1 ـ الكاتب والكتاب
الإصدار الجديد الذي نقدم على تقديمه اليوم
"التشيّع في
تونس: قراءة علمية في
التاريخ الطويل" هو الإصدار الثالث في
رصيد الأستاذ عبد الحق الزموري الباحث التونسي الذي يقدمه ناشره متخصصا في
التاريخ، ونرى اختصاصه الدقيق في تاريخ الأفكار أو التاريخ الثقافي، علاوة على
اهتمامه بالأساس بالدراسات المستقبلية حيث يدير مؤسسة دولية في الاختصاص هي مؤسسة
"أبعاد"، ويشغل خطة نائب رئيس "الرابطة العربية للدراسات
المستقبلية"، اهتمامه بالاشتغال على تاريخ الذهنيات عموما وتاريخ الأفكار
بالبلاد التونسية على وجه الخصوص، اشتغاله على الهويات والسرديات الكبرى التي
تنتظمها محليّا وإقليميا، وهذا ما يتجلى بوضوح في ما صدر له من بحوث ودراسات
محكّمة في أعمال مشتركة عن المؤسسة الدينية في العالم العربي وعن الحالة الدينية
في تونس، وما أنجزه من ترجمات بالتعاون مع مؤسسات بحثية ودور نشر عربية وعالمية
على غرار: "الإسلام السياسي: تيارات، مذاهب، أيديولوجيات"(2017)،
و"الخلافة: التاريخ السياسي للإسلام"، نبيل مولين، 2016، و"التصوف،
طريق الإسلام الجوانية"، إ. جوفروا، 2019، و"خير الدين التونسي بين
الحقيقة وظلها"، (2020).
2 ـ في الكتاب وإشكالاته
يتمحور الكتاب عموما حول ظاهرة قديمة ـ
"جديدة" في الاجتماع السياسي ـ الديني المحلّي هي ظاهرة "
التشيّع" بعموم اللفظ لا بخصوصه عبر"تفكيك عقلها، وإرجاعها إلى أصولها،
وتتبّع فاعليها"، بمعنى تعقل الفكرة في حدّ ذاتها وتتبّع مراحل تشكلها
وتبلورها وتطورها، وبالاستتباع الوقوف على تأثيراتها في المجتمع المحلي: نفسياتٍ
وذهنياتٍ وسلوكاتٍ.
وهذا ما حتّم على الكاتب في قراءته للظاهرة
التي أرادها علميّة أن يجمع فيها، وعلى مستوى واحد، بين:
ـ المقاربة التزامنيّة التاريخية حيث اشتغل
على الظاهرة بوصفها جزءا من نسيج الذّاكرة الجماعيّة المحليّة في علاقة بالمُقدّس
وبالدّنيوي على حدّ سواء.
ـ والمقاربة الآنيّة، وقد انصبّت على دراسة واقع الظاهرة
الحالي في تونس بعد توسّع "الجسم الشيعي" بالبلاد وتزايد حركة الفاعلين
الاجتماعيين فيه: عقائديّا ومذهبيّا وبالتالي "ثقافيا" وسياسيا.
وذلك بمرمى طموح قطب الرحى فيه "البحث
عن القِسط في القول والرأي"، والتأسيس في مقاربة الظاهرة "لقاعدة علميّة
أقرب ما تكون إلى الموضوعيّة"، وهو على وجه الحقيقة مرمى الطموح الذي يشي به
قبل البدء العنوان الفرعي للكتاب: "قراءة في التاريخ الطويل"، فضلا عن
مختلف عتباته أو نتوءاته البارزة: مفتتحه، خاتمته وتمفصلاته، وهي عتبات تبدو واعدة
بتفكيك هذه السرديّة على أسس معرفية متينة.
