هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شعر الرئيس الفرنسي بحرج سياسي وثقافي شديد عندما وجه له رئيس جمعية سانت ايجيدو القريبة من الفاتيكان؛ دعوة لحضور افتتاح المؤتمر الأخير الذي نظمته هذه المنظمة الكبيرة والعريقة بالعاصمة الإيطالية روما يوم الأحد الماضي، وإلقاء خطاب بالمناسبة. لم يخف ماكرون شعوره بهذا الإحراج الذي جعله يلتفت إلى صاحب الدعوة متسائلا: "هل طلبك عفوي صادر من صديق أم وراءه أجندة وخلفية؟". قال ذلك مبتسما بعد أن ضحك الجميع.
يعود الأمر إلى أن الرئيس الفرنسي وجد نفسه لأول مرة
مضطرا للتحدث أمام كبار القادة الدينيين في العالم من مختلف العقائد والمذاهب، عن
دورهم في الدفاع عن السلام في أوروبا والعالم المهدد حاليا بسبب الحرب الروسية
الأوكرانية التي تدور رحاها على أرض أوروبا، والتي أعادت شبح الدمار الواسع الذي
خلفته حربان عالميتان قامت بهما مجموعة مجانين.
لم يقف الإحراج عند هذه المسألة فقط، حيث تنخرط فرنسا بشكل مباشر في هذا
النزاع الدائر سياسيا وعسكريا، فهي منحازة قلبا وقالبا ضد روسيا وتعمل على إضعاف
بوتين ودعم المخطط الأمريكي الذي يهدف فيما يهدف إلى إسقاط الرئيس الروسي والعمل
على محاكمته كمجرم حرب. من هذه الزاوية سيكون من الصعب أن يتحدث ماكرون عن السلام.
الرئيس الفرنسي وجد نفسه لأول مرة مضطرا للتحدث أمام كبار القادة الدينيين في العالم من مختلف العقائد والمذاهب، عن دورهم في الدفاع عن السلام في أوروبا والعالم المهدد حاليا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي تدور رحاها على أرض أوروبا
ورغم ذلك، يستمر الجدل في فرنسا حول دور الدين في
الحياة العامة، خاصة وأن هذا السجال لم يقتصر على المسيحية ومذاهبها، وإنما اتسعت
رقعته في السنوات الأخيرة ليأخذ أبعادا خطيرة مع الإسلام الذي أصبح يحتل الدين
الثاني في فرنسا من حيث عدد المعتنقين، والذي تختلف طبيعته وتاريخه عن المسيحية.
بناء عليه سيكون من الصعب على شخصية سياسية ومالية مثل مانويل ماكرون أن يتصدى
لمثل هذه الإشكالية المعقدة، وأن يخاطب بموضوعية هذا الجمهور الذي يتشكل من قادة
دينيين من مختلف الاتجاهات، ويحاول أن يقنعهم بسلامة الاختيارات الفرنسية تجاه
المسألة الدينية. فالتجربة الفرنسية في هذا المجال بقيت استثناء يكاد يكون يتيما
في أوروبا وفي العالم الغربي، حيث اختارت معظم الأنظمة الغربية أشكالا أخرى من
العلمانية التي تجنبت الاصطدام الحاد والعنيف بالأديان، وتمكنت في المقابل من إعادة توزيع السلطة دون أن تخرج المؤسسات الدينية من السياسة أو تعمل على إقصائها
وإخراجها من دائرة الاهتمام بالشأن العام.
فعل ذلك بعد أن أدرك مثل غيره أن مشروع القضاء على الأديان فشل تاريخيا. لم يحافظ الدين فقط على بقائه واستمراريته كأفكار ومعتقدات ومؤسسات، وإنما فرض نفسه كضرورة فلسفية وروحية لمئات الملايين من سكان هذه الأرض. لهذا اضطرت الدولة حتى لو كانت في نسختها اللائكية إلى الاستعانة بالأديان من أجل قضاء حوائجها
مما يؤكد عودة العلاقة الاستراتيجية بين الدين والسياسة في كل العالم وليس فقط داخل الدائرة الإسلامية ومنطقة الشرق الأوسط، ما حصل من انقسام داخل الكنيسة الأرثوذكسية بين جناحها الروسي وجناحها الأوكراني
وحتى بوتين يمارس نفس اللعبة، فعلاقته برئيس الكنيسة الأرثوذكسية البطريك
كيريل الروسية قوية ومتينة، والاثنان يقودان حربا يعتبرانها "مقدسة".
وفي ذلك دليل على الدور الكبير الذي "يلعبه الدين في الحياة السياسية الروسية"،
بعد حرب شرسة خاضعها الحزب الشيوعي الروسي ضد الدين والكنيسة دامت أكثر من سبعين
عاما.
ومما يؤكد عودة العلاقة الاستراتيجية بين الدين والسياسة في كل العالم وليس
فقط داخل الدائرة الإسلامية ومنطقة الشرق الأوسط، ما حصل من انقسام داخل الكنيسة
الأرثوذكسية بين جناحها الروسي وجناحها الأوكراني، كل يحارب الطرف المقابل حسب
الجنسية والمصالح والمواقع الاستراتيجية.
خالجتني هذه الأفكار وأنا أتابع خطاب الرئيس الفرنسي بقاعة المعارض الضخمة
في وسط روما، وبدا لي أن العالم صغير جدا، وأن صراع الأيديولوجيات لم ينته كما
تصور بعض مثقفينا.