قضايا وآراء

"التأسيس الجديد" في تونس وملف التطبيع

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

منذ القمة الاستثنائية التي عُقدت في الدار البيضاء في أيار/ مايو التي شهدت عودة مصر "المطبّعة" إلى الجامعة العربية -قبل أن يعود مقر الجامعة إلى القاهرة سنة 1990- كان واضحا أن التوجه العام للدول العربية هو التطبيع مع دولة الاحتلال. وقد جاءت قمة بيروت آذار/ مارس سنة 2002 لتؤكد هذا التوجه، عندما أقرت الدول العربية مبادرة السلام التي اقترحها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزير.

فمبادرة السلام تعترف بحق "إسرائيل" في الوجود، لكن في إطار حل الدولتين على حدود 1967. ورغم أن تلك المبادرة السعودية جاءت لتعلن استعداد الدول العربية للسلام الشامل ولتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني مقابل تأسيس دولة فلسطينية على حدود 67 لا على حدود 48، فإن "إسرائيل" لم تقبل بمبادرة السلام العربية، وواصلت سياساتها الاستيطانية في القدس والضفة الغربية. ولكنّ ذلك لم يحمل الجامعة على تعليق مبادرتها للسلام أو سحبها، بل رأينا دولا عربية كثيرة تسارع إلى التطبيع في مبادرات منفردة، بدءا من الأردن، ومرورا بالبحرين والإمارات والسودان، وانتهاء بالمملكة المغربية.

رغم أن تونس لم تُقم علاقات ديبلوماسية مع "إسرائيل"، فإنها قد بادرت منذ سنة 1996 إلى فتح مكتب للاتصال في تل أبيب وعينت على رأسه خميس الجهيناوي. كما كانت الدولة في عهد المخلوع حريصة على الترحيب الحار بكل اليهود الذين يأتون لزيارة معبد الغريبة بجزيرة جربة، لكن مع الحرص على إظهارهم في صورة اليهود من ذوي الأصول التونسية، لا على أنهم من الإسرائيليين الحاملين لأكثر من جنسية. لقد كان النظام يعرف مقدار الرفض الشعبي للتطبيع، ولذلك حاول إدارة هذا الملف -في الغالب-، بعيدا عن الإعلام وعن أية استفزازات للوعي الجمعي.

بعد الثورة، انتظر الكثير من التونسيين التنصيص على تجريم التطبيع على الأقل بنص قانوني (بحكم صعوبة التنصيص عليه في الدستور)، ولكنهم فوجئوا بالصعود الصاروخي لخميس الجهيناوي، الذي كان رمز التطبيع في عهد المخلوع

وبعد الثورة، انتظر الكثير من التونسيين التنصيص على تجريم التطبيع على الأقل بنص قانوني (بحكم صعوبة التنصيص عليه في الدستور)، ولكنهم فوجئوا بالصعود الصاروخي لخميس الجهيناوي الذي كان رمز التطبيع في عهد المخلوع.

لقد كان تعيين الجهيناوي كاتب دولة لدى وزير الخارجية في 2011 و2015، ثم تعيينه مستشارا للرئيس المرحوم الباجي قائد السبسي مكلفا بالديبلوماسية، وبعد ذلك وزيرا للخارجية في حكومة الحبيب الصيد، رسالةَ طمأنة لـ"أصدقاء إسرائيل" والقوى الداعمة لها، وهي نفسها القوى الداعمة لـ"الانتقال الديمقراطي" في تونس.

إن تكليف أحد رموز التطبيع بملف الخارجية -وعجز كل القوى الثورية والإصلاحية عن إسقاطه-، دليل على هيمنة المنظومة القديمة على القرار السيادي، كما أنه دليل على عدم انفصال مساري "التطبيع": التطبيع مع المنظومة القديمة واحتلالها لمركز القرار السياسي، والتطبيع مع الكيان الصهيوني أو على الأقل عدم معاداة صفقة القرن، باعتبارهما شرط الاعتراف الدولي بـ"الثورة" التونسية ودعم الجهات المانحة لها.

