نشرت مجلة "
إيكونومست" تقريرا قالت فيه إن الرئيس
التونسي قيس سعيد أصبح يتبنى نظرية "الاستبدال العظيم" من خلال خطابه عن المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء.
وفي 23 شباط/ فبراير الماضي، دعا سعيّد خلال مجلس الأمن القومي إلى ضرورة وضع حد لظاهرة تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى بلاده، مرجعا الأمر إلى "ترتيب إجرامي يهدف لتغيير تركيبة تونس الديمغرافية".
وقال سعيد إن "هذا الوضع غير طبيعي، وهناك ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، وهناك جهات تلقت أموالا طائلة بعد سنة 2011، لتوطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس".
وأشار سعيّد إلى أن "الهدف غير المعلن لهذه الموجات المتعاقبة من
الهجرة غير النظامية، اعتبار تونس دولة أفريقية فقط، ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية".
واعتبرت المجلة أن هذه الدعوة تمثل استحضارا لنظرية "الاستبدال العظيم" اليمينية المتطرفة، التي صاغها الكاتب الفرنسي رينو كامو عام 2010، وتقوم على فكرة وجود "مؤامرة" أن يستبدل بالسكان الأوروبيين المسيحيين البيض سكانا مسلمين وعربا من الشرق الأوسط وأفريقيا.
اظهار أخبار متعلقة
وتسببت هذه النظرية بحوادث عدة تعرض لها المسلمون في العالم، أبرزها الجريمة التي ارتكبها الأسترالي المتطرف برينتون تارنت ضد مسجدين في نيوزيلندا عام 2019، وأسفرت عن مقتل 50 شخصا وجرح العشرات، خلال أدائهم صلاة الجمعة، حيث ردد الجاني شعارات مؤيدة لنظرية "الاستبدال" قبل تنفيذ الجريمة.
وفي تعليق، قالت مجلة "إيكونومست" إن الرئيس التونسي يحرّض على السخط على المهاجرين السود لشغل الناس عن إخفاقاته، معتبرة أنه نفس الخطاب الذي شاع بين الشعبويين الأوروبيين.
وتاليا نص المقال الذي ترجمته "عربي21":
كان ذلك هو نفس الخطاب الذي شاع بين الشعبويين الأوروبيين. "حشود" من المهاجرين الأفارقة يهبطون على الوطن، جالبين معهم "العنف والجرائم والممارسات غير المقبولة." ومجيء هؤلاء ما هو إلا مؤامرة تستهدف تغيير التركيبة السكانية لأمة أبية. ومع ذلك، لا تخشوا شيئاً، فالرئيس الذي نافس على المنصب كفرد من خارج المؤسسة لينقض على النظام السياسي ويقوضه، تعهد باتخاذ إجراءات عاجلة لتأمين حدود بلاده.
إلا أن ثمة فرقاً، فهذه اللغة لم تصدر عن مارين لوبان أو جورجيا ميلوني، وإنما من قيس سعيد، رئيس تونس.
ثمة مفارقة كالحة في تصريحاته التي أدلى بها أثناء اجتماع مجلس الأمن الوطني في الحادي والعشرين من شباط/ فبراير. فمواطنوه ما فتئوا يُستهدفون بمثل هذا الخطاب بعد عبورهم البحر المتوسط إلى أوروبا – علماً بأن رئاسته الاستبدادية للبلاد دفعت أعداداً متزايدة منهم نحو القيام بتلك الرحلة. وفي الوقت الذي يشهد اقتصاد تونس حالة من الانهيار ويزداد السخط الشعبي، تراه يستخدم نفس اللغة ضد المهاجرين الذين يفدون إلى بلاده.
اظهار أخبار متعلقة
جاء انتخاب قيس سعيد في عام 2019 ثمرة لسنوات من التعطل السياسي. فبعد أن أطاح التونسيون في عام 2011 بالدكتاتور زين العابدين بن علي الذي جثم على صدورهم دهراً طويلاً، شل البلاد شجار مستحكم بين الأحزاب الإسلامية والعلمانية. لم يحسن أي من الطرفين معالجة المشاكل المستوطنة – اقتصاد ضعيف، وفساد مستشر، وانعدام في المساواة – الأمر الذي أسخط العديد من المواطنين، ودفع ما يقرب من 73 بالمائة من الناخبين نحو التصويت لقيس سعيد، أستاذ القانون الذي لم يسمع به كثير من الناس، بسحنته التي أشبه ما تكون بسحنة الرجل الآلي وحملته الانتخابية الغامضة.
لقد أمضى جل وقته في الرئاسة في عملية تفكيك للديمقراطية الناشئة. ففي عام 2021، عطل أجزاء كبيرة من الدستور ووجه الدبابات نحو البرلمان تغلق أبوابه في وجوه ممثلي الشعب. ثم في العام الماضي مرر على عجل من خلال استفتاء شعبي دستوراً جديداً ركيك الصياغة يضمن له الحكم كرئيس قوي لا يقيده أو يحد من صلاحياته مجلس تشريعي منتخب.
وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية ألقت الشرطة القبض على قائمة طويلة من النقاد، حيث تعرض زعماء الأحزاب السياسية الإسلامية والعلمانية على حد سواء للجر بالقوة من بيوتهم، وكان ذلك أيضاً مصير مدير إحدى القنوات الإذاعية الشعبية، وأحد المحامين المعروفين، وأحد رؤساء الأندية الرياضية. فعلياً، لقد غدا انتقاد الرئيس الآن جريمة يحاسب عليها القانون.
ثمة الكثير مما يستحق النقد، فلم يقم قيس سعيد بما يستحق الذكر لإصلاح الاقتصاد الذي يغرق. وصل المعدل السنوي للتضخم 10 بالمائة في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي. وبلغت نسبة البطالة 15 بالمائة. ثلث خريجي الجامعات ونسبة كبيرة من الشباب لا يجدون عملاً. وفقدت العملة حوالي 55 بالمائة من قيمتها منذ عام 2011. أما وقد دفنت تحت جبل من الدين الإجمالي العام، والذي تقدر نسبته بما يقرب من 89 بالمائة من الناتج القومي الإجمالي، تجد تونس اليوم مشقة بالغة في دفع ثمن مستورداتها، مما خلف نقصاً حاداً في السكر والمكرونة والمواد الأساسية الأخرى. في هذه الأثناء، وصلت محادثات الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي إلى طريق مسدود.
يتطلع التونسيون بشغف إلى الخروج من بلدهم المبتلى بالكساد والسلطوية. كشف استطلاع للرأي، أجراه العام الماضي مركز أبحاث داعم للقطاع التجاري، عن أن 71 بالمائة من خريجي الجامعات الحكومية يرغبون في الهجرة. يعمد التونسيون المتعلمون والأثرياء إلى السفر جواً إلى الغرب أو إلى الخليج أو، ويا للمفارقة، إلى أحد البلدان الأفريقية دون الصحراء. وأما التونسيون الفقراء فيجربون حظهم عبر البحر المتوسط. وصل إلى السواحل الإيطالية في قوارب ما يزيد عن 2600 منهم في عام 2019، وهي نفس السنة التي استلم فيها قيس سعيد الرئاسة. وفي عام 2020، فقد ركب عباب البحر مهاجراً من تونس عبر المتوسط ما يزيد عن 18 ألفاً.
تبادل اللوم
أما من تبقى منهم في داخل البلد فقد فقدوا الثقة في قيس سعيد الذي تراجعت شعبيته بشكل حاد. فمنذ أن جاء وهو يوجه اللوم إلى تشكيلة من أكباش الفداء محملاً إياهم المسؤولية عما تعانيه تونس من مآسي، بما في ذلك السياسيون الفاسدون، والمضاربون على الأسعار، والسفارات الأجنبية. وها قد أضاف إلى القائمة المهاجرين السود، وذلك في تصريحات شديدة التشاؤم لدرجة أنها حازت على إشادة من إريك زيمور، السياسي المتطرف المناهض للمهاجرين، الذي نافس في العام الماضي على انتخابات الرئاسة الفرنسية، والذي غرد قائلاً: "بدأت بلدان المغرب العربي نفسها تدق ناقوس الخطر في وجه الهجرة المتعاظمة".
بالفعل، غدت تونس، بسبب قربها من أوروبا، محطة يمر من خلالها المهاجرون الذين يقصدون سواحل القارة الأوروبية قادمين من بلدان مثل ساحل العاج. إلا أن أرقام هؤلاء المهاجرين صغيرة. يقدر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بأن عدد المهاجرين غير القانونيين من بلدان أفريقيا ما دون الصحراء لا يتجاوز 21 ألفاً في بلد تعداد سكانه 12 مليوناً. وكثير من هؤلاء يقومون بأعمال يدوية أثناء تواجدهم في تونس، وتكثر بحقهم الإساءات والانتهاكات، وهضم حقوقهم في الأجور. لو كانت تلك مؤامرة يقصد منها تغيير التركيبة السكانية لتونس، فلا شك أنها مؤامرة تعيسة.
اظهار أخبار متعلقة
أسخطت تصريحات قيس سعيد بعض التونسيين، فشارك المئات منهم في احتجاجات نظمت في الخامس والعشرين من شباط/ فبراير، حتى اضطر وزير الخارجية نبيل عمار إلى إصدار ما يشبه الاعتذار قائلاً إن الحكومة ستوفر الحماية لجميع المهاجرين داخل تونس. إلا أن كلمات قيس سعيد وجدت جمهوراً شنف لها الآذان. تقول منظمات حقوق الإنسان إن العشرات من المهاجرين السود تعرضوا للاعتداء والسرقة بعد صدور تصريحاته. وحذرت مجموعة من الطلاب النيجيريين أفرادها من استخدام الميترو أو التواجد في الأحياء الشعبية من العاصمة.
غدت العنصرية أداة مفيدة في يد الغوغائيين في كل مكان. إلا أن قيس سعيد لم يعد لديه من يوجه إليه اللوم. وثمة مخاوف متنامية من أن تونس قد تعجز عن سداد ديونها بدون إبرام صفقة مع صندوق النقد الدولي. وذلك جدير بأن يغرق اقتصادها أكثر فأكثر، ويدفع بالمزيد من المواطنين لركوب القوارب والخروج من البلاد في رحلة محفوفة بالمخاطر.