إذا
كان المفكر وائل حلاق في كتابه "الدولة المستحيلة" قد حاول البرهنة على
استحالة قيام "الدولة الإسلامية"، أو على الأقل استحالة استمرارها حتى
في صورة قيامها بصورة مؤقتة (بحكم انطواء هذا المشروع على تناقض داخلي جوهري)،
وإذا كانت أطروحة "الاستثناء الإسلامي" قد جاءت لتصادر على استحالة
التوفيق بين الإسلام في ذاته (وبالتبعية بين "الحركات الإسلامية") وبين
الفلسفة السياسية للدولة الحديثة (على خلاف ما تم في المسيحية واليهودية)، فإن
المقاربة الثقافوية للصراع السياسي في
تونس قبل الثورة وبعدها -من جهة القوى
"الحداثية" أو ما تسمى بـ"العائلة
الديمقراطية"- قد جاءت لتدمج
بين هاتين المقاربتين بعد تطعيمهما ببعض الحجج الماركسية والليبرالية؛ المنحدرة
أساسا من النموذج اللائكي الفرنسي ومبادئ الجمهورية الفرنسية بعد تَونستهما بصورة
مشوّهة.
رغم
كل الادعاءات التحديثية لنخبة الاستقلال وورثتها في نظام المخلوع، كانت البنية
الاستبدادية للسلطة في تونس لا تسمح إلا بنقل بعض القيم "اللائكية" دون
روحها ومؤسساتها الضامنة؛ لتحقيق أهم شعاراتها التحررية مثل المساواة والحرية
والأخوة. ولذلك تحولت "العلمنة" إلى مسار فرضت فيه أجهزة الدولة سلطتها
على "سوق الخيرات الروحية" وجعلته ملحقا وظيفيا في خدمة الاستراتيجيات
الدعائية للنظام وتكريس "شرعيته". كما تحوّل "المشروع الوطني"
إلى مشروع ريعي-جهوي- زبوني لا تحضر "الوطنية" فيه إلا بمعناها المجازي.
وهو معنى مجازي استطاعت أجهزة الضبط والمراقبة (أي الأجهزة البوليسية والأيديولوجية)
أن تفرضه على العامة والخاصة؛ باعتباره "حقيقة مطلقة" لا يمكن التشكيك
فيها مهما كان هزال محصولها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
تحولت "العلمنة" إلى مسار فرضت فيه أجهزة الدولة سلطتها على "سوق الخيرات الروحية" وجعلته ملحقا وظيفيا في خدمة الاستراتيجيات الدعائية للنظام وتكريس "شرعيته". كما تحوّل "المشروع الوطني" إلى مشروع ريعي-جهوي- زبوني لا تحضر "الوطنية" فيه إلا بمعناها المجازي. وهو معنى مجازي استطاعت أجهزة الضبط والمراقبة (أي الأجهزة البوليسية والأيديولوجية) أن تفرضه على العامة والخاصة؛ باعتباره "حقيقة مطلقة" لا يمكن التشكيك فيها
قبل
الثورة، كان التشكيك في إنجازات "الزعيم" أو "حامي الحمى
والدين" يعني الخروج عن الإجماع الوطني "المتخيل" (والمفروض واقعيا
بانتخابات مدلّسة ونخبة وظيفية وقمع نسقي لكل صوت معارض)، كما كان يعني تهديد
"النمط المجتمعي التونسي" باعتباره النمط الحياتي (فكرا وسلوكا وتشريعا)
الذي اختاره التونسيون "طوعيا"، وليس باعتباره مجرد استعارة سلطوية تخفي
الطبيعة الفوقية/ الإكراهية لاختياراتها وسياساتها الكبرى منذ الاستقلال، وتغطي
على بنيتها الجهوية- الريعية- الزبونية التي كرست حكم الأقلية (أو حكم
الكليبتوقراطية)، وشرعنت تحوّزها على أغلب الثروات بترسانة قانونية قُدّت على
مقاسها. لقد كانت تونس واقعيا تحت هيمنة ما يمكن تسميتها بـ"منظومة الاستعمار
الداخلي". وهي منظومة تسلطية ذات جناحين: جناح جهوي- مالي، وجناح أيديولوجي.
تكمن
المفارقة الكبرى في هذه المنظومة في أن جناحها الأيديولوجي (أي الجناح اليساري
بماركسييه وقومييه) هو الأقرب إلى أن يكون -على الأقل في المستوى النظري- الخصم
الأساسي أو المقابل الموضوعي لجناحها الجهوي- المالي. فالبورقيبية التي مثلت
الخطاب الكبير -أو السردية الرسمية للدولة في مرحلتيها الدستورية والتجمعية- كانت
تتحرك بمنطق الدولة- الأمة (أي ضد منطق القومية العربية التي تؤمن بالأمة من منظور
مختلف)، كما اعتمدت البورقيبية سياسات ليبرالية وخيارات ديبلوماسية أبعد ما تكون
عن التقاطع مع الأطروحات اليسارية الراديكالية. ولكنّ هذا التناقض
"النظري" قد انحل واقعيا لعدة أسباب لعل أهمها "الأرضية العلمانية
المشتركة" من جهة أولى، ووجود خصم مشترك -مثله الإسلاميون أساسا- من ناحية
ثانية.
ولذلك
لم ير اليساريون في
الإسلاميين "صرخة الكائن المضطهد وقلب عالم بلا قلب
وروح ظروف بلا روح"، ولم يروا فيهم فرصة للتفكير الجدي في دور اليسار في
شرعنة منطق توزيع السلطة وتقاسم الثروة الذي كرس التبعية والتخلف والفساد المُمأسس،
بل لم يروا في الإسلاميين دعوة إلى التساؤل حول معنى أن يكون الإنسان يساريا في
تونس (أي ملحقا وظيفيا بالسلطة أو تعبيرة معارضة لا عمق شعبيا لها).
لقد
اختُزل "الإسلامي" قبل الثورة باعتباره خطرا على النمط المجتمعي وتعبيرة
سياسية "لا تاريخية" (أي لا علاقة لها بالأزمنة الحديثة)، وتعاملت معه
القوى اليسارية باعتباره موضوعا للقمع المبرر من قبل السلطة، أو ملفا حقوقيا
"إنسانيا" تشتغل عليه الأذرع الحقوقية والمدنية للقوى
"الحداثية".
ولو
أردنا استعمال معجم جاك دريدا لقلنا إن "الإسلاميين" كانوا قبل الثورة
هم "الخارج المطلق" للسلطة وللمعارضة اليسارية والليبرالية على حد سواء،
أو "طائفة المنبوذين" الذين لا يمكن أن يكونوا إلا موضوعا للقمع أو
التعاطف دون الوصول إلى مرحلة "النظير" وجوديا أو الشريك سياسيا. فالإسلاميون
لا يمكن أبدا أن يكونوا جزءا من "المجموعة الوطنية" أو من القوى
الديمقراطية أو من النخب التي تدير الدولة، ولذلك وجب تثبيتهم في استراتيجيات
"الوصم" القائمة على "الثنائيات اللا متكافئة" المؤسسة لحرب
"الهويات القاتلة" (ثنائية الخير/ الشر، ثنائية الوطنية/ العمالة،
ثنائية التنويري/ الظلامي، ثنائية التقدمي/ الرجعي.. الخ). فهل تغير الأمر بعد
الثورة، أي منذ المرحلة التأسيسية إلى "إجراءات 25 يوليو" وما تلاها؟
الإسلاميون لا يمكن أبدا أن يكونوا جزءا من "المجموعة الوطنية" أو من القوى الديمقراطية أو من النخب التي تدير الدولة، ولذلك وجب تثبيتهم في استراتيجيات "الوصم" القائمة على "الثنائيات اللا متكافئة" المؤسسة لحرب "الهويات القاتلة" (ثنائية الخير/ الشر، ثنائية الوطنية/ العمالة، ثنائية التنويري/ الظلامي، ثنائية التقدمي/ الرجعي.. الخ). فهل تغير الأمر بعد الثورة
بصرف
النظر عن الخيارات الفردية المرتبطة بالمصالح المادية والمكانة الاعتبارية التي
يوفرها الاقتراب من السلطة أو حتى دخول أجهزتها، كان المنطق اليساري (وما زال)
بعيدا كل البعد عن مفهوم "الكتلة التاريخية" وعن أدبيات "لاهوت
التحرير" والمدارس الديكولونيالية، بل بعيدا عن التخلص من تمثّلاته النمطية
وما يؤسسها في مستوى المخيال السياسي؛ لا في مستوى القراءة الموضوعية للواقع
وللآخر. ولذلك بقيت أغلب القوى اليسارية أسيرة كراساتها الأيديولوجية وشعاراتها
الصدامية التي وجدت أساسها النظري -قبل الثورة وبعدها- في منطق "التناقض
الرئيس والتناقض الثانوي".
ونحن
هنا لا نحتاج إلى التذكير بأن الأغلب الأعم من مكونات اليسار (بما فيها تلك
المكونات التي تلتقي الآن مع
النهضة في "جبهة الخلاص" أو تقاطعت معها في
حكومة الترويكا وسياسة التوافق) كانت عاجزة بدرجات متفاوتة -خلال المرحلة
التأسيسية- عن التحرر من الزمن الاستبدادي ومن ترسباته في مستوى بناء الجملة
السياسية، أو بالأحرى في مستوى إعادة هندسة الحقل السياسي بصورة مختلفة عن ذلك
الحقل الذي حكمه "الحزب الواحد" أو الديمقراطية الصورية وسرديتها
الوطنية الكاذبة.
لو
أردنا التمثيل للمنطق الثقافوي في إدارة الصراع السياسي فإننا لن نجد أفضل من
المقاربة "الوطدية"، سواء قبل الثورة أو بعدها. فـ"الوطنيون
الديمقراطيون" -على خلاف حزب العمال مثلا- كانوا هم عقل السلطة ولسانها ويدها
قبل الثورة. وهو أمر لن نحتاج إلى التمثيل له في الحقول السياسية والإعلامية
والثقافية والأمنية والقضائية، إذ يكفي الرجوع إلى الأصول الأيديولوجية لنخبة
الحكم زمن المخلوع لنقف على حقيقة أن "الوطد" كان أحد أعمدتها الأساسية.
ولم يتغير الأمر كثيرا بعد الثورة، إذ قام الوطد بوضع نفسه في خدمة النواة الصلبة
للمنظومة القديمة (أي الجناح المالي- الجهوي) ومن ورائها حلفائها الإقليميين
والدوليين في محور "الثورات المضادة"، وهو ما نجد آيته في الخلفية الأيديولوجية
للكثير من مؤسسي "نداء تونس" وغيره من الأحزاب الشيو-التجمعية الجديدة،
بل نجد آيته أيضا في الأصول الأيديولوجية لمنظّري "الديمقراطية
القاعدية" ومناصريها في مختلف القطاعات.
مع
تحول الصراع من مدار مقاومة المنظومة القديمة إلى مدار مقاومة "الخطر
الإسلامي"، ومع هيمنة المقاربات الهوياتية إعلاميا وسياسيا ونقابيا، لم يكن
حل التجمع أو البوليس السياسي كافيين للتطبيع مع وجود الإسلاميين في الحقل السياسي
القانوني. فالوطد مثلا -كما قال أحد رموزه المنجي الرحوي- يؤمن بأن تونس ستكون
أفضل دون وجود النهضة في الحكم والمعارضة، بل إنها ستكون أفضل دون وجود أي نهضوي
في أجهزة الدولة المدنية والأمنية (بل حتى في الجمعيات والمنظمات المنتمية للمجتمع
المدني)، كما كان الشأن زمن المخلوع.
ولذلك
كان الوطد وحلفاؤه في بعض القوى القومية والتجمعية (وهي القوى التي استفادت من
الديمقراطية التمثيلية ثم انقلبت عليها لتصبح طابورا خامسا لمشروع الرئيس) من أكبر
الأطراف التي حرفت الصراع السياسي إلى مدارات أيديولوجية أساسها مقاومة
"أخونة الدولة"، بل كانت تلك القوى "الديمقراطية" هي الوريث
الشرعي لمنطق "مقاومة" اختراق أجهزة الدولة والنقابات والمجتمع المدني
التي حكمت سياسات المخلوع وجعلته يمنع انبثاق أي حقل سياسي "طبيعي" (أي
واقعيا منع أي تغيير في أجهزة الدولة وهوامشها المدنية والنقابية على أساس الواقع
السياسي الجديد).
