الكتاب: "بهدف التحكم في العالم: صعود الإمبراطوريات
والتغيرات الكارثية"
الكاتب: د. ألْفَرد مَكَوي
ترجمة وتقديم: محمد جياد الأزرقي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى- أغسطس 2022م.
(575 صفحة من القطع الكبير)
عصر نابليون وصعود الإمبراطورية البريطانية
استفاض المؤلف في الحديث عن الثورة
الفرنسية، وخصّ بالذكر مغامرات نابليون العسكرية وأحلامه الإمبراطورية، التي أدخلت
قارة أوروبا في دوامة من الحروب لمدة ربع قرن من الزمن. شُنّت فيه 228 معركة دموية
وفُرِض 91 حصاراً مُدمّراً وفقد 6 ملايين شخص حياتهم. لقد ضحّت فرنسا بجيل كامل
من شبابها وخسرت إسبانيا بعدها ما تبقّى من إمبراطوريتها. سجّل التاريخ لنابليون
خسائر باهظة في معركة الطرف الأغر ومعركة أبي قير ومعركة واترلو وغزو روسيا
الفاشل، وما أعقبه من الانسحاب الشتوي المهين. بالمقابل، تكبّدت بريطانيا خسائر
قليلة في قوتها العاملة ولم تتعرّض لأضرار ماديّة. "بينما شرعت بريطانيا في
تشكيل حقبة جديدة، لوّح دبلوماسيوها براية التجارة الحرة لفتح الأسواق. لكنهم
استخدموا هذا المبدأ كذريعة للتدخلات العسكرية، التي انتهكت سيادة الدول في جميع
أنحاء العالم".
تبقى الحقيقة هي أنّه مهما كان نوع
الإمبراطوريات الغربية، التي تناولها المؤلف، هناك فارق في جوهر ومعنى وكيفية
استخدام القوة، أو بالأحرى القسوة/ التوحش في مقابل العنف. فيما تكون الهيمنة
الاستعمارية قاتلة مميتة في سكونها كما في عدوانها وفي حفاظها على الوضع القائم من
النهب والاستغلال، تشكل كل تمظهراتها الوحشية والقسوة، أفعالاً دموية وحشية تعبّر
عن الموت الذي يكبت إرادة الحياة والتحرر عند شعوب العالم المستضعفة.
ظهرت إمبراطورية بريطانيا العالمية ونظامها
العالمي الجديد نتيجة عقود طويلة من حروبها ضد نابليون. حشدت لندن في تلك السنوات
مليون جندياً وبحاراً لغزو أراض أجنبية، فتزايد عدد سكان إمبراطوريتها من 12.5
مليون شخص فقط عام 1750 إلى 200 مليون شخص بحلول عام 1820. بينما شعر العالم
كله بنمو القوة البريطانية وتوسّعها، كان الأعظم منه في البحر الأبيض المتوسط
وجنوب أفريقيا والمحيط الهندي.
خلال حقبة الحروب النابليونية جعلت البحرية
الملكية البحر الأبيض المتوسط حتى اليوم الأخير (Latter – Day Mare Nostrum) إنّه (بحرنا)،
والاستيلاء على قواعد دائمة في جزيرة مالطا وكورفو بينما انقلب الوجود العثماني
الضعيف بتحويل الإمبراطورية إلى دولة عازلة لوقف احتمال وجود نوايا توسع المجر
النمساوية وروسيا في ذلك البحر، سيطرت بريطانيا أيضاً على الهند بشكل كامل واستولت
على كَيب تاون وجنوب أفريقيا وسريلانكا من الهولنديين (ص 266).
تحوّل المؤلف بعدها إلى الحديث عن الثورة
الصناعية في بريطانيا وكيف أدّت إلى ابتكار الآلات والمكائن، التي قادت بدورها إلى
التخلي عن العبودية وطاقة العضلات البشرية. لكنها من ناحية أخرى أحدثت أضراراً
للبيئة. استشهد بملاحظة بول كروتزِن، الحائز على جائزة نوبل، أن "التركيزات
العالمية المتزايدة لثاني أوكسيد الكربون والميتان" في الغلاف الجوي "قد
تزامن مع تصميم جيمس وات للمحرك البخاري عام 1784". ثم ذهب للقول إنه في
الواقع، شكّلت بريطانيا وصناعاتها 80% من انبعاثات الوقود الأحفوري في عام 1825
و62% في عام 1850. بحلول نهاية القرن التاسع عشر
نشر الفيزيائي السويدي سفانتي
أرنيوس تقريره الأول عن قدرة الانبعاثات الصناعية على إحداث ظاهرة الاحتباس
الحراري. "من خلال ساعات لا تُحصى من الحسابات اليدوية المُضنية، توقّع
ببصيرة خارقة ودقّة كبيرة أنّ "درجة الحرارة في مناطق القطب الشمالي سترتفع حوالي
8 درجات إلى 9 درجات مئوية، إذا زاد ثاني أوكسيد الكربون بمقدار 2.3 أو 3 أضعاف
قيمته الحالية".
