زرت
سريلانكا مرتين في حياتي الصحافية، الأولى يوم وقع زلزال تسونامي عام 2004 فتضررت
منه البلاد، كما تضررت بقية دول جنوب وجنوب شرق آسيا، أما المرة الثانية، فيوم
عقدت انتخابات عامة فيها، بينما كانت البلاد تصارع في حرب طويلة الأجل مع نمور
التاميل 2010، وفي كلتا الحالتين وجدتها بلداً أمنياً بامتياز، حيث البوليس السري
يطاردنا كصحافيين في كل مكان، ويمنعنا حتى من إجراء مقابلات على الهواء مباشرة، في
وقت يُفترض أن يكون حدثٌ كهذا عرساً انتخابياً، ومحل احتفاء الحكومة أولاً
وأخيراً، ولكن ذلك لم يتم، فقد غلب الطبع التطبع كما يقولون، وظهر حكم الأخوين
غوتابايا، راجا باكسا ومعه شقيقه ماهيندا، في تعاملهما مع الحياة السياسية
والاقتصادية السريلانكية كشأن عائلي، أبعد ما يكون عن حكم بلد يجري انتخابات، ويقدم
ما يفترض أن يكون حكومات ديمقراطية منتخبة، ما دامت البلاد قد حُكمت لعقود بسلالة
عائلية واحدة.
طغى الحدث
السريلانكي على وسائل الإعلام العالمية، لا لأهميته الداخلية فحسب، وإنما لإمكانية
استنساخه في دول أخرى تعيش
أزمات شبيهة وربما أشد حدّة مما تعيشه سريلانكا ذاتها،
وبدأت بعض الدول تتحسس رأسها في أن تنتقل إليها العدوى، لا سيما بعد أن حلّت
الانتفاضة السريلانكية ضيفاً جديداً وسريعاً على الأرجنتين، فاستهدف المتظاهرون في
الأرجنتين القصر الرئاسي تماماً، كما فعل أترابهم في سريلانكا واحتلوه عند هرب
الرئيس غوتابايا راجا باكسا إلى المالديف، بينما شوهدت حقائب أموال منهوبة يجرها
مؤيدوه إلى سفينة راسية على الشاطئ السريلانكي، مما ذكّر العالم بحقائب الأموال
التي نقلها الرئيس الأفغاني أشرف غني قبل أقل من عام بينما كان يهرب من كابول إلى
دبي.
تماماً كالرئيس الأفغاني لم يجد الرئيس السريلانكي الوقت لمخاطبة شعبه قبل الهروب، وربما لم يجد كلمات، أو مبرراً ليقول لهم شيئاً
تماماً
كالرئيس الأفغاني لم يجد الرئيس السريلانكي الوقت لمخاطبة شعبه قبل الهروب، وربما
لم يجد كلمات، أو مبرراً ليقول لهم شيئاً، ولعل ما تفوّه به الرئيس التونسي زين
العابدين بن علي عشية انطلاقة باكورة ثورات الربيع العربي: "لقد
فهمتكم"، لم يقوَ أو لم يشأ الرئيس السريلانكي إعلانه، فترك خلفه رئيس
وزرائه رانيل ويكريميسنغي الذي لم يتذوق طعم السلطة، وهو المعيّن في أيار/ مايو
الماضي، بعد أن تنازل عنها شقيق الرئيس ماهيندا، ربما لأنه أدرك -وهو المعروف
بذكائه السياسي كما يقول المقربون منه- أنها لم تعد للمتعة وإنما لدفع الأكلاف
والأثمان، وربما أثمان عقود تلذذ بها آخرون.
مشكلة
سريلانكا اليوم، ككثير من الدول اليوم، المشكلة الاقتصادية، والتحوّل المفاجئ في
الاقتصاد السريلانكي أذهل المراقبين الاقتصاديين، حيث تحوّلت البلاد في غضون عام
أو عامين من بلد واعد اقتصادياً إلى متخلف عن سداد ديونه. فقبل خمس سنوات من الآن
كانت دراسة البنك الدولي تتحدث عن اقتصاد واعد ومنافس في المنطقة، حيث لوحظت زيادة
في دخل الطبقة الوسطى، وحتى قبل عام فقط كانت الدراسات تتحدث عن عدم تأثر كبير للاقتصاد
بسبب جائحة كورونا وتداعياتها على فقدان فرص العمل، لينهار الاقتصاد بشكل فظيع
خلال أقل من عام.
القصة تعود
إلى نيسان/ أبريل 2021، حين قرر الرئيس بقرار أحمق منع استخدام كل أنواع الأسمدة
في بلد عُرف أن دخله الأساسي الزراعة، وذلك على أمل أن تكون المحاصيل طبيعية
وبعيدة عن الأسمدة غير الطبيعية، لينهار موسم الشاي إلى أقل من النصف، وهو الذي
يدرّ عملة صعبة، كما أجبر القرار البلد على استيراد الأرز، وتنهار معه العملة
الوطنية. قرار الرئيس السريلانكي ذكّر العالم كله بقرار الرئيس الصيني ماوتسي تونغ
يوم قرر إبادة العصافير من أجل توفير القمح الذي يأكلونه، فخلق كارثة بيئية لبلده
وللمنطقة برمتها.