3 ـ في منهج المقاربة وآلياتها
يأتي اهتمام الأستاذ عبد الحق الزموري بسؤال
"التشيّع" في الاجتماع السياسي ـ الديني المحلي في صلب اختصاصه كباحث في
تاريخ الأفكار، ولذلك جاء بحثه في الظاهرة خاضعا للمقتضيات الأكاديمية، منهجية
وآليات مقاربة، ومن ثمة:
ـ فقد التزم، في الكتاب بقسميه، زيادة على
حرصه الشديد على التوثيق، وهو ما يظهر، علاوة على قائمة المصادر والمراجع
المقارنة، وقد جمعت بين المصادر التأسيسية وأمّهات المراجع الأكاديمية، في ثراء
الهوامش ودقّة الإحالات وتنوّعها بين الإحالات المرتبطة بالمصادر التاريخية
الكلاسيكية وبين تلك التي تعتبر مصادر دفينة من مصادر التقاط الخبر التاريخي،
مصادرقد تكون وشائج قرباها بالواقع التاريخي ألصق وأقرب من المصادر التاريخية
الكلاسيكية ذاتها، نعني كتب المناقب وكتب الطبقات الشبيهة بالمناقب بالإضافة إلى
كتب النوازل والفتاوى وكتب الرحلة والدراسات الأنثروبولوجية وبخاصة الدراسات
الميدانية.
ـ التزام جاء صارما في الحرص على الموازاة
بين:
أ ـ
العرض المعلل للوقائع والأحداث،
والتحليل المفصّل لها، وتنويع زوايا النظر إليها من ناحية،
ب ـ والنقد الموضوعي الصّارم، وهنا قصب
الرّهان ومربط الفرَس،
ت ـ والتحرر من "الإيديولوجي" و"السياسي"،
وما سمّاه الكاتب " ترويج الجهل" ولاسيما " الجهل المذهبي
المقدّس"، من هذا الجانب أو ذاك، بعيدا عن تمثلات الأجندات ورهانات التموقعات
قديما، كما في التاريخ الرّاهن.
ث ـ والتمسك التام وغير المشروط بالولاء
"للعلم، لا الهوى"، وبالتالي للفكري وحده ذاك الذي لا يحرّكه إلا هاجس
الفهم والاستشكال و"التدبّر الهادئ" من ناحية أخرى.
إلى أيّ حدّ يستقيم من النواحي المنهجيّة والثقافيّة والتاريخيّة اعتبار التشيّع التاريخيّ بإفريقيّة وبلاد المغرب فيما كان يعرف بالغرب الإسلامي ذاكرة للتشيّع المعاصر؟
ولعلّ هذا التمثل الإشكالي وبالتالي النقدي
لظاهرة
التشيع كمظهر من مظاهر الحقل الديني، والحقل السياسي أيضا، ليس في المجال
المحلي فحسب وإنّما كذلك في المجال الإقليمي والدولي، وارتباط "التشيّع
" في الزمن الرّاهن بتموقعات سياسيّة وإستراتيجيّة، وبتحالفات إقليميّة
ودوليّة، وبالاستتباع برهانات محلّية، هو ما جعل الكاتب لا يقنع بدراسة تشيّع
التاريخ أو تاريخ التشيّع في بلاد البربر الشرقية أو المغرب الأدنى أو إفريقية إلى
بدايات الفترة الحديثة، أي تقريبا ما يوافق مجال البلاد التونسية حاليا، بل وسّع
أفق بحثه مجاليّا عبر إطلالات على المجال المغربيّ والمشرقيّ على حدّ سواء، وزمنيا
ليشتغل على "التشيع المعاصر" هنا والآن في تونس، وهو ما شكّل القسم
الثاني من الكتاب؛ قسما، في تقديرنا، وعلى غرار القسم الأوّل، يمكن أن يشكل نواة
صُلبة لمشروع دراسة أشمل وأعمق للتشيّع التاريخي بالمغرب الإسلامي من ناحية،
وللانتشار الشيعي ضمن الصراعات الإقليميّة والدوليّة وطبيعة العلاقة فيه بين
"روح الفكرة" و"تجارة الفكرة" من ناحية أخرى.