في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، كان الموقف الرافض بصورة مبدئية للتطبيع، هو ما رجّح كفة المرشح قيس سعيد في الدور الثاني أمام المرشح نبيل القروي. فقد صرّح السيد قيس سعيد أكثر من مرة بأنه سيقترح مشروع قانون يعتبر التطبيع خيانة عظمى، واستعاد الموقف ذاته في المناظرة التلفزية مع خصمه السيد نبيل القروى، بل حتى بعد وصوله إلى قصر قرطاج في حوار شهير مع إذاعة موازييك. ولكنّ ما وقع بعد ذلك، يجعلنا نعتبر موقف الرئيس خلال حملته الانتخابية وفي الفترة الأولى من توليه الرئاسة ضربا من "التزييف العميق" (Deepfake)، لكن ليس في المستوى التقني بل في المستوى السياسي؛ فقد جاءت الأحداث لتؤكد أن موقف الرئيس من التطبيع لم يكن إلا موقفا انتخابيا دعائيا، لا علاقة له بأية قناعات فكرية.
موقف الرئيس خلال حملته الانتخابية وفي الفترة الأولى من توليه الرئاسة، ضرب من "التزييف العميق" (Deepfake)، لكن ليس في المستوى التقني بل في المستوى السياسي؛ فقد جاءت الأحداث لتؤكد أن موقف الرئيس من التطبيع لم يكن إلا موقفا انتخابيا دعائيا، لا علاقة له بأية قناعات فكرية

لو بحثنا عما يسند موقفنا من اعتبار مواقف السيد قيس سعيد من التطبيع ضربا من "التزييف العميق"، فإننا سنجد أكثر من دليل، بدءا من موقفه من اغتيال المرحوم محمد الزواري على يدي الموساد (ورفض إعطاء الجنسية التونسية لأرملته الفلسطينية، رغم أنه لم يتردد في منح الجنسية لأحد الصحفيين الفلسطينيين المعروف بمعاداة الثورة التونسية والمقاومة الوطنية والإسلامية الفلسطينية)، مرورا برفض استقبال ممثل حركة حماس، وحرصه على تحسين العلاقة مع السلطة الفلسطينية" المطبّعة"، وانتهاء بتحالفه مع "محور الثورات المضادة"، الذي هو محور التطبيع بامتياز، بل هو عرّاب صفقة القرن التي تحاول إنهاء القضية الفلسطينية بإنشاء دولة فلسطينية في سيناء، والاعتراف بأن "إسرائيل" هي دولة لليهود دون سواهم، وأن القدس هي العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني.

إن تراجع الرئيس عن إصدار قانون تجريم التطبيع رغم استحواذه بعد 25 تموز/ يوليو على كل السلطات، هو أمر مفهوم بل متوقع رغم كل مزايداته خلال حملته الانتخابية. فـ"التأسيس الجديد" الذي ينادي به الرئيس منذ 2013، لا يمكن أن يكون معاديا حقيقيا للتطبيع دون مراجعة العلاقة مع فرنسا ومع سائر القوى الغربية الداعمة للكيان الصهيوني، التي مازالت تتحكم في المشهد التونسي، كما أن "التأسيس الجديد" لا يمكن أن يتجاوز مستوى "التأنقات اللفظية التي مدارها الفراغ"، بحكم تذيله لمحور "التطبيع" الإماراتي-السعودي-المصري، وتبني مقاربته للعلاقة مع "الإسلام السياسي" (خاصة موقفه من الحركات الإخوانية التي تنتمي إليها "حماس")، بل تبني مواقفه السلبية من مكتسبات الربيع العربي والتقاطع معه في مواقفه من القضايا الإقليمية (خاصة الموقف من الأزمة الليبية).

