في ظل
الأزمات الممتدة في
العالم العربي حول
الدولة والعلاقة بالمجتمع والدين والتحديات
المختلفة التي تواجه معظم الدول العربية اليوم، يستمر المفكرون العرب في البحث عن
طبيعة هذه الأزمات وأسبابها والحلول الممكنة لها، والسعي لابتداع رؤى جديدة لفهم
الأسباب العميقة لما وصلنا إليه، وخصوصا بعد الربيع العربي والثورات الشعبية التي
نحتفل بمرور حوالي اثني عشر عاما على انطلاقتها، ابتداء من الثورة التونسية مرورا
بكل الثورات والتحركات الشعبية في الدول العربية.
وفي
هذا الإطار صدر مؤخرا في بيروت عن دار الفارابي كتاب جديد للمفكر اللبناني الدكتور
وجيه قانصو، تحت عنوان: "الانتظام العربي العام- مشكلة الدين والدولة
والمجتمع".
والدكتور
وجيه قانصو من المفكرين العرب الذين برزوا في السنوات الأخيرة من خلال سلسلة
الدراسات والأبحاث التي أنتجها حول النص الديني وتاريخ المذاهب الإسلامية وكيفية
الاستفادة من العلوم الحديثة، ولا سيما علم الهرمنوطيقا (أو الألسنية) في دراسة
الظواهر الاجتماعية والدينية. وله مقاربات جريئة ونقدية للفكر الديني والواقع
الاجتماعي والسياسي في العالم العربي والإسلامي.
وفي
كتابه الجديد حول مشكلات الدين والدولة والمجتمع، أو ما سماه "الانتظام
العربي العام"، يعمل الدكتور قانصو لإعادة التفكير في مفهوم الدولة في العالم
العربي والإسلامي منذ بروز الدين الإسلامي وعلى مدار التاريخ الإسلامي الممتد طيلة
1400 عام، ويحاول استخدام المنهجيات العلمية والاجتماعية في مقاربة الأزمات التي
يواجهها العالم العربي والإسلامي اليوم، من أجل البحث عن خارطة طريق للحلول
المستقبلية.
ويعتبر
قانصو أن الدولة في التاريخ الإسلامي كانت دولة حماية وسلم داخلي، أي كيانا غير
مرتبط في حقيقته بالمجتمع أو متصل به، ويمارس مهامه من خارجه، فلا المجتمع معني بأي
دولة يريد طالما أنها تقوم بمهمة الكفاية والشوكة، ولا الدولة معنية بتطورات الرعية
وما يحصل بداخلها، طالما أن السياسة لم تصبح جزءا من ثقافة الرعية واهتماماتها ولم
تدخل في تكوينها لتتخذ هيئة سياسية موحدة.
ويضيف:
إن هذا الواقع في طبيعة علاقة الدولة بالمجتمع، فرض الاستغناء عن التفكير في حقيقة
الدولة وطبيعتها، وغيّب أي مسعى مجتمعي لبناء واقع سياسي يكون فيه مرجعية أو شريكا
في عملية القرار السياسي، ما جعل الدولة في بنيتها النظرية أو
الفكرية أو نشاطها
العملي كيانا منفصلا عن المجتمع وتكويناته الداخلية ومضامينه الثقافية وثوابته
القيمية، وجعل حقيقتها مبهمة أو مسألة هامشية، وهو ما يفسر استمراريتها على هيئة
واحدة وهي الدولة السلطانية.
ومن
ثم يستعرض قانصو تطور الدولة طيلة القرون الماضية، ولا سيما بعد بروز الدول
العربية الحديثة عقب الاستعمار، ومن ثم مرحلة الاستقلال ونشوء الدول القائمة على
الشرعية الثورية وما قامت به من مهام أمنية واقتصادية ومجتمعية، لكنها فشلت في تأمين
التنمية الداخلية والحصول على الشرعية الشعبية، وبرزت الهوة بين السلطة والمجتمع،
وتعمّق اغتراب الفرد عن المجتمع، واتسعت المساحة بين المجال الأخلاقي والديني والواقع
السياسي، مما أدى إلى حالة الافتراق بين السلطات القائمة والواقع المجتمعي.
ويستعرض
قانصو كل التجارب العربية في السلطة والدولة وأسباب الفشل الذي واجه الدولة في العالم
العربي، وعلاقة كل ذلك بدور الدين والمجتمع وفشل التجارب الإصلاحية وصولا إلى المرحلة
الحالية.
وطبعا
لا يمكن اختزال الأفكار والطروحات التي قدمها الدكتور قانصو في كتابه المرجعي حول
الدولة والدين والمجتمع (حوالي خمسمائة صفحة من الحجم الكبير) مع حشد عدد كبير من
المراجع والمصادر العربية والأجنبية، وهو معروف عنه بعمقه الفكري وسعيه الحثيث
للحفر في المجال الفكري والنقدي. وهذا الكتاب يضاف إلى سلسلة
الكتب والمحاولات
العربية الفكرية التي برزت في العقود الأخيرة من أجل تفسير الواقع العربي وأسباب
الفشل في قيام الدولة العربية الطبيعية، إضافة إلى فشل التجارب الإصلاحية والثورات
الشعبية واستمرار الأزمات في العالم العربي إلى اليوم.
ويخلص
الدكتور قانصو إلى تقديم مجموعة أفكار جديدة وتأسيسية من أجل مقاربة الأزمات
العربية اليوم، ومنها:
أولا:
ضرورة إطلاق ورشة اجتهادية- تأويلية لتحرير النص الديني من فرضيات ومسبقات المؤسسة
الفقهية.
ثانيا:
تكثيف التضامنات المدنية داخل المجتمع، والمبادرات الإنتاجية المستقلة عن إشراف
الدولة وتحكمها، ليستعيد المجتمع زمام المبادرة لإبداع أطر علاقات أبعد وأوثق من
الروابط العضوية ويخفف من وصاية الدولة عليه.
ثالثا:
بناء المجال السياسي الذي يُظهر أفراد المجتمع ومكوناته التضامنية كائنات سياسية
تشارك في صناعة القرار السياسي، ولا تعود السياسة مقتصرة على الدولة وأهل الحكم،
ويتسع مجالها ليشمل الدولة والمجتمع وتتوسع دائرة المشاركة والانخراط في الشأن العام.
رابعا:
التأسيس للحرية بصفتها قيمة مركزية وجوهرية لأي انتظام عام غير قابلة للانتزاع أو المساومة،
وهذا يستدعي معه قيم المساواة والحقوق وحق المبادرة والتعبير والاعتقاد والتجمع.
خامسا:
تعزيز التفكير والممارسة العقلانيين في تدبير شؤون الحياة العامة والخاصة.
والعقلانية هنا ليست مجرد نشاط ذهني وفق قواعد ثابتة ومسبقات بديهية، أي هي ليست
آلة مثل آلة المنطق تعصم العقل عن الوقوع في الخطأ، بل هي فاعلية وابتكار وخلق، أي
فن إنساني يتجلى في الفهم والتفسير والتدبير، وقدرة إنسانية على إبداع قواعد
ومنهجيات تفكير جديدة. والعقلانية هي العقل الإنساني في حال إبداعه لنفسه.
نحن إذن
أمام مقاربة جديدة لأزمة الدولة والدين والمجتمع في العالم العربي والإسلامي، وهي
محاولة لتفسير أسباب الفشل في قيام الدولة وفشل الثورات الشعبية العربية ومشاريع
الإصلاح، وهي تضاف إلى بقية المحاولات لتجديد الفكر العربي والفكر الديني، عسى أن
تنال نصيبها من النقاش والحوار اليوم في ظل الأزمات التي يواجهها العالم العربي
والإسلامي والحاجة إلى أفكار جديدة تفتح الطريق نحو الإصلاح والتجديد.
twitter.com/kassirkassem