كيف يقرأ الإسلاميون العرب تجربة حزب العدالة والتنمية التركي وزعيمه
رجب طيب أردوغان؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه التجربة عربيا وإسلاميا؟
الدكتور عبد الرزاق مقّري الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم
الجزائرية، يقدم وجهة نظر في تجربة إسلاميي تركيا، وتحديدا الرئيس رجب طيب أردوغان
في السلطة، في دراسة تنشرها "عربي21" على حلقات، بالتزامن مع نشرها على
صفحة الدكتور مقّري الخاصة في "فيسبوك".
المحور الكردي العلوي والحلقة المفقودة
ملاحظة قبل القراءة:
لقد قمنا في هذه الدراسة بجمع وتحليل ما نعرفه من معلومات تاريخية
ومعطيات فكرية عن التجربة التركية متفرقة في دراسات أخرى، كما ثبتنا الخلاصات التي
ستسهّل علينا لاحقا الخوض في الفرضية (الحلقة المفقودة) التي دفعتنا إلى القيام
بهذه الدراسة، بما قد يجعل القارئ الذي يصبر على طول هذه المساهمة من غير
المتخصصين ينظر إلى التجربة التركية بغير ما ألفه من زوايا النظر.
قرن تركيا
لم يظهر في النقاشات والتصريحات والبرامج التي قدمتها الأحزاب
المتنافسة في الحملة الانتخابية الرئاسية والبرلمانية التركية خلافات حول التوجهات
الاقتصادية والمقاربات الاجتماعية. لو نتمعن في الملفات الانتخابية التي قدمها
تحالف الجمهور بزعامة أردوغان تحت شعار “قرن تركيا” أو ما قدمته الطاولة السداسية
في إطار ما أطلق عليه “نص الاتفاقات المشتركة” وما قدمه حزب الشعب الجمهوري تحت
شعار “المئوية الثانية” سنجد بأن الفروق لم تكن في الجوهر وإنما في الوعود التي
قُدمت بخصوص كل ملف، ومن ذلك ما يتعلق بالعملة المحلية والتضخم والبطالة والبنى
التحتية والاستثمار والتصدير ومعدل النمو ونصيب الفرد من الدخل القومي والسياسة
الاجتماعية.
وكان خطاب التحالف الحاكم في هذا الإطار أكثر تماسكا وقوة معتمدا على
إنجازات كبرى أظهرها أثناء الحملة الانتخابية.
ومن ناحية الفلسفة الاقتصادية انتمت مقاربات الطرفين إلى مذهب واحد
وهو المذهب الرأسمالي، وذلك بالرغم من أن اللون الغالب في تحالف المعارضة هو اللون
الاشتراكي الأحمر، متمثلا في الوجهة اليسارية لحزب الشعب الجمهوري أو الجذور
الماركسية اللينينية للحزب الكردي. والغريب في الأمر أن الطرح الأكثر رأسمالية جاء
من هذه الأحزاب ذات الجذور الحمراء مثل مسألة رفع سعر الفائدة التي تؤكد عليها
المؤسسات المالية الرأسمالية الغربية ومسألة الاستثمارات الأجنبية التي وعد بها
كمال كليشدار أوغلو نظرا للوعود التي قدمت له من الولايات الأمريكية المتحدة
والدول الأوربية في حالة فوزه.
مع العلم بأن أردوغان نفسه وجد مشكلة في إقناع معسكره في الإبقاء على
خفض سعر الفائدة، خصوصا مع وزير المالية الجديد الذي اختاره في حكومته، وكانت
الكلمة الأخيرة لهذا الوزير.إن التحالفات التي أبرمتها المعارضة في الانتخابات
التركية لهذا العام 2023 لم تكن على الأساس البرامج وإنما لغرض سياسي جوهري اجتمعت
عليه أحزاب الطاولة السياسية (تحالف الأمة) كلها وهو إسقاط الرجل الذي يقطع الطريق
على طموحاتهم السياسية بنجاحه الانتخابي المستمر، ولغرض قومي مذهبي أيديلوجي يقصده
الحزبان الأساسيان المشكلان لتحالف الأمة وهما حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب
الديمقراطي الذي يربط بينهما خيط العقيدة العلوية في المستويات القيادية.
الصوت الكردي الغالب مغلق لصالح قوة سياسية قومية كردية ذات خلفية انفصالية، وحزب الشعب الجمهوري صار قلعة العلويين بالإضافة إلى كونه مأوى التيار الأيديولوجي العلماني الأتاتركي ، وهؤلاء لهم كتلة ناخبة كبيرة لا تغير خياراتها الانتخابية، وموقفها العدائي لحزب العدالة والتنمية ولقادته لا يتبدل مهما عمل هؤلاء لصالح الشعب التركي ومكانة تركيا بين الأمم.
الذي يهمنا في هذا المقال هو المحور الاستراتيجي لـ "تحالف
الأمة" من حيث أنه هو المؤثر على التطورات المستقبلية، وقبل ذلك نتناول بسرعة
المكونات الثانوية لهذا الحلف. وتتمثل هذه المكونات الثانوية أولا في الأحزاب
الثلاثة ذات الخلفية الإسلامية تاريخيا (السعادة / المستقبل / الديمقراطية
والتقدم) التي قدمت مرشحيها للناخبين باسم حزب الشعب الجمهوري ضمن سلوك سياسي
مخالف للقناعات السياسية والفكرية وإنما في إطار المناكفة والحسابات الانتقامية ضد
شريك الأمس أردوغان وللحصول على موقع سياسي ومقاعد في البرلمان في مواجهة الأمواج
السياسية العالية للظاهرة الأردوغانية التي منعتهم من أي تموقع في الساحة السياسية
والانتخابية، وقد أدى هذا إلى تململ كبير داخل حزب الشعب الجمهوري ذاته إذ اعتبر
كثير من قادته ومناضليه أن حