(يوسف
الأول)
كنت
واحدا من المعجبين بيوسف إدريس، لم أكن قد قرأت له شيئا على الإطلاق، لكنني كنت أنحاز
له ولأدبه وأردد مع الكثير من معجبيه حكايات مبالغ فيها عن مواجهاته الشجاعة، وأدبه
العظيم، وريادته للقصة القصيرة، باعتباره "كاتبها الأول والأوحد"، ولطالما
أطلقت عليه (مع الحشود الإدريسية المنبهرة) وصف "تشيكوف العرب"، وأعتقد من
السهل علينا الآن أن نتأمل ظاهرة "الأوحد والأعظم" في كل المجالات السياسية
والاقتصادية والثقافية والفنية والإعلامية التي تهيمن على مصر وتقسمها إلى قطيع ضخم
تحكمه قلة من أسياد "النصف بالمائة."
كنا
نقول ذلك ونتبنى مقولات مثل "الكلمة الفعل" و"خلو البال" و"هوية
عربية للمسرح"، حتى لو لم نكن قرأنا السياق الذي وردت فيه هذه الكلمات.
كانت
معرفتي الأولى بيوسف إدريس قد بدأت من خلال التليفزيون: فيلم "لا وقت للحب"
(وقد أحببته) ومع الأيام بقيت في ذاكرتي شخصية "بدير" التي جسدها "صلاح
جاهين" أكثر مما بقيت شخصية "حمزة" عضو جماعة الكفاح المسلح التي جسدها
"رشدي أباظة"، وشاهدت في خجل فيلم "الحرام" (ولم أحبه).. وكنت
أخجل من مشاهدته وسط أفراد أسرتي، لأنني لم أحب أبدا مشاهد السقوط الجنسي للفقراء التي
زخرت بها السينما المصرية.
وفي
إحدى الليالي شاهدت مسرحية "الفرافير"، وكنت صبياً لا يجد ما يملأ وقته غير
القراءة، فبحثت عن المسرحية في المكتبات القريبة ولم أعثر عليها، وتكرر ذلك مع مسرحية
"المهزلة الأرضية"، لكنني هذه المرة عثرت على النص مطبوعا وبدأت قراءة أدب
يوسف إدريس كما كتبه هو، وليس كما نشاهده في وسائط غير أدبية.
في تلك
الأيام كانت الهالة الإعلامية ليوسف إدريس تطغى على ذوقي الخاص كتلميذ ساذج، فلم أسمح
للشعور الخفي بعدم الإعجاب بالنص الإدريسي لكي ينال من "صورة النجم".. فمن
أنا حتى لا تعجبني "عبقرية" إدريس في المهزلة الأرضية، ولم أكن قد تعرفت
طبعا على تيار العبث في المسرح العالمي ولا على أي أفكار عميقة في أي شيء، كنت أتلقف
أفكاري وانطباعاتي في تقييم الأدب والأدباء من النقاد الكبار و"المسوقين الثقافيين"
الذين ستحكمون في تقديم وتأخير الأدباء والشعراء وأنفسهم.
كبرت
قليلا وصار بإمكاني التحرك بمفردي وتأسيس اختيارات حرة، وأتاحت لي هذه "الحرية
المتأخرة" مشاهدة مسرحية "المخططين" على مسرح "الطليعة"،
لم أفهم الكثير، لكنني كنت مستلباً تحت تأثير الجو الغريب والأداء الصوتي المهيمن لممثل
أشاهده لأول مرة اسمه "أحمد ماهر"، بالإضافة للملابس الغربية والكلام العميق
عن الثورة والسلطة والتنظيمات السرية والتمرد والانحراف.. إلخ.
ومن
هذه المسرحية بدأت علاقتي بأدب إدريس تدخل مرحلة التعامل المباشر، لكنني ظللت على معرفتي
بإدريس عبر "وسائط" ولم أقتحم عالمه مباشرة وأتعرف عليه عن قرب إلا بعد موته،
فقد كنت أشرف على فريق لمحطة تليفزيونية لبنانية، وكثفت الاهتمام بتغطية عودة جثمان
إدريس والعزاء، وبعد أيام سافرنا إلى قرية "البيروم" في محافظ الشرقية لتصوير
فيلم وثائقي عن بيت إدريس وعائلته وانطباعات معارفه وأهله وزيارة وتصوير مقبرته البسيطة
بعد رفض السلطات المحلية التصريح بدفنه في قبر خاص في حديقة منزله، قبل ذلك كنت أتعامل
مع إدريس عبر مسافة: كاتب على منصة وقارئ في القاعة، الكاتب يقتحم عقل القارئ ولا يسمح
له بشيء غير التلقي مستسلماً لإبداعات الكاتب العظيم الشهير، ويمتلئ القارئ بالنشوة
والفخر والسعادة الخفية إذا تمكن بعد الندوة من اختراق الزحام ومصافحة الكاتب أو توجيه
عبارات الإعجاب والتحية وطلب رقم التليفون
عنوان
"يوسف الأول"، إشارة إلى تسمية شخصيات مسرحية "المهزلة الأرضية":
محمد الأول ومحمد الثاني إلخ، بما في ذلك من دلالات العبث والحيرة.
اظهار أخبار متعلقة
المثقف
ليس نبياً
في عصرية
صيف في عام 1992 كنا على رأس ساقية، نستظل بشجرة توت ضخمة، ونتنسم هواء باردا تلطفه
الترعة الرائقة بالجوار، وجاءت سيرة إدريس بمناسبة اقتراب ذكرى رحيله الأولى، واقترحت
على مرافقي كتابة مقال "تفخيمي" للكاتب الشجاع ومواجهاته العنيفة للسلطة
التي أهملته بعد موته، كما لو أنها تنتقم من وقوفه ضدها، فقد شاع أنه اعترض على سفر
الرئيس مبارك إلى بريطانيا في يوم ذكرى ثورة 23 يوليو، معتبرا أن "لندن"
تعمدت اختيار التوقيت لإهانة ذكرى الثورة، وإثبات أنها عادت لتتحكم في قصر الحكم بالقاهرة
بعد 36 عاما على قيام الثورة، وقيل إنه تحدث في ذلك أمام الدكتور مصطفى الفقي (مستشار
مبارك للمعلومات حينذاك) وأن الفقي نقل الكلام على مبارك فغضب عليه، وامتنعت الصحف
القومية عن تكريم إدريس بالشكل اللائق بعد موته، واكتفت بأخبار قصيرة، على عكس ما يحدث
لكتب وأدباء أقل قيمة من إدريس.
لم يتحمس
"صديق الساقية" لكلامي عن إدريس، وغطت وجهه ملامح حزينة.
سألته:
مالك؟ تعبان وللا حاجة؟
قال:
لا أبدا.. افتكرت ذكريات حزينة
قلت:
خير.. خفف عن نفسك واتكلم عنها، ما تكبتهاش
وبدلا
من فكرتي في كتابة مقال "تعظيم إدريس"، وجدتني مأخوذا بالسيرة الحزينة الخفية
للشاعر محمد مهران السيد، وهو رفيق "جلسة العصاري" عند تلك الساقية قرب فم
الدلتا في أرض عمي الراحل الحبيب عبد الفتاح الجمل.
بعد
قليل من اشتعال النار في فتيل الذكريات الصادمة، استأذنت العم مهران في تسجيل ذكرياته،
حيث كنت أحمل دائما حقيبة ظهر تضم أوراقا وأقلاما وشرائط كاسيت ومسجلتين، وأهتم بالتوثيق
كنوع من الهوس الحميد، خشية تسرب الحكايات من الذاكرة، وكان العم مهران حينها مسؤولاً
عن رسالة القاهرة الثقافية في صحيفة "الوطن" الكويتية".
كان
العم مهران هو "الوجه المقابل" لإدريس وصورته: الاثنان من أبناء الحركة الشيوعية..
الاثنان من المثقفين المبدعين.. الاثنان من مواليد نفس العام.. الاثنان دخلا السجن..
الاثنان لم يجدا فرصة للعمل إلا في مؤسسات الدولة الإعلامية.