مع انتهاء حملتها ضد العبودية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا مستمرة في تبنّي مفهوم رئيسي واحد للعصر الآيبيري، الحقّ في غزو الشعوب وتجريدها من الحريات المدنية وإخضاعها لأعمال السخرة، باعتبارها غير مدفوعة أجر للعمال في الاقتصاد الاستعماري.
"بحلول عام
1900 أغرقت الإمبراطوريات الخمس عشرة في العالم الكوكب في عربدة الفتوحات فاستحوذت
على 146 مستعمرة إمبراطورية غطّت 40% من العبودية والعنصرية أضافت بريطانيا مأثرة
أخرى هي التجارة بالإكراه عن طريق ما سُمّي بمذهب الماركِتيلية، قامت شركة الهند
الشرقية وحدها بتوجيه تجارة الأفيون، من الزراعة إلى التحضير إلى حق
التصدير". كان للشركة مصانع التكرير الخاصة في باتنا وبيناريس في قلب منطقة
زراعة الأفيون شمال شرق الهند. أشرف ضباط بريطانيون كبار على 2000 وكيل هندي كانوا يتجولون في حقول الخشخاش التي غطت حوالي 500,000 فدان من الأراضي الزراعية
الرئيسية. وقدّم هؤلاء الوكلاء الإئتمان وجمع الأفيون الخام من أكثر من 1,000,000
مزارع هندي. تمت معالجة المحاصيل تحت إشراف صارم في تلك المصانع بتجفيف الناتج
وتحويله إلى كرات صغيرة وتعبئته في صناديق خشبية يزن كلّ منها 140 رطلاً. تُنقل
الصناديق بزوارق تجري في نهر الكَنجي إلى كلكتا لتُباع في مزاد للتجار البريطانيين
والهنود.
على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، أنجزت
الولايات المتحدة مأثرة تمثلت بالطرد القسري للأمريكيين الأصليين. بعد عام 1830،
طُرِد ما يقرب من 60,000 فرد من 5 قبائل هي الشيروكي والكريك وشوكتا وجيكاشاو
وسِمينول ونُقلوا بالقوة إلى مناطق أوكلاهوما على "درب الدموع Trail of Tears"، حيث مات
أغلبهم بشكل جماعي نتيجة للبرد والجوع. "عشية الحرب الأهلية الأمريكية عام
1860 كان هناك 3 ملايين أمريكي من أصل أفريقي، عبيد أنتجوا ما يقارب من 4.5
مليون بالة من القطن سنوياً شُحِنت منها 350,000 بالة إلى بريطانيا لتوفير فرص عمل
لنحو 440,000 عامل (ص 290).
في انتفاضة عيد الميلاد عام 1831 في جَميكا،
تمرّد حوالي "2000 عبد وقاتلوا لأكثر من شهر مليشيا أصحاب المزارع والجنود
البريطانيين، وأحرقوا عدداً لا يُحصى من حقول قصب السكر والمباني الزراعية. وحين
تم سحق الانتفاضة، حدث المشهد الدنيء بشنق جماعي لحوالي 340 متمرداً. ألهمت تلك
الجريمة موجة متجددة من التحريض ضد العبودية في بريطانيا، لحد أن البرلمان أقر
مشروع قانون لتحرير جميع العبيد البالغ عددهم 775,000 عبد في جزر الهند الغربية
البريطانية وفي بَرمودا، مع تقديم 20 مليون جنيه إسترليني كتعويض لأصحاب
المزارع (وطبعاً لا شيء للعبيد السابقين)".
