القرار الذي
اتخذته السلطة الدينية في
إيران جريء وشجاع عندما أعلنت
التخلي عن شرطة الأخلاق
وقامت بحله، والمعرف محليا بدوريات إرشاد "كشت إرشاد". إنه الجهاز الثاني من
نوعه الذي يتم التخلص منه خلال السنوات الأخيرة، بعد تهميش هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية، وهو الجهاز الذي كان يتمتع بصلاحيات
واسعة ورهيبة من أجل فرض مفهوم خاص للأخلاق والآداب على السكان؛ إلى أن اضطر
للاحتجاب بعد صدور قرار سياسي بتحجيم دوره وإبعاده عن الناس.
واللافت للنظر في هذا
السياق أنه خلال فترة متقاربة اقتنعت دولتان مسلمتان، واحدة سنية والأخرى شيعية،
بأن استنادهما على شرطة تتولى حماية
الأخلاق وتطبيق الشريعة هو إجراء خاطئ، ولن
يوفر لهما الشرعية الدينية التي تستند عليها الشرعية السياسية، وتبقى دولة طالبان
الاستثناء الوحيد تقريبا في العالم الإسلامي التي تتمسك بجهاز من هذا القبيل.
اقتنعت دولتان مسلمتان، واحدة سنية والأخرى شيعية، بأن استنادهما على شرطة تتولى حماية الأخلاق وتطبيق الشريعة هو إجراء خاطئ، ولن يوفر لهما الشرعية الدينية التي تستند عليها الشرعية السياسية، وتبقى دولة طالبان الاستثناء الوحيد تقريبا في العالم الإسلامي التي تتمسك بجهاز من هذا القبيل
لم يكن سهلا في
إيران اتخاذ إجراء من هذا القبيل بعد 45 عاما من الثورة وقيام الجمهورية
الإسلامية. صحيح أن إنشاء هذا الجهاز الأمني تم في سنة 2005 بقرار من الرئيس
السابق المثير للجدل محمد أحمدي نجاد وبدأ يمارس مهامه في السنة الموالية من اتخاذ
القرار، لكن تقييد
الحريات الفردية والإيمان بأهمية تنميط السلوك الاجتماعي فكرة
أساسية في بنية النظام السياسي والعقائدي في إيران. لهذا السبب لم تعترض المؤسسة
الدينية الرسمية على قرار نجاد، لأنها لم تكن ترى فيه خروجا عن الثوابت العقائدية
للدولة، خاصة وأن نجاد كان مدافعا شرسا عن الدولة الدينية وولاية الفقيه، واعتبرها "نموذجا
للحكم في مواجهة النموذج الغربي".
بمعنى آخر، كانت
السلطة القائمة تعتبر نفسها مسؤولة عن ضبط القيم العامة، والسهر على حمايتها من كل
تنطع أو خروج عن السياقات الرسمية. كما منحت هذه السلطة لنفسها صلاحيات مطلقة من
أجل إجبار الجميع على التقيد بـ"النموذج" الأخلاقي الذي أنتجته من خلال
مراجعها الدينية، وترى في ذلك شرطا من شروط حماية الدولة والاستقرار الاجتماعي
والسياسي.
رغم أن الثورات
تنبع من تحت أي من الجماهير، لكن بعد انتصارها تتغير الأدوار، ويصبح الفعل السياسي
نازلا من فوق إلى تحت، حيث تصبح الأطراف المتحكمة في أجهزة الدولة المحدد الرئيسي
في ضبط الاختيارات وتوزيع القوى والمهام، وتتحكم من خلال الأجهزة في حركة التاريخ.