ولعلّ السّؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق
هو إلى أيّ حدّ يستقيم من النواحي المنهجيّة والثقافيّة والتاريخيّة اعتبار
التشيّع التاريخيّ بإفريقيّة وبلاد المغرب فيما كان يعرف بالغرب الإسلامي ذاكرة
للتشيّع المعاصر؟ وبالنتيجة إلى أي مدى يمكننا أن نتحدّث عن "تاريخ طويل
للتشيّع" في تونس لاسيما أنّ هذا التشيّع لم يكن واحدا وإنّما كان متعدّدا من
ناحية، ومتنوّعا ومختلفا من ناحية ثانية؟
بلفظ آخر إلى أي حدّ يمكننا أن "نُنمذج
التشيّع" وأن ننظر إليه ككتلة واحدة متجانسة: سرديّةَ وأسسا معرفيّة
وعقائديّة ومشروعا سياسيا، والحال أنّ التشيّع الإسماعيلي الفاطمي التاريخي هو غير
التشيّع الجعفري الإمامي الإثني عشري المعاصر، مع اختلاف الرهانات والتموقعات
والإستراتيجيات واختلاف المآلات؟ وإن كان المأزق بالنسبة إلى كليهما واحدا في محيط
كان معاديا للحق في الاختلاف تاريخيا، ولا يبدي ارتياحا لظاهرة التحوّل المذهبي أو
ما يسمى في المعجم الشيعي الراهن"بالاستبصار"، وإن لم يبق لهذا المحيط من
إسلامه السنّي المالكي عمليّا إلا الذاكرة والانتماء التاريخي.
إذن في إطار هذه الرؤية التي تعتمد
"العقل الثاقب اللطيف" نزّل الأستاذ عبد الحق الزموري:
أ ـ القسم الأول من كتابه، وهو القسم الذي
اخترنا أن نركز عليه اهتمامنا بمقتضى المقام: "تاريخ التشيع في تونس، فرصة
مهدورة"، ص ص9 ـ 80، وقد انتظمه فصلان:
ـ "في الادّعاء الإسماعيلي أو الأزمة التكوينية
للنزعة الفاطمية".
ـ "التشيّع من الكمون إلى الغياب".
توزّعت كليهما مجموعة من المباحث.
ب ـ والقسم الثاني منه: "التشيع
المعاصر وحقيقة الفتنة"، ص ص 89- 176، وقد انتظمته ثلاثة (3) فصول:
ـ "الفاعلون الشّيعة وأدواتهم".
ـ "السِّيَرُ المرويّة للمستبصرين الأول: ترميم
ذاكرة متخيّلة".
ـ "الشيعة في تونس: حرب أرقام أم إستراتيجيات
خارجية؟".
توزعتها بدورها مجموعة من المباحث تتفاوت
طولا وعددا، وهي فصول تستمدّ أهميتها في تقديرنا،
ـ من تاريخيّتها بالتأكيد،
ـ ولكن أيضا من
راهنيّتها،
ـ وتحديدا في بحثها في واحد من أهم مجالات
التوتّر في الفضاء العام: إعادة تمثل العقلي الديني، في تلوينة له مذهبية، هي أكثر التلوينات التي تلتبس فيها
السّلطة الزمنيّة بالسلطة الروحيّة، ولا ينفصل فيها الدّين عن السياسة، وهو
التشيّع، وكسر الحدود بين المؤسّسة الدينيّة ذات الفكر التسلطي والحرّية الإنسانية
المنشودة دينيا واجتماعيا وحتى سياسيا، تلك الحرّية التي لا يمكن نيلها بحسب
المُنظر الألماني دروفرمان إلاّ بإدراك أنّ الطقوس الدينيّة، لا بدّ أن تؤمّن
للذات الإنسانية توازنها النفسي بدل تحويلها إلى ذات معصوبة: عنفا وتكفيرا.