رغم
تخلّص اليسار التونسي "نظريا" من مقولات العنف الثوري والديمقراطية
الشعبية والحزب/ الزعيم الواحد، ورغم إيمان اليسار بأن المحدد النهائي للصراع
الاجتماعي هو الاقتصاد وإيمانه بأن المقاربة الثقافوية ليست إلا تعمية على الخيارات
اللا وطنية لأنظمة الحكم البرجوازية، فإن أغلب مكونات اليسار (الماركسي والقومي)
قد حافظت على شحنة "العنف الثوري" لتوجهها ضد الإسلاميين دون سواهم، كما
حافظت على إيمانها بالحزب الواحد والزعيم الأوحد لتضعه في خدمة المنظومة القديمة
ووجهاتها السياسية بما فيها منظومة 25 تموز/ يوليو.
رغم إيمان اليسار بأن المحدد النهائي للصراع الاجتماعي هو الاقتصاد وإيمانه بأن المقاربة الثقافوية ليست إلا تعمية على الخيارات اللا وطنية لأنظمة الحكم البرجوازية، فإن أغلب مكونات اليسار (الماركسي والقومي) قد حافظت على شحنة "العنف الثوري" لتوجهها ضد الإسلاميين دون سواهم، كما حافظت على إيمانها بالحزب الواحد والزعيم الأوحد لتضعه في خدمة المنظومة القديمة ووجهاتها السياسية بما فيها منظومة 25 تموز/ يوليو
ختاما،
فإننا نؤمن بأن السجال العمومي يجب أن يدفع بأسئلة النخب الحداثية وأجوبتها إلى
مناطق من اللا مفكر فيه. فأطروحة القوى "الديمقراطية" المشككة جذريا في
وجود "مسلم ديمقراطي" (أي الأطروحة القائلة باستحالة بناء ديمقراطية
بالشراكة مع الإسلاميين وبالاعتراف المبدئي بحقهم في أن يكون تمثيلهم داخل الدولة
والمجتمع المدني متناسبا مع عمقهم الشعبي) هي أطروحة تحتاج إلى مراجعات، سواء
بالتفكير من خارج النموذج اللائكي الفرنسي واستدعاء نماذج علمانية أخرى (خاصة
النموذج الأنغلوساكسوني وبعض التجارب السياسية المنتمية إلى جنوب شرقي آسيا)، أو
بالجرأة على وضع "القوى الديمقراطية" أمام صورتها الحقيقية لا المتخيلة.
ومن
باب الجدل، فإننا نتساءل -حتى لو "انقرض" الإسلاميون- عن كيفية جعل
الديمقراطية مشروعا ممكنا (لا مشروعا مستحيلا) في واقع تهيمن عليه "أقليات أيديولوجية"
لا تؤمن بصناديق الاقتراع -ولا بحق المخالفين ممن لا يُرضون النخب اليسارية
والفرنكفونية- في إدارة الدولة بعيدا عن الوصاية والابتزاز والوصم. كما نتساءل عن
مدى صلابة أي مشروع ديمقراطي يهيمن عليه من ديدنه ممارسة العنف الرمزي (أو تبرير
العنف المادي ومنطق الاستئصال) على أساس "الهوية"، أو على أساس ما تفرضه
المصالح الشخصية والفئوية الضيقة.
ولو
شئنا صياغة أغلب الاعتراضات الموجهة للسرديات "الوطنية الديمقراطية" في
تونس فإننا سنختزلها في السؤال التالي: كيف يمكن بناء مشترك وطني أو كلمة سواء مع
"قوى ديمقراطية" لا يشهد شيء (في أدبياتها وتواريخها وتنظيماتها ومواقفها
قبل الثورة وبعدها) على ديمقراطيتها ووطنيتها وحداثتها وتقدميتها -أي على انحيازها
للحقيقة ولمن هم أسفل- إلا بالقدر الذي شهدت به جرائم الاستعمار الفرنسي على زيف مشروعه
التنويري الكوني؟
twitter.com/adel_arabi21