(1)
كعادتي في تعليق معظم الأشياء، أرجئ الكتابة في قضية
الجيوش الخاصة إلى وقت آخر، وأتساءل اليوم عن الشأن
المصري: ما هي القضايا التي تستحق الكتابة في بلد لا تغيره
الكتابة؟
الانتخابات الرئاسية مثلاً؟ تسمية المرشحين المحتملين؟
وضعية الأحزاب؟ مدى الرهان على دور القضاء وفعالية جمعيات المراقبة وضمانات تحقيق
النزاهة في منظومة فاسدة وتابعة ومحكومة بقوة التزوير البنيوي "والتوضيب سابق
التجهيز"؛ على سبيل الاستعارة
من تعبير الفريق شفيق: "هيوضبوا له كل حاجة"؟
هذا على مستوى الماكرو، أما على صعيد الميكرو، فإما نشارك
في سرادقات الذكرى: 3 يوليو، 23 يوليو، عيد العمال، الهجرة.. إلخ، وإما نواكب
اهتمامات السوشيال ميديا ونشتبك مع النمور الورقية. والمقصود بالنمور الورقية ليس
الناس، لكن نوعية القضايا اليومية التي تولد ضخمة وشاغلة للأغلبية المتكلمة ومن
بعدها "إعلام الصدى"، ثم تنفثئ فيرميها الناس في سلال النسيان كما يرمي
الأطفال البالونات المنتهية، ويتلقفون بالونة جديدة (أو قضية جديدة) ينشغلون بها
حتى تنتهي ويمسكون في غيرها، وهكذا ينشغل الجميع بما يقتل الأيام ويستهلك العمر،
مع أن القضايا التي أثيرت وانطفأت، لم تصل إلى حكم ولم يتم علاجها!
(2)
ابتعدت عن الشأن المصري في الفترة الأخيرة، حتى أنني
لم أعد أعرف ماذا يحدث؟.. لا أعرف مثلا ماذا حدث في الحوار الوطني، ولا رأي المشاركين
في مدى جدواه بعد تجربتهم لديمقراطية القاعات المكيفة، ولا أعرف مثلا نوعية
الترتيبات الجدية التي اتفقت عليها المعارضة (بتسمياته المتنوعة) لخطة خوض
الانتخابات الرئاسية، أو التعامل معها كسوق سياسي (مؤقت) يسمح بترويج بعض البضاعة
الراكدة لتحقيق مكاسب موسمية لتجار المواسم..
لم أجد في السياسة المصرية إلا المصائد والفئران، فقد ابتعدت بحكم الحالة المطروحة التي تأنف نفسي عن المشاركة فيها. فالخطوة الأولى تبدأ بضابط يحدثك عن الوطن والوطنية، ثم يقول لك متقمصا يوسف شعبان في شخصية "محسن ممتاز": مصر محتاجالك يا رأفت، فتترقرق الدمعة في عينك تحت تأثير موسيقى الشريعي، ثم تتجاوب مع العرض بصوت مرتعش (من فرط الشعور الوطني) وتقول: وأنا في خدمة مصر
الصراحة أنني لم أرغب أبداً في الابتعاد عن الشأن
المصري، فكيف يتجاهل المرء شؤون حياته؟ لكنني لم أتعود أن أسلك الدروب المسدودة،
فكل درب لا يؤدي إلى مسار مفتوح هو بالنسبة لي "مصيدة" من العيب أن
أدخلها كفأر كريه لا يتعلم من تاريخ أسلافه، ولأنني لم أجد في السياسة المصرية إلا
المصائد والفئران، فقد ابتعدت بحكم الحالة المطروحة التي تأنف نفسي عن المشاركة
فيها. فالخطوة الأولى تبدأ بضابط يحدثك عن الوطن والوطنية، ثم يقول لك متقمصا يوسف
شعبان في شخصية "محسن ممتاز": مصر محتاجالك يا رأفت، فتترقرق الدمعة في
عينك تحت تأثير موسيقى الشريعي، ثم تتجاوب مع العرض بصوت مرتعش (من فرط الشعور
الوطني) وتقول: وأنا في خدمة مصر..
بس خلاص.. كده بقيت وطني، وما عليك إلا أن تنتظر رسائل
محسن بيه من السامسونج أو من الآي فون (لا فرق).
تبدأ الوطنية بضابط وتستمر برعاية الضابط، والمفيد في
التجنيد أنك ستشعر بالفرق، ماكينات الإعداد في برامج التلفزيون ستتذكر رقم هاتفك،
والصحف ستنشر تصريحاتك وصورك بكل حب وترحاب، والدعوات "الوطنية" ستعرف
طريقها إلى إيميلك.. إلخ.
ومن حقك بعد ذلك أن تهتم بملابسك وتسريحة شعرك ودبوس
علم مصر في ربطة عنقك، لأنك أصبحت بالفعل ناشطا مؤثرا وناجحا في
"الخدمة".. التي أوضح لك الضابط أنها "خدمة مصر"!
(3)
مصطفى كامل واحد من خُدّام مصر، والمقصود ليس الأفوكاتو
الذي خدم مصر في دولة عباس الثاني، لكن المقصود هو المزيكاتي الذي يخدم مصر في
دولة العباسيين الجدد، فالجمهورية الجديدة عرفت مقام مصطفى وغنت له "أنا بحبك
يا مصطفى" وأغدقت عليه الرعاية والأمان، بينما الخونة من أمثال
إيمان البحر
درويش (النقيب السابق لنفس النقابة) نال ما يستحق، وقد رأيتم مصيره بأعينكم، هيكل
عظمي صامت يتنفس بالكاد ويعجز عن رفع يده ليطرد ذبابة تستبيح وجهه..
الصورة الصادمة لم تكن تسريبا من جمهورية التسريبات،
لكن ابنته أُجبرت على نشر اللقطة المؤلمة تحت ضغوط قاسية عانت منها بعد ما حدث
لوالدها من تنكيل منهجي أفضى به إلى "ده"، وما حدث لشقيقها من مصادفة
تعيسة أفضت إلى حبسه في يوم نشر الصورة بحكم قضائي في قضية سير..
صورة إيمان البحر لم تكن صورة شخص تعرض لمحنة مرض،
كانت صورة كل مخالف لملائكة الجمهورية الجديدة وإلههم الوثني، ويمكنكم الاستماع
إلى الرسائل الضمنية للإعلام الرسمي، وهو يخرج لسانه للجموع منذراً:
انظروا إلى صورة هاني شاكر ومصطفى كامل وياسر جلال،
وقبلهم رجاء الجداوي وسمير غانم ورموز الفن الوطني الداعم، ثم انظروا إلى صورة
العاصي المعارض (إيمان البحر وسواه).
هذا مصير كل
من يغضب عليه النظام فتغضب عليه آلهة
الأوليمب وتحيله حجرا لا يتحرك ولا ينطق.
(4)
أوجعتني صدمة الصورة فكتبت على السوشيال ميديا: إنها
صورتنا جميعا.. مصيرنا في الجمهورية الملعونة المحكومة بسيف "بروكست"..
قاطع الطريق الذي كان يقطع الناس أو يشد أعضاءهم حتى التمزق لكي يصبحوا على مقاس
سريره، أو على مقاس عقله الصدئ.
انزعج الأصدقاء الطيبون من تعليق "هذه صورتنا"،
وفكروا أن ابتعادي عن "المصائد" يخفي حالة تشبه حالة إيمان البحر،
ووصلتني الكثير من الرسائل تستفسر وتطمئن، فآثرت أن أنشر صورة لحظية من أمام
الكومبيوتر، لأطرد قلق الأصدقاء، وأطمئنهم أنني لم أبتعد عجزا عن الظهور، لكنني أبتعد
احتجاجا على الأوضاع، وامتناعا عن المشاركة المعيبة والمهينة التي أرفض أن أتورط
فيها..