وبارتيادها لثلاثة مجالات لا تخلو من مآزق
تاريخية:
ـ سؤال الفكر الديني بوجه عام،
ـ وسؤال التشيّع التاريخي والمعاصر بصورة
خاصة بين روح الفكرة وتجارة الفكرة،
ـ وسؤال الدّين والسّياسة بوجه أخصّ، مطبقا هذه
المرّة لا على " الإسلام السياسي السنّي" المألوف، وإنّما على إسلام
مختلف ومغاير هو الإسلام الشيعي، بما في هذا الإسلام بدوره من نزعات سلفيّة
محافظة، وبنجاحها في الانزياح عن تلك الصورة المعيارية التي يرسمها الإسلام الشيعي
عن نفسه ورسمها لنفسه تاريخيا، وتلك الصّورة التي تُسوّق له بمسبّقات إدانيّة
ومصادرة على المطلوب، إلى ما يسميّه الكاتب "حقيقة الفكرة" أي صورة
مغايرة تقوم على:
ـ المساءلة النقدية أو التاريخية،
ـ وتبيّن مواطن التوتّر ومواطن الخصوصيّة
والتميّز في هذه وتلك لا سيما أنّ "وسائل التواصل الاجتماعي قد ساهمت بشكل
كبير، بحسب الأستاذ عبد الحق الزموري ، في ترويج الجهل، حول هذا الموضوع
وغيره"، وبالتالي اللاثقافة.
4 ـ تاريخ التشيع في إفريقيا (تونس) بين روح الفكرة وتجارة الفكرة
في مقاربته للتشيّع التاريخي في المجال
المحلي ينطلق الكاتب من المصادر التاريخية والإخبارية المقارنة، ومن حسن الحظ
أنّها في جلها قد وصلتنا، لينتهي إلى أنّها تقترح لنا صورتين تقفان على طرفي نقيض:
أ ـ الصورة التي ترسمها كتب التاريخ
السّنيّة المعادية للحكم الفاطمي ولاسيما منها ابن عذاري المراكشي(ت 695/ 1295؟)،
كبير مؤرخي المغرب والأندلس، في " البيان المُغرب"،
ب ـ وتلك التي ترسمها المصادر الفاطميّة
الرسميّة لذاتها، وخاصة منها القاضي النعمان(ت 363/ 974) في "افتتاح
الدعوة" وفي "المجالس والمسايرات"، والداعي إدريس(ت 872/ 1488) في
"عيون الأخبار" و"زهر المعاني":
1 ـ صورة روح الفكرة التي انبنت بحسب المؤلف
على الوفاء التاريخي للمربّع الديني- الثقافي للفكرة مع الدّاعي أبي عبد الله
الصنعاني (ت298/ 911) الشهير باسم " المعلّم" وشقيقه أبي العباس
المخطوم، وهي فكرة بسيطة لا تتصادم مع الوعي الجمعي، بذل الداعي الشّيعي أقصى جهده
من أجل إقناع البربر في نواتها الصلبة كُتامة وصنهاجة وزناتة بإمكانية التعايش
معها، صورة " الالتزام الدّقيق بالشريعة وعدم الغلوّ، والعدل بين الناس،
والمساواة بين الأصحاب والأتباع رمزيا ومعنويا"، واستعمال الإقناع في التواصل
مع المخالفين والجدال بالتي هي أحسن والاعتراض بشدة على الإكراه، وبالتالي استعمال
الديبلوماسية السياسية بدل العنف في توسيع مجال حكمه، وهو ما تمكّن بموجبه من بناء
قاعدة قبليّة صلبة، وقاعدة للدولة على أطراف المركز أي مدينة القيروان ولكن غير
بعيد عنه، وبسط نفوذه على مجال جغرافي شاسع وهام عددا وثراء ومناعة.
