هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يمكن إلا أن نلاحظ الخلافات العميقة بين تركيا وإيران في سياساتهما الخارجية، لكن ذلك لم يؤدِ إلى صراع معلن أو حرب بين البلدين، وعلاقاتهما تتوطد تجاريا وسياحيا وحتى أمنيا بشكل مستمر، وهو ما يدعو للتساؤل عن الأسباب التي تمنع تحول خلاف البلدين السياسي إلى صراع مكشوف أو حتى إلى حرب.
دعونا نلاحظ بداية أن كل من البلدين يدعمان عسكريا جماعات مختلفة في سوريا: تركيا أرادت إسقاط النظام السوري بينما إيران دعمت النظام. تركيا تقف بحزم مع أذربيجان في صراعها المسلح مع أرمينيا حول إقليم ناغورنو كارباخ، بينما إيران تدعم الأخيرة. تركيا دولة في حلف الناتو، بينما إيران دولة تُصنَّف عدوة للناتو. ومؤخرا فقط، أعلنت تركيا عن اعتقالها لخلية إيرانية خططت لقتل رجال أعمال إسرائيليين في إسطنبول رغم نفي إيران لذلك.
الأرضية إذا مُهيأة للصراع بين البلدين، لكن على النقيض من ذلك، ما نراه هو أن البلدين يعززان علاقاتهما التجارية والسياسية والأمنية بعضهما مع بعض، فكيف يمكننا أن نفسر ذلك؟
لفهم ذلك، يجب أن ننظر إلى تاريخ العلاقات بين البلدين. كلا البلدين كانا في يوم من الأيام يشكل إمبراطورية عظيمة: الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية، وكان أن خاضت هاتان الإمبراطوريتان حروبا استمرت مائة وأربعين عاما. بغداد مثلا حكمتها كلا الإمبراطوريتين أكثر من مرة.
لكن في العام 1639 وقع الطرفان على معاهدة قصر سيرين، وهي مدينة حدودية بين العراق وتركيا وإيران وتقع في الأراضي الإيرانية. هذه المعاهدة رسمت الحدود بين تركيا وإيران كما نعرفها اليوم، وهي لم تتغير منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.
من المعروف أن المشاكل الحدودية هي أحد أهم أسباب الحروب بين الدول: روسيا – أوكرانيا، الهند– الصين، الهند – باكستان، أذربيجان – أرمينيا، روسيا – جورجيا، وقائمة الدول التي بينها نزاع حدودي تطول. اختفاء الصراع الحدودي بين البلدين أسهم إلى حد كبير في استقرار العلاقة بينهما.
تاريخيا أيضا، كلا البلدين كان تابعا للولايات المتحدة الأمريكية؛ كلاهما كان جزءا من حلف بغداد (السنتو) الذي استهدف القوميين العرب والنفوذ الشيوعي في المنطقة، وكلاهما أقاما علاقات وثيقة مع إسرائيل.
صحيح بأن مسار البلدين لاحقا تغير، لكنه تغير في اتجاه متقارب. إيران أصبحت عدوة لإسرائيل وأمريكا، بينما ساءت علاقات تركيا بإسرائيل وأمريكا. العلاقات مع إسرائيل وصلت إلى حد تجميدها من قبل تركيا بعد أحداث «مافي مرمرة» العام 2010 ولم تعد هذه العلاقات إلى طبيعتها السابقة إلا خلال الأشهر الأخيرة من هذا العام. والعلاقات مع أمريكا وصلت إلى مستوى متدن بعد اتهام تركيا لها بتنظيم الانقلاب العسكري العام 2016.
عدم وجود خلاف حدودي بينهما والتبعية لأمريكا في السابق سمح بمأسسة العلاقات بين البلدين على جميع الأصعدة، لدرجة إلغاء الفيزا بين البلدين منذ ما يقرب من سبعين عاما.
أيضا، منذ أيام شاه إيران مثلا توجد العديد من اللجان المشتركة بين البلدين في المجالات التجارية والزراعية والثقافية، ولجان أمنية وعسكرية مشتركة لمراقبة التطورات بين البلدين ولحل الإشكاليات بينهما قبل استفحالها. وهذه اللجان تحت إشراف رئيسَي البلدين.
العلاقات التجارية بين البلدين ساهمت أيضا في منع تطور أي خلاف بينهما إلى حد القطيعة أو الحرب. تركيا مثلا تستورد ما قيمته 44% من احتياجاتها من النفط من إيران، وتستورد ما قيمته 16% من احتياجاتها من الغاز منها.
في المقابل يزور تركيا سنويا أكثر من مليوني إيراني. في العام 2017 مثلا زارها أكثر من مليونين ونصف مليون سائح إيراني بقصد الاستجمام وشراء البضائع. لو صرف كل منهم ألف دولار مثلا في تركيا، فإن ذلك يعادل 2.5 بليون دولار سنويا.
علينا هنا أن نتذكر أن إيران عليها عقوبات اقتصادية خانقة، وهو ما يحرم البلدين من الاستفادة من إمكانيات بعضهما البعض، ويمنع تطوير العلاقات الاقتصادية بينهما لمستويات أبعد.
هذا التاريخ وتحديدا عدم وجود خلاف حدودي بين البلدين مصحوبا بمأسسة العلاقات بينهما واعتمادهما التجاري بعضهما على بعض، مكّن الطرفين من تجاوز الخلافات السياسية بينهما دون إلغائها.
الخلافات تبقى ويتم إيجاد مخارج لها حيث أمكن من خلال شبكة العلاقات والمصالح الواسعة بين البلدين.
أحيانا يكون الحل بتأجيل الصراع كما هو حال مسار سوتشي للسلام بشأن سوريا (تأجيل لصالح إيران)، أو بتغاضي إيران عن دعم تركيا لأذربيجان (تغاض لصالح تركيا طبعا). والتأجيل والتغاضي، هو ما يسمح بالقول بأن العلاقات بين البلدين راسخة ومستقرة رغم الخلافات السياسية بينهما.
(الأيام الفلسطينية)