المشاركة في الحكم: العمدة.. المحافظ.. رئيس النقابة.. مسؤول الصحيفة.. إلخ.
الكثيرون من كل الفئات والتخصصات انخرطوا في الحزب الحاكم وعلقوا الشعارات والأعلام لكي لا يخسروا وظائفهم وأعمالهم الصغيرة التي يطعمون أولادهم من عوائدها الهزيلة.. لقد فعلوا ذلك بإخلاص سطحي، وأقنعوا أنفسهم بأنهم يفعلون ذلك تعبيرا عن حبهم للوطن.
كل الخطب والمناسبات تنتهي بتوجيه رئاسي موحد على أنغام النشيد الوطني: "يحيا فرانكو.. إلى الأمام يا إسبانيا..".
هذا هو الكفر بعينه..
الكفر الحقيقي (في رأيي) هو جعل السواد الأعظم من الناس يقاتلون طواحين الهواء..
نظامك القمعي لم يتسبب في تعطل رئتي فحسب، بل سلب مني "حق الشجرة في النمو على أرضها"، وهو حق الكتابة بلغتي.. حق الكتابة في وطني
يا فخامة الرئيس إن نظامك القمعي لم يتسبب في تعطل رئتي فحسب، بل سلب مني "حق الشجرة في النمو على أرضها"، وهو حق الكتابة بلغتي.. حق الكتابة في وطني، ومثل "سانت تريزا دي آفيلا" (4) خرجت وخرج الكثيرون إلى المنافي بحثا عن النجاة والعمل. وبرغم المسافة فإن الوشاية والتكميم والقيود وألسنة اللهب، لم تطفئ أنين الدم الذي تجاوز الجبال والبحار لتغرق أيامي في الهم.
(صناعة الموالاة)
سأحكي لك يا فخامة الرئيس عن كاتب ابتلعته سياط الوعيد في عصرك السعيد، لم يكن لديه شهرة ولا جمهور كبير، وكان مضطرا للعمل في الإعلام ليطعم عائلته ويغطي نفقات علاج زوجته الحامل، وفي يوم من أيام الأمل في تغيير حال البؤس كتبت مجموعة من المثقفين المتحمسين بيانا في شكل رسالة إليك، رسالة مهذبة احترمت شخصك ولم تتجاوز في أي شيء، كل ما فيها أنهم طالبوا بوقف التعذيب في السجون وأقسام الشرطة والاهتمام بالحريات، واقترحوا بعض الإصلاحات التي تفيد نظامك.
وفي لحظة صدق مع النفس وإحساس بما يحدث في البلاد وضع الكاتب توقيعه على البيان الذي لم ينشر أبدا في البلاد، والرسالة التي لم تصل إليك، وفي صباح اليوم التالي كانت جهات الأمن وأصحاب العمل على علم بمضمون الرسالة وتوقيع الكاتب، فهددوه إن لم يسحب توقيعه سيخسر عمله ويذهب إلى السجن. وفي موقف ملحمي قال الكاتب إنه مستعد للموت جوعا والذهاب إلى السجن للحفاظ على كرامته وحقه في التعبير عن رأيه.
وعندما عاد إلى منزله في المساء فوجئ بخبر نقل زوجته إلى المستشفى مصابة بنزيف حاد بعد أن أبلغوها بالمصير المنتظر لزوجها، وإن لم تتوفر لها رعاية صحية مناسبة ومكلفة ستتعرض للإجهاض وتفقد جنينها. وبعد يوم واحد كانت الصحف تنشر خبر تكذيب الكاتب للتوقيع على البيان، وأن عصابات أهل الشر تكذب وتلفق توقيعات أشخاص لا يمكن التشكيك في ولائهم للنظام. وبهدف إذلال الكاتب أمام الجميع تم تعيينه في الرقابة الخبيثة على الصحف!!
فهل يجرؤ أحد على رمي فخامتك بحصاة من دون أن يتعرض لمفرمة القهر والهلاك؟
فلينتقموا، لا يهم، المهم هو الرسالة، وما من شيء أو أحد سيمنعني من كتابتها، لأنها ليست لشخصك ولا تراهن على فهمك، لكنها بالأساس لتسجيل فظائع عهدك أمام التاريخ والأجيال اللاحقة، وإثبات أن هناك تحت القهر أصواتاً تم كتمها ورسائل تم دفنها وحقيقة تم تزييفها
وهل يجرؤ أحد على ذكر مصير الأشخاص الذين عارضوك وتجرعوا المأساة بين السجون والتشريد والمنافي؟ لقد صار البلد كله تحت توجيه الثيران العنيفة وتهديد السيوف العمياء.
ذلك كله لم يمنعني يا فخامة الرئيس أن أكتب إليك. قال لي كثيرون إن الكتابة لك بلا جدوى، وقال آخرون إنها تعني أنك لا تعرف ما نعرفه..
قد يكون كل ذلك صحيحاً، لكنني لا أهتم به الآن، فقط أتمنى لو تقرأ هذه الرسالة الصادقة لعلها تكون مفيدة وبنّاءة.
البعض قال لي محذراً إن شرطتك ستنتقم، وتجعل حياتي مستحيلة (أكثر مما هي عليه اصلاً). أعتقد أنها فعلت وستفعل، فلينتقموا، لا يهم، المهم هو الرسالة، وما من شيء أو أحد سيمنعني من كتابتها، لأنها ليست لشخصك ولا تراهن على فهمك، لكنها بالأساس لتسجيل فظائع عهدك أمام التاريخ والأجيال اللاحقة، وإثبات أن هناك تحت القهر أصواتاً تم كتمها ورسائل تم دفنها وحقيقة تم تزييفها.
وللرسالة بقية..
هوامش وتفسيرات:
ــــــــــ
(1) "وقيدوا الورد": عنوان مسرحية لفرناندو آرابال تروي حكاية كاهن يستعين بقداسة الخطاب الديني، في التعاون مع نظام القمع والظلم وتبرير السجون، والمسرحية تفضح تحالف الديكتاتوريات السياسية والدينية من أجل إخضاع الشعوب.
(2) "مثل جنة للمجانين": عنوان رواية لفرناندو أرابال تحكي عن الموهوبين المنبوذيين والمهمشين في المجتمعات الغارقة في التقليد والتزييف.
(3) في مسرحية بعنوان "الحبل المرخي أو موال القطار الشبح" يقدم الكاتب الإسباني فرناندو آرابال شخصية البهلوان باعتبارها رمز للحرية نفسها، وفي أحد حواراته يقول البهلوان: "الكلام عني ممنوع، والكلام عن قيمتي ودوري ممنوع، الكلام الوحيد المسموح عني هو شتمي والتحريض ضدي والوشاية بي".
(4) "سانت تريزا دي آفيلا": طبيبة وكاتبة وراهبة إسبانية من القرن 16، تمردت على الكنيسة والسلطة السياسية، وتم نفيها واضطهادها، وبعد أربعة قرون من وفاتها اعتذرت الكنيسة واعترفت بقداستها واعتبارها رمزا روحيا لحركة التجديد الديني، ونالت شهرة وقادسة كبيرة في إسبانيا وصلت إلى حد تفاخر الحكام باقتناء قصاصات من ثيابها وآثارها المتبقية، وحتى بقايا عظامها، فقد سرق الديكتاتور فرانكو جزءا من ذراعها واحتفظ به للذكرى والتفاخر والتبرك!
[email protected]