الحروب الاستعمارية في أفريقيا
تمّ تشكيل النظام العالمي البريطاني لاحقاً
نتيجة مؤتمر فيينا عام 1815، والذي كان من شأنه إعادة تقسيم أوروبا بعد هزيمة
نابليون، وبعد مؤتمر برلين عام 1885، الذي قسّم القارة الأفريقية بين القوى
الأوروبية على أساس تفوّقها العنصري المفترض لكونها محتضرة مقارنة بالأجناس
الإفريقية المتخلفة بالفطرة، وتأكيد تجارة الرقيق ومبدأ الحرية في الداخل
والعبودية في الخارج.فقد أخبرنا المؤلف في مطلع فصله الرابع بأنّه لأكثر من قرن من
الزمن، كان لعصابات الإتجار بالعبيد وجود قوي في غرب إفريقيا، لدرجة أنه كان لها
حصن تجاري في مدينة Whydah في بنين. يكشف
كلّ وجه من جوانب هذه الأحداث عن القوة الاستثنائية لنظام العبودية، الذي كانت
البحرية الملكية البريطانية تحاول سحقه. غير أنّه من ناحية أخرى، "استبدل
البريطانيون التمييز الديني (المسيحية/ الوثنية) الذي برّر العبودية بالتسلسل
الهرمي العنصري، الذي شرّع الحكم الاستعماري الأوروبي على ثلث الإنسانية".
مع انتهاء حملتها ضد العبودية في ثمانينات
القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا مستمرة في تبنّي مفهوم رئيسي واحد للعصر
الآيبيري، الحقّ في غزو الشعوب وتجريدها من الحريات المدنية وإخضاعها لأعمال
السخرة، باعتبارها غير مدفوعة أجر للعمال في الاقتصاد الاستعماري. في مثل صارخ على
الإزدواجية الإمبريالية، استبدل البريطانيون التمييز الديني الذي برر العبودية
بالتسلسل الهرمي العنصري الذي شرّع الحكم الاستعماري الأوروبي على ثلث الإنسانية. وهي
الشعوب التي اشتهر الشاعر الإمبريالي روديارد كيلنك بتسميتها "السلالات
الصغرى بدون القانون". وحتى لو قبِل المرء بذلك، فقد كان الحرمان الاستعماري
من الحريات المدنية أقل إهانة من العبودية الصريحة وفقدان السيادة الوطنية والحقوق
المدنية، لا تزال هذه الحقبة الإمبراطورية تشكّل، في أحسن الأحوال، نقطة في منتصف
الطريق المستمر نحو تحرير الإنسان.
بصرف النظر عن العبء الثقيل للعمل القسري،
كانت السمة المميزة الرئيسية للإمبريالية في أعلى أشكالها سلسلة متوالية من الحروب
التي خاضتها القوى المعنية مع أهل القارة. كان هناك اختلال ملحوظ في القوة
العسكرية، التي وصلت في كثير من الأحيان إلى ارتكاب المجازر. خلال نصف قرن من
الغزو الذي أعقب مؤتمر برلين، استولت القوات الأوروبية على الأراضي دون قيود على
عنف الأساليب. يمكن تعقب أثر الدماء في طول القارة وعرضها من خلال جشع البلجيكيين
في الكونغو والبريطانيين بلا هوادة في السودان وجنوب أفريقيا، وكوارث الإيطاليين
في أثيوبيا والألمان بلا رحمة في نامبيا وتنزانيا والفرنسيين إلى ما لا نهاية في
شمال أفريقيا.
يقول المؤلف :" من بين هذه الفظائع،
كانت التهدئة الألمانية لنامبيا استثنائية في عنفها الشديد، والتي وصفها المؤرخ
يوركن زمرير بأنها "سابقة أولية مهمة" للنازية اللاحقة و"تفكير
بالإبادة الجماعية". عندما قاوم الأفارقة تدفّق المستعمرين على قارتهم في عام
1904، أطلق الجنرال القائد "أوّل إبادة جماعية على يد الألمان" بإعلانه،
"سأبيد القبائل المتمردة وأجعل الدناء تسيل أنهاراً".
على مدى السنوات الأربع التالية قتلت القوات
الألمانية ما يقرب من 80,000 شخص، أكثر من نصف قبائل هريرو وقبائل نما (The Herero and Nama Tribes)،
وأقامت "معسكرات للاعتقال" مُورِس فيها القتل والتمييز العنصري وأساليب
وتكتيكات "الإبادة" الكاملة، التي ظهرت لاحقاً في الهولوكوست (ص 305).
نهاية الحرب ودخول العالم في عصر الهيمنة
الأمريكية
مع انهيار العصر الإمبراطوري البريطاني بعد
حربين عالميتين، بدأت واشنطن الجديدة تشكّل النظام العالمي من خلال مؤتمرين
رئيسيين، عُقد الأول في برايتُن وودز في مقاطعة نوهامشِر البريطانية عام 1944، حين
أنشأت 44 دولة حليفة تمويلاً دولياً للنظام الذي يجسّده البنك الدولي. وبعد عام
اعتمدت 50 دولة ميثاق الأمم المتحدة في مؤتمر مدينة سان فرانسِسكو.