أحدهما
صار نجما كبيراً ومؤثرا، والآخر ظل منبوذا يعاني من عقوق الزمن، أحدهما تجول على حساب
الدولة ومؤسساتها في أنحاء العالم وسكن أفخم الفنادق وتقاضى مكافآت وبدلات سخية لسفره
المجاني، والآخر عانى حتى موته من توفير ثمن مشروبه المفضل في "كازينو الحمام"
على نيل الجيزة، وعندما قارب السبعين تذكرته المؤسسة الثقافية بجائزة "تشجيعية"
مما تمنح للمبدعين لتشجيعهم في بداية طريقهم، وبعدها بأيام هاتفني عم مهران ضاحكا وسعيدا:
اسكت.. مش وصلتني دعوة للقاء الرئيس؟
رئيس
مين؟
مبارك
إيه
ده؟
دعوة
مع المثقفين الفائزين بجوائز الدولة لتكريمنا في افتتاح معرض القاهرة للكتاب
كده
معقول.. عموما أنت تستحق كل تكريم يا عم مهران
وبعد
اللقاء، ظل عم مهران يسخر من التكريم الوحيد الذي تذكرته فيه الدولة، وكان يسميه
"جائزة مصافحة الرئيس": ما عملناش حاجة ولا خدنا حاجة ولا استفدنا حاجة.
ويستدرك
ضاحكا فيقول: بس سلمنا على السيد الرئيس ودي أكبر جايزة للواحد منا طبعا.
بعد
عودتي للبيت أصابتني ضحكات وتعليقات عم مهران الساخرة بحالة من الحزن العميق، وتأملت
مشهد إدريس وهو يخاطب مبارك في افتتاح إحدى دورات معرض الكتاب معترضا على جلوسه في
الصف الثاني خلف الوزراء ورجال الحكومة: احنا طول عمرنا نجلس وراهم ومش معترضين، بس
ده يوم المثقفين والمفروض احنا نتقدم والحكومة تقعد ورانا يوم واحد في السنة.
ويرد
مبارك ضاحكا هو الآخر: السنة الجاية نقعدك قدامهم يا يوسف، ولم تأت تلك الفرصة أبدا،
فقد رحل إدريس وظلت علاقة المثقف بالسلطة كما هي.
في تلك
الليلة استعدت ذكرياتي مع محمد مهران السيد كشاعر مظلوم، وكتبت حوارا من وحي مناقشاتنا
المتكررة لصحيفة "الحياة" اللندنية (حيث كنت أعمل حينها) قلت في مقدمته:
"المثقف ليس نبياً، وقد يكون."
عقاب
دوريان جراي
في أعماق
رأسي ومشاعري كانت المفارقة بين مهران وإدريس تتخذ مسارا لم أتوقعه لدراسة خفايا العلاقة
بين مثقفين نالوا إعجابنا لدرجة التقديس، فكانت صدمتنا أنهم جزء من خدعة كبرى تؤلفها
السلطة لإدارة عقولنا والتحكم في مشاعرنا العميقة عند اللزوم، وهذا هو المدخل الذي
قادني إلى إعادة قراءة أعمال وحياة إدريس باعتباره حالة درامية ومتوترة في علاقة المثقف
بالسلطان، لأن إدريس نفسه لم يكن راضيا في أعماقه عن هذه العلاقة، وكان ينظر إلى نفسه
بازدواجية يتوزع فيها بين تعظيم الذات واحتقارها، وفي كثير من الأحيان كان يدرك خطر
معاناته من الصراع الذي دمر "دوريان جراي" في النهاية، حيث الصورة البهية
من الخارج، بينما الداخل مثقل بالآثام المخجلة التي تلوث الروح وتطفئ المشاعر، وقد
كان إدريس يعي ذلك ويتعذب بسببه، حتى أصيب بالاكتئاب وأمراض نفسية، بدت لي أنها المعادل
الموضوعي لعذابات عم مهران المعيشية، فبرغم اختلاف المسارات والاختيارات والمصائر بين
هذين النوعين من المثقفين، إلا أن المأساة، أن كلاهما لم ينج من إيذاء السلطة.. والفارق
أن السلطة بعد أن تسلخ جلد المبدع، تبحث عن الربح فتضع جلود الثعابين والتماسيح في
محلات "هيرميس"، لتبيعها للجمهور الساذج من أمثالي بأسعار باهظة، وتهمل جلود
ضحاياها الآخرين التي لا تصلح للتسويق.
والقصة
تستحق أن نعرضها بالتفاصيل من جذورها، فليس الغَرَض أن نتهجم على أحد، لكن الفَرْضْ
أن نبحث عن فهم مقنع لكيفية تشكل المأساة.
وفي
المقال المقبل نبدأ من البذرة الأولى التي صاغت علاقة إدريس بالسلطة من خلال ناظر مدرسته
الابتدائية المخيف.