وبما أن الثقافة
الدينية والسياسية الكلاسيكية تمحورت حول المقولة الشهيرة المنسوبة إلى الخليفة
الثالث عثمان بن عفان "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وهي
المقولة التي رسخت الاعتقاد لدى عموم المسلمين وبالأخص الطيف الواسع من
الإسلاميين، بأن الإسلام لا يتحقق إلا من خلال سلطة الدولة وبطشها الذي يعتبرونه
حزما، وبما أن الدولة في هذا السياق منصهرة كليا بالحاكم، فإن هذا الحاكم مجسد
حاليا في إيران بالمرشد الذي لا ترد كلمته، وبالتالي هو الذي يحدد في النهاية
السلوك الأفضل لجميع المواطنين والمواطنات. وبما أنه لا يستطيع القيام بذلك بنفسه،
يحتاج عندئذ إلى جهاز تنفيذي يتمتع بصلاحيات تسمح له بالتدخل مباشرة وبالقوة
لإجبار الأفراد على الخضوع والانضباط الأخلاقي.
المعركة مرشحة لكي تستمر، وتتخذ أبعادا أخرى أكثر أهمية من الحجاب وشرطة الأخلاق. هناك رغبة قوية تدفع بكثير من الإيرانيين نحو مراجعات أعمق وأشمل، إذ يبدو أن النظام في حاجة عاجلة لتجديد نفسه حتى يستجيب لتطلعات شعبه الذي أصبح مختلفا كثيرا عن مرحلة قيام الثورة. وهذا يفرض ثقافة دينية مختلفة، وتوفير حريات أكبر، وإحداث تغييرات مؤسساتية من الحجم الكبير
للأسف جاء قرار
إلغاء شرطة الأخلاق في إيران تحت إكراه الشارع، ولم يكن اختيارا استباقيا نابعا من
إيمان القيادة الدينية والسياسية بأن الاستمرار في معركة فرض
الحجاب على
الإيرانيات أمر عبثي لا يستند على تبرير إسلامي صحيح، لهذا فإن حل شرطة الأخلاق أو
تحويل وجهتها لن يحل المشكلة بطريقة جذرية. المعركة مرشحة لكي تستمر، وتتخذ أبعادا
أخرى أكثر أهمية من الحجاب وشرطة الأخلاق. هناك رغبة قوية تدفع بكثير من
الإيرانيين نحو مراجعات أعمق وأشمل، إذ يبدو أن النظام في حاجة عاجلة لتجديد نفسه
حتى يستجيب لتطلعات شعبه الذي أصبح مختلفا كثيرا عن مرحلة قيام الثورة. وهذا يفرض
ثقافة دينية مختلفة، وتوفير حريات أكبر، وإحداث تغييرات مؤسساتية من الحجم الكبير.
لهذا السبب هناك دعوات لتغيير الدستور، ومن خلاله تعديل النظام والمنظومة.
لا يهم ما الذي
سيترتب عن ذلك، وهل سيتحقق هذا السيناريو أم لا، المؤكد أن
ما يجري في إيران هذه
الأيام له أهمية كبرى، وسيؤثر بالضرورة ولو بعد فترة ما، على رؤيتنا جميعا لعلاقة
الدولة بالمجتمع، وعلاقة الفاعل السياسي بقيمة الحرية وبالأخص الحريات الفردية.
لا شك في أن
الواقع الإيراني معقد، وأن السياسة هناك تختلف عما هي عليه في بقية الدول، لكن
التحولات الكبرى التي تحصل في إيران هي جزء من الخبرة الجماعية تضاف إلى بقية
الخبرات التي نكتسبها كل يوم. فهذا التداخل بين الدولة والإيمان والحرية
والخصوصيات الفردية يجب أن ينتهي في يوم من الأيام لأنه تسبب في أضرار كبرى، ولأنه
حرم المسلمين، وخاصة شبابهم ونخبهم، من أن يشقوا طرقا مختلفة ومتعددة يكتشفون من
خلالها دينهم في رحابته، وحرياتهم في تنوعها وثرائها. من أين تستمد سلطتك حتى تفرض
على رؤيتك لذاتي وللعالم؟