إلى أي حدّ يمكننا أن "نُنمذج التشيّع" وأن ننظر إليه ككتلة واحدة متجانسة: سرديّةَ وأسسا معرفيّة وعقائديّة ومشروعا سياسيا، والحال أنّ التشيّع الإسماعيلي الفاطمي التاريخي هو غير التشيّع الجعفري الإمامي الإثني عشري المعاصر، مع اختلاف الرهانات والتموقعات والإستراتيجيات واختلاف المآلات؟
2 ـ صورة تجارة الفكرة التي انطلقت مع عبيد
الله المهدي(ت 322/ 934)، وتواصلت مع أبنائه من بعده القائم(934-946) وإسماعيل
المنصور(946-953) والمُعزّ(953-975)، ثم مع المعزّ بن باديس الصنهاجي(تـ 454/
1062) مع الإنهاء القسري لدور الداعية أبي عبد الله الصنعاني، ومغادرة الفكرة
الشيعية مربّعها الديني- الثقافي إلى المربّع السياسي الإستراتيجي، مغادرة قلَبتْ
المعادلة و"رسمت للتشيّع في بلاد
المغرب قواعد جديدة مخالفة تماما لما وضعه الداعي الصنعاني ونشره، وذلك بـ:
ـ إظهار المهدي
لعقيدته الإسماعيلي
ـ وحمل الناس
عليها،
ممّا أعطى الضوء الأخضر، وخاصة بعد معركة
الأربس الحاسمة في 22 جمادى الثانية 296/ 18 آذار / مارس 909، لتشكل شرخ إيديولوجي أو عقدي سيكون مؤججا لموجة
من الشحن الاستئصالي الأعمى والشحن المضاد، والوصم المذهبي ثم الفرز على الهويّة
بمعنى فرض عقيدة واحدة على الدولة وعلى المجتمع بكل وسائل العنف، من ذلك:
ـ مبدأ تحليل المحرّمات والإصرار على تحكيم الفقه
الإسماعيلي في المواريث وغيرها، يقول المقريزي( ت845/ 1442) في " اتعاظ
الحنفا":" فلمّا كان بعد صلاة الجمعة (أي أول دخول المهدي إلى القيروان)
جلس رجل يعرف بالشريف،،، ومعه الدّعاة وأحضروا الناس ودعوهم إلى مذهبهم، وقُتل من لم
يوافق"،
ـ مبدأ سبّ الصحابة، " نصّبوا حسين الأعمى السبّاب في
الأسواق، فينا يروي القاضي عياض(ت 544/ 1149)، للسبّ بأسجاع لقّنها"،
ـ إنشاء عبيد الله المهدي منذ عام 298/ 910 محاكم تفتيش
سمّاها "دواوين الكشف" للتحرّي عن المخالفين لمذهب الدولة من النخب
المحلية وتحديدا علماء المالكيّة وبعض رؤوس كُتامة،
ـ خطة صاحب الخبر، صاحب خبر السلطان، وهي مؤسسة تشبه جهاز
المخابرات اليوم.
هذا التحول الفارق في صورة التشيّع الرّسمي
سيكون سببا في:
ـ تصدّع هذه الصّورة،
ـ ظهور موجات من الرّفض الشعبي لها،
ـ مواجهة علماء المالكية لها عبر المقاطعة
السلبيّة ثم عبر المقاومة الأهليّة ولا سيما بعد التضييقات التي فرضت عليهم في
موارد رزقهم، وهو ما دفعهم إلى الالتحام بالعامة ومشاركتهم نشاطهم اليومي.
يخلص عبد الحق الزموري بناء على هذه الوقائع
التي تكذّبها المصادر الإسماعيليّة، وتقدّم روايات مختلفة عنها، أنّ المشروع
الشيعي الحقيقي في إفريقية (تونس) قد بُني على أساس المؤقّت وأنّ التحرّك نحو
المغرب لم يكن إلا بغاية اتخاذ هذا المجال "دار هجرة" فحسب، وبالنتيجة:
ـ فكما أنّ حمل سكان إفريقية على التشيّع لم
يكن إلا واحدة من الأدوات اللازمة في بناء جيش قويّ حول إيديولوجيا مقاتلة تمكنّهم
من الزّحف شرقا،
ـ فإنّ " تشييع " إفريقية وبلاد
المغرب أو فطمنتها أو سمعلتها لم يكن هدفا في حد ذاته بل واحدة من الوسائل التي
يسعى بها إلى بناء إمبراطورية باسم آل البيت تقوم مقام الخلافة العبّاسيّة
السّنيّة وتكون عاصمتها في المشرق.