"التطبيع" سيكون "الملاذ الأخير" للرئيس قيس سعيد لضمان البقاء في السلطة، خاصة أن المحيطين به (خاصة أولئك الذين يُشرفون على كتابة مشروع الدستور الجديد، من المنادين بحذف الفصل الأول الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة)، لا يُعرفون بأي عداء للتطبيع قبل الثورة أو بعدها، بل يُعرفون بالتوجه اللائكي الراديكالي 

بعيدا عن الادعاءات الذاتية "للتأسيس الجديد"، الذي جعل "حالة الاستثناء" مرحلة انتقالية لبناء "الجمهورية الثانية" -أي واقعيا فرصة لإنهاء "الربيع 1"، وإعادة هندسة المشهد التونسي، بفرض إملاءات الجهات المانحة، والدفع نحو التطبيع باعتباره ضرورة لتجنب الإفلاس- يبدو أن ملف التطبيع محدد قوى لمواقف القوى الدولية من "تصحيح المسار" وخارطة طريقه (خاصة مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأروبي). كما يبدو حسب القناة الإسرائيلية الناطقة بالعربية (i24NEWS Arabic) وصحيفة "إسرائيل اليوم"، أن السماح برحلات مباشرة بين دولة الاحتلال وتونس -باستعمال جوازات سفر إسرائيلية-، لم يكن إلا رسالة "حسن نية" بعث بها الرئيس قيس سعيد، بالتوازي مع "مباحثات ديبلوماسية بين تونس وإسرائيل بشأن تقارب تطبيعي محتمل".

ختاما، لا شك عندنا في أن "التطبيع" سيكون "الملاذ الأخير" للرئيس قيس سعيد لضمان البقاء في السلطة، خاصة أن المحيطين به (خاصة أولئك الذين يُشرفون على كتابة مشروع الدستور الجديد، من المنادين بحذف الفصل الأول الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة)، لا يُعرفون بأي عداء للتطبيع قبل الثورة أو بعدها، بل يُعرفون بالتوجه اللائكي الراديكالي وبمعاداة الهوية وحركات الإسلام السياسي "الإخواني" (بما في ذلك حركة المقاومة الإسلامية حماس). ومهما كان الدور الذي سيلعبه الرئيس قيس سعيد في أية تسويات سياسية تفرضها القوى الدولية، فإن دوره الحالي هو تفكيك كل مخرجات الربيع العربي 1 في تونس، وربما سيكون دوره مشابها لدور أنور السادات أو غيره في التطبيع مع دولة الاحتلال، وجعل ذلك أمرا واقعا يصعب على من يأتي بعده تغييره.

ولعلّ هذا الدور هو ما يمد في أنفاس الانقلاب، ويجعله يواصل طريقه رغم كل أنواع المعارضة النخبوية والشعبية، ورغم كل بيانات "القلق الشديد" الصادرة من القوى الغربية. ولكنّ السؤال الذي يجب طرحه هنا هو التالي: هل يكفي مسار "التطبيع" لقبول القوى الغربية بمشروع الرئيس قيس سعيد للتأسيس الجديد، ذلك المشروع القائم على نفي الحاجة إلى كل الأجسام الوسيطة، أو على الأقل تدجينها وجعلها مجرد ملحقات وظيفية بقصر قرطاج وبالنواة الصلبة للمنظومة القديمة؟ أم إن "التطبيع" هو شرط ضروري ولكنه غير كاف، مما يعني أن على المنظومة التي تقف وراء الرئيس أن تعدّل خارطة الطريق، التي وضعتها لضمان تحقيق الأهداف الرئيسية من "تصحيح المسار": تحجيم الإسلام السياسي بعيدا عن منطق الاستئصال والمواجهة الأمنية المفتوحة، وبناء نظام رئاسي ومركزة السلطة في قصر قرطاج، وإضعاف العمل النقابي لتمرير الإملاءات الاقتصادية (داخليا)، والتطبيع مع دولة الاحتلال (خارجيا)؟

 

 

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)