وجهة نظري أن الضعيف لا يمكن أن ينتصر على القوي أبداً، ولا حل أمام الضعيف لينتصر؛ إلا أن يصبح أكثر قوة من عدوه الذي يحاربه، تلك بديهية قد تحتاج عند البعض لدلائل تثبتها. وربما كان منطق المعترضين معتمداً على القرآن، الذي أكد أن فئة قليلة قد تغلب فئة كثيرة، ولكن أولئك لم ينتبهوا إلى أن القلة شيء غير
الضعف، فقد تكون القلة أكثر قوة، وها هو الكيان الصهيوني قلة يواجه كثرة عربية وإسلامية، لكنه أكثر قوة في بعض جوانب
الصراع.
وأنا هنا أود التنبيه إلى أن
القوة لا تعني فقط جيشاً أكبر عددا من جيش آخر، ولا تعني كذلك فقط تسليحاً أفضل من تسليح، لكنها تعني مجموعة من الظروف والمقدرات التي تنتظم معا بطريقة فاعلة؛ لتجعل من طرف ما أقوى من طرف آخر أكثر عددا وعدة.
وكثير من دارسي تاريخ الأمة لم ينتبهوا إلى هذه القضية، ففسروا كثيرا من الانتصارات العظمى التي حققتها قلة مؤمنة على قوى أكثر منها تسليحا وعددا، بأنها تمت بفضل الإيمان بالله، والتوكل عليه وحده.
والإيمان من أعظم أسباب الانتصار دون شك، لكن ذلك لا يفسر لنا لماذا هُزمت تلك الجيوش ذاتها في معارك أخرى، فتفسير انتصار صلاح الدين في معركة حطين بالإيمان فقط، لا يعطينا جوابا لسبب هزيمته أو تعثره في معارك أخرى سبقتها أو تلتها، فإذا كان مؤمنا في الأولى، فهو في الثانية مؤمن في غالب الظن.
إذاً كيف يمكن للضعيف عددا أو عدة أن يصبح أكثر قوة من خصمه، وما هي تلك الظروف التي قلنا إنها ينبغي أن تنتظم معا لتجعل منه قوياً؟
والجواب على ذلك في التالي:
أولاً: موقع المواجهة:
يلعب الموقع الذي يكون فيه كل طرف من طرفي الصراع دورا مهما في زيادة قوة أحدهما أو ضعفه، فرجل واحد يقف على سطح عمارة مغلقة الباب؛ وإلى جواره كومة من حجارة البناء؛ أكثر قوة من مئة رجل يقفون أسفلها.
ومن هنا كانت أهمية الموقع الجغرافي، والتضاريس، والظروف المناخية، والقرب من الممرات المائية، وأهمية المسافة التي ينبغي على الجيوش قطعها للوصول إلى قلب معاقل العدو، أو المساحة التي ينبغي السيطرة عليها لحسم المعركة معه، أو الانتشار فيها لفرض حصار مطبق عليه.
ولقد هُزمت جيوش لأن خطوط إمدادها صارت طويلة جدا بعد انسحاب العدو داخل أرضه، وهُزمت أخرى لأنها غاصت في الوحل بسبب فيضانات الأنهار، أو لأنها خاضت معركة مع عدو تمركز في مناطق جبلية وعرة.
ومن أهم الأمثلة على ذلك هزيمة نابليون وهتلر في غزوهما لروسيا، بسبب طول الطرق المطلوب قطعها للوصول إلى أعماق روسيا واتساع مساحتها، ما يتيح لجيشها الانسحاب إلى الأعماق وتجنب المعركة، وبسبب قسوة المناخ.
ثانياً: توقيت المواجهة:
يلعب توقيت المواجهة دوراً كبيرا في زيادة القوة أو الضعف، فأن تباغت عدوا نائما يجعلك أكثر قوة، وكذلك أن تهاجم عدوا منهكا، أو منشغلا في صراع آخر، داخلي أو خارجي، أو مرتبكا سياسيا أو عسكريا.
ومن هنا كانت أهمية انتظار الفرص، والاستعداد لاغتنامها، لأنها إن ضاعت لن تتكرر إلا بعد سنوات أو أجيال، ففي الحالة الفلسطينية سيكون يسيرا أن نحرر أرضنا إذا كنا جاهزين لاغتنام لحظة يخوض فيها العدو حربا أهلية، أو حربا مع طرف إقليمي بعيد، أو ينشغل عنه حلفاؤه بحرب عالمية واسعة، أو أثناء كارثة مدمرة.
ومن هنا كانت أهمية اختيار المصريين ليوم الغفران الذي يعد من أهم أعياد الصهاينة لبدء حرب أكتوبر، حيث يؤدي الانشغال بالأعياد لتقليل أعداد الجنود والضباط الجاهزين لخوض المعركة، ويؤخر حضورهم إلى ميادين القتال.
ثالثاً: طريقة المواجهة:
من أهم المؤثرات في قضية الضعف والقوة الطريقة التي تحارب بها، فلو افترضنا أن المقاومة الفلسطينية حاربت في معركة سيف القدس كما يحارب أي جيش نظامي لتعرضت للإبادة، وكثير من الانتصارات الكبرى أثّر فيها طريقة القتال، فأحد أهم أسباب انتصار المغول مثلا طريقتهم في المواجهة.
وقد قرأت مرة أن القادة الذين حققوا انتصارات كبرى في التاريخ فعلوا ذلك لأنهم اكتشفوا سلاحا جديدا، أو طريقة قتال جديدة، وبشكل عام تعد المبادرة، والمباغتة، والجرأة، والمخاطرة المعقولة من أسباب زيادة القوة بشكل كبير.
رابعا: استثمار نقاط القوة والضعف:
لكل طرف في أي صراع نقاط قوة ونقاط ضعف، وتزداد القوة عندما نضرب نقاط ضعف العدو باستخدام نقاط قوتنا، أو عندما ندخل معه مواجهة تمكننا من تحييد نقاط قوته، واستثمار نقاط قوتنا.
ولتوضيح هذه الفكرة لنا أن نتخيل لو أن المقاومة الفلسطينية استطاعت أن تفرض على العدو معركة، لا يتمكن خلالها من استخدام سلاح الطيران، في هذه الحالة تغيب نقطة قوته الرئيسية، وتحضر نقطة قوة المقاومة الأساسية، وهي شجاعة وبسالة الجندي واستعداده للتضحية.
خامساً: فرض المواجهة على الخصم والإفلات من محاولاته فرضها:
لا يصح للقادة العظام أن يكونوا ردات فعل لتصرفات خصومهم، بل الأصل أن يختاروا هم لحظة المواجهة، ومكانها، وظروفها، ويجبروا العدو على خوضها وفق اختياراتهم، كما فعل صلاح الدين الأيوبي عندما أجبر الصليبيين -من خلال حصاره لقلعة طبريا- على خوض المواجهة في شهر تموز/ يوليو، وهو الأكثر حرارة في فلسطين، في المكان الذي اختاره، حيث أجبرهم على السير لمسافة طويلة، حدد لهم الموقع الذي يعسكرون فيه، لأنه سبقهم بالسيطرة على المكان، ثم أشعل الأعشاب من حولهم.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلقد نجح في الإفلات من المواجهة التي حاولت قريش وحلفاؤها فرضها عليه في غزوة الأحزاب بحفره للخندق.
كانت تلك باختصار أهم عوامل القوة، التي يمكن للقادة المبدعين صناعة خلطة منها، ومن غيرها، ليكونوا قادرين على تحويل الضعفاء إلى أقوياء، يسحقون خصومهم المعتدين الظلمة، وينقذون شعوبهم من الاستضعاف والظلم.