ارتاح الأصدقاء لرؤيتي جالسا مفتوح العينين، لكنني
بدأت أتعب من مطاردة صورة إيمان لأفكاري، وتذكرت لقاءنا الأول في الإسكندرية، ولم
أصدق أبدا أن صاحب الوجه الباسم النضر، يمكن أن يكون هو نفسه صاحب الصورة الصادمة!
تذكرت فاروق الشرنوبي، وسألت نفسي: أين فاروق الآن؟
وكيف يعيش؟ وكيف صارت صورته؟
صورة إيمان البحر هي صورة مصر الصادقة تحت سلطة "الجمهورية الجديدة"، حيث يضيق الوحش بأي صوت مخالف فيخرسه ويحوِّل صاحبه إلى حجر، إنها ليست صورة فردية لإيمان البحر أو أيمن هدهود أو محمد الجندي أو محمد المرسي، أو مجدي مكين وغيرهم، إنها صورتنا جميعا.. إذا استمرت هذه المرحلة اللعينة
فاروق وإيمان لا يفترقان في رأسي وفي قلبي، ولا أقصد
أبدا علاقة الملحن والمغني، أقصد ما هو أبعد وأشمل، بدأ فاروق ثوريا على طريقة
"فيكتور خارا"، ويغني ويلحن ما لا يمكن أن تقبله إذاعة ولا تلفزيون،
بينما كان إيمان يرغب في ارتياد المسارات الآمنة مستدعيا الجانب اللطيف من تراث
جده "سيد درويش"، لكن بذرة ما في أعماق إيمان كانت ترتوي من نبع فاروق
الشرنوبي، كما تنتمي إلى ميراث الجد. هذه البذرة هي التي نبتت حتى صارت شجرة كبيرة
من التراجيديا الإغريقية في حياة إيمان البحر، فالحفيد لم يكن مخلوقا كفأر تبتلعه
المصائد بسهولة، كان فنانا صادقا لديه طموحات لا تبرر السقوط، كان يبحث عن المال
والشهرة والمجد الفني، لكن بدون تنازلات "فاوست"، كانت لديه حدود
يحترمها برغم كثافة الإغراءات التي اعترضت طريقه، من العمل في ملاهي الإسكندرية
الليلية إلى ندّاهة القاهرة وأضواء السينما ومراودات "مفستوفيليس"،
وسهرات تسهيل الأعمال في وسط لا يفتح أبوابه إلا لأمثال "دوريان جراي"..
شغلني مصير فاروق الشرنوبي، بنفس الدرجة التي شغلتني
بها صورة إيمان البحر ومصيره، وصور ومصائر كثيرين عرفتهم، ممن أطلقت عليهم
"أهل الكهف"، وكلهم كفاءات رائعة في مجالاتهم، لكنهم ابتعدوا لعدم
قدرتهم على العيش كفئران مصائد، فالمراحل العفنة طاردة لكثير من الصادقين في
إنسانيتهم وفي اعتقاداتهم.. المتصالحين مع أخلاقهم حتى لو تعارضت مع الشيطان وأعوانه.
(5)
صورة إيمان البحر هي صورة مصر الصادقة تحت سلطة
"الجمهورية الجديدة"، حيث يضيق الوحش بأي صوت مخالف فيخرسه ويحوِّل
صاحبه إلى حجر، إنها ليست صورة فردية لإيمان البحر أو أيمن هدهود أو محمد الجندي
أو محمد المرسي، أو مجدي مكين وغيرهم، إنها صورتنا جميعا.. إذا استمرت هذه المرحلة
اللعينة.
هذا هو الشأن المصري كما أراه، وكما كتب عنه
"كافكا" معظم أعماله.. مستعمرة ملعونة للمسخ والقمع والمآسي الإغريقية،
لا تخلو من أفراد يضحّون بحياتهم في مواجهة غير متكافئة مع الوحش الدموي.
وللحديث دائما بقية..
[email protected]