لغرض السيطرة على حدودها الاستراتيجية، كانت واشنطن ولا تزال في حالة حرب في مكان ما مع كافة الشعوب والإمبراطوريات الأوروبية المختلفة في منطقتي المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، وكانت آخرها هي الإمبراطورية اليابانية.
كان على الحلّ الرسمي لتناقضات "حرية
الداخل وعبودية الخارج" أن ينتظر حتى عام 1945، عندما قادت واشنطن دول العالم
لصياغة مشروع ميثاق الأمم المتحدة ووعدت الشعوب بحرية تكوين دولها وفي الموافقة
على إعلان آخر بعد ثلاث سنوات، حين أكّدت حقوق الإنسان العالمية، وبوضوح فإنّ قيام
النظام الدولي الحالي المكوّن من 193 دولة ذات سيادة وعلى قدم المساواة في الأمم
المتحدة يمثّل تقدّماً هائلاً بعد العصور الإمبراطورية حين حكمت العشرات منها ثلث
البشرية. ومع ذلك وفي سعيها وراء القوة العالمية، سرعان ما بدأت واشنطن في تحدّي
الاتفاقيات الأممية التي حدّدت نظامها العالمي الخاصّ، مخالفة السيادة الوطنية من
خلال التدخّلات السرية لوكالة المخابرات المركزية والحروب الوحشية في جميع أنحاء
العالم وانتهاك حقوق الإنسان وممارسة التعذيب.
ابتداءً من نصف الكرة الغربية لنا، ولغرض
السيطرة على حدودها الاستراتيجية، كانت واشنطن ولا تزال في حالة حرب في مكان ما مع
كافة الشعوب والإمبراطوريات الأوروبية المختلفة في منطقتي المحيط الأطلسي والمحيط
الهادئ، وكانت آخرها هي الإمبراطورية اليابانية.
يقول المؤلف ألفرد وليم مكوي: "إن
نماذج العنف الذي مارسته أمريكا حول العالم موثق ومعروف. ولعل أبشع صورة له تجلت
في الحرب العالمية الثانية. الإشارة هنا إلى تكتيك من شأنه أن تكون له آثار قاتلة
ومروعة، هو القصف الجماعي للمدن اليابانية. في ليلة 9 آذار من عام 1945، أمر
القائد الأمريكي لومي اسطولاً جوياً مكوناً من 279 من طائرات B-29 Superfortress لإسقاط 1665 طناً من
القنابل الحارقة على طوكيو، مما أدى إلى حدوث عاصفة نارية التهمت ربع المدينة
وقتلت 83,000 شخص. خلال الأربعة أشهر التالية قام أسطول لومي المكون من 600 قاذفة
بغارات مستمرة أسقطت 167,743 طناً من القنابل ودمّرت تقريباً كل مدينة يابانية كبرى.
بلغت تلك الحملة المدمرة ذروتها بهجمتين على
مدينتين بسلاح جديد تماماً. بتاريخ 6 آب من عام 1945، انطلقت طائرة واحدة من طراز B-29 Superfortress وألقت قنبلة
ذريّة على هيروشيما. ارتفعت "سحابة الفطر" إلى 50,000 قدم وارتفعت درجة
الحرارة في أرض المدينة إلى 3,000 درجة مئوية أدت إلى ذوبان حجر الكَرانيت والصُلب.
من بين 76,000 مبنى في المدينة، تمّ تدمير 70,000 مبنى. وقُتِل في الانفجار أكثر من
78,000 شخص ولقي 150,000 شخص حتفهم لاحقاً بسبب التعرّض للإشعاعات النووية. بعد
3 أيام أسقطت طائرة أخرى من نفس الطراز قنبلة ذرية أخرى على مدينة نكَازاكي. على
الرغم من امتصاص التلال المحيطة بالمدينة للكثير من الصدمة، انهار وسوّي بالأرض
12,700 مبنىً من مباني المدينة البالغ عددها 51,000 مبنى وقُتل 23,800 شخص على
الأقل، وبعد 6 أيام استسلمت اليابان أخيراً. قتلت حملة القصف 330,000 شخص ودمّرت
67 مدينة وسوّت 2.5 مليون منزل بالأرض وتركت 30% من جميع اليابانيين بلا
مأوى" (ص 383).
إقرأ أيضا: طبيعة النظم العالمية المتعاقبة منذ عصر النهضة الأوروبية