وعلى هذا الأساس فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا
هو: هل ضحّى مؤسّسو الحكم الإسماعيلي بالتشيّع عقيدة دينية ومذهبا فقهيا لصالح
واقعية سياسية تمكنهم من مناكفة قلب الخلافة العباسية والقضاء عليها للحلول
محلّها؟
5 ـ الخلاصات
ينتهي الكاتب أخيرا إلى أنّ:
ـ التشيّع السّياسي لم يلطّخ فقط صورة
التشيّع العقائدي بل صدّع هذه الصّورة ثم قتل التشيّع بالأمس كما اليوم، كما كان
سببا في الخروج النهائي للتشيّع من المشهد: مذهبا وثقافة وشخوصا.
ـ وأنّ توظيف الأفكار في الصّراع السياسي قد
كان سببا في المجازر التي وقعت في تاريخ إفريقية وتونس على غرار المجازر التي
قادها محرز بن خلف( وقع اغتياله عام413/ 1022) في تونس، وابن خلدون البلوي( مات
قتيلا علم 407/ 1016) في القيروان ومنّ الله الكرّاني الباجي بباجة، ومنها واقعة
بِركة الدم التي قُتل ثلاثة (3) آلاف شيعي)، وهي مجازر انتهت إلى ردود أفعال أودت
بحياة الفاعلين الدينيين فيها وفي مقدمتهم محرز بن خلف، وابن خلدون البلوي "
زعيم أهل السنة وشيخ الدعوة" ومعاوية بن عُتيق( قُتل بتونس عام 407/ 1017)،
اغتيالات نُفّذت في الأوساط السنّية وفي صفوف قيادات هذه الانتفاضة السنّية
بالتحديد كان وراءها "رجال السلطان" نفسه.
التشيّع السّياسي لم يلطّخ فقط صورة التشيّع العقائدي بل صدّع هذه الصّورة ثم قتل التشيّع بالأمس كما اليوم، كما كان سببا في الخروج النهائي للتشيّع من المشهد: مذهبا وثقافة وشخوصا.
وإن كانت القراءة المتأنّية للأحداث،
والتدقيق في مظاهر العلاقة بين الزيريّين والفاطميين إلى حدود الإعلان الرسمي عن
القطيعة مع القاهرة، وقد كان ذلك في عهد المعز بن باديس، لا يتيح، على حد تعبير
الأستاذ لطفي عيسى، إلاّ "التنسيب من هول تلك الأحداث ومن درجة التطرف في
ردات فعل كلا الطرفين".
ختاما
هل كان قرار المعز بن باديس بفكّ الارتباط
مع الدّولة الفاطمية خطأ إستراتيجيا في إدارة حكم البلاد؟
وإلى أي حدّ يمكن أن نعتبر الحلول الهلالي ـ
السليمي بالبلاد، رغم خلفيات التعبئة وأهدافها، "كارثة " على البلاد؟
وبأيّ معنى؟ وبأيّة حدود؟
وهل نظرية "الحدث الحاسم" أو
الكارثة قادرة على تفسير التحولات الكبرى التي ستعرفها بلاد المغرب بداية من القرن XI/V؟ وإلى أي مدى تعبّر عن الحقيقة كاملة؟
وإلى أي حدّ بإمكاننا اعتبار الصّراع
المذهبي الإسماعيلي ـ المالكي، وبالتالي الشيعي ـ السنّي في تاريخ إفريقيا وتونس
أولى المقدّمات في تاريخ البلاد الإسلامي لظاهرة التشدّد الدّيني وترسيخ ظاهرة
التكفير؟