وغير بعيد
عن ماوتسي تونغ وبلده، يشير مراقبون اقتصاديون إلى اعتماد البلد في اقتصاده بشكل
كبير على الصين، بحيث رهن بشكل أو بآخر موانئه للصين المتعطشة لبناء سلسلة ذهبية
من الموانئ في المنطقة، من سريلانكا إلى
باكستان فأفريقيا وغيرها، وهي استراتيجية
متكاملة ينفذها محور موسكو- بكين- طهران في الدول التي تتدخل فيها، بحيث تتمكن من زعزعة
اقتصادها تمهيداً للسطو على أصول الدولة، وهذ ما حصل تماماً في سوريا. لكن الواقع
السريلانكي هذا لم يدفع الغرب إلى الاهتمام به، فترك سريلانكا لتقلّع شوكها
بيديها، وهي التي تئن تحت ديون تصل إلى 51 مليار دولار لبلد عدد سكانه لا يتعدّى 22
مليون نسمة، حيث انهارت العملة المحلية بنسبة 80 في المئة، ووصل التضخم إلى سقف 57
في المئة، في حين ضاعفت أزمة كورونا وأعمال إرهابية وقعت في البلد من الأزمة
الاقتصادية؛ التي انعكست على هروب المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال من البلد، فضلاً
عن تراجع السياحة نتيحة أعمال إرهابية، والفوضى السياسية، وهي البيئة الطاردة
للاستثمار والسياحة.
ذروة
الانهيار السريلانكي أتت من النفط، يوم لم يتبق لدى الحكومة قطعٌ أجنبي من أجل
شراء النفط، فتعطلت بسببه الحياة تماماً، مما دفع المواطنين إلى التظاهر، ومهاجمة
القصر الرئاسي، ووصل الأمر إلى القبض على المسؤولين ومعاقبتهم في الشوارع،
وإهانتهم. وبينما تسلم السلطة بحسب الدستور رئيس الوزراء رانيل بالوكالة، إلاّ أن
مقره في رئاسة الوزراء سريعاً ما تمت مهاجمته من قبل المتظاهرين المحتجين، كما حصل
مع الرئيس من قبل، ولكن ظرفه ربما كان أفضل قليلاً من رئيسه السابق، يوم وجّه كلمة
للأمة السريلانكية لكن من مكان مجهول، دعا فيها إلى الهدوء، ومنح الحكومة الوقت.
ومن المقرر
أن يؤدي الرئيس الجديد اليمين الدستورية في العشرين من الشهر الجاري، لكن مع عدم
إعلان الرئيس الفارّ استقالته كما تعهد من قبل، قد يضع البلاد في أزمة دستورية.
ما يقال عن سريلانكا وباكستان كأزمة إدارة واقتصاد متداعٍ، بالإضافة إلى فشل وفساد سياسي ومالي، يقال عن غيرهما من دول المنطقة العربية التي يواجه بعضها أزمات اقتصادية خانقة
يبقى فرض
الوقت بالنسبة للدولة والشعب الآن، والمطلوب سريعاً هو المال، حيث أن البلاد بحاجة
عاجلة إلى ستة مليارات دولار من أجل تسيير شؤونها حتى نهاية العام الحالي، وهو أمر
ليس بالسهل الحصول عليه من مؤسسة غربية تسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية،
تسعى إلى حشد الدول لدعمها في مواجهتها مع روسيا في الساحة الأوكرانية، ومثل هذا
يستدعي من كولومبو التنازل عن مواقف سياسية واقتصادية لها مع الحليف الصيني الذي
هو في الحقيقة اليوم حليفٌ للروس.
باكستان
الدولة شبه المجاورة لسريلانكا، والتي ترتبط معها بأحلاف ومنظمات إقليمية كمنظمة
"سارك"، على خطى سريلانكا، بنظر مراقبين باكستانيين، لا سيما مع أزمة
الديون الكبيرة التي تثقل كاهل ميزانيتها، إذ يبلغ حجم الدين الباكستاني اليوم 128
مليار دولار، لتكون ثاني أكبر مديونية في المنطقة مدينة بعد سريلانكا. فهي اليوم
مهددة بالتخلف عن دفع ديونها، بالإضافة إلى تراجع عملتها بشكل كبير في ظل الحاجة
للسيولة النقدية، فضلاً عن ارتفاع التضخم لمستوى ينذر باضطرابات اجتماعية.
ويُتوقع أن
يصل عدد سكان باكستان وفقاً لدراسة حديثة عام 2050 إلى 366 مليون شخص، وما يقال عن
سريلانكا وباكستان كأزمة إدارة واقتصاد متداعٍ، بالإضافة إلى فشل وفساد سياسي
ومالي، يقال عن غيرهما من دول المنطقة العربية التي يواجه بعضها أزمات اقتصادية
خانقة، مثل سوريا ومصر والأردن وغيرها، وهي تفوقها في الأزمات السياسية
والاجتماعية، نظراً للتهميش السياسي، والاجتماعي، فضلاً عن انسدادات بمجالات
ومناحٍ متعددة لم تشهدها باكستان؛ ربما نتيجة الحياة الديمقراطية النسبية التي
عاشتها منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1947، باستثناء فترات حكم عسكري سريعاً ما
تعود إلى أصلها في الحكم الديمقراطي والتعددية السياسية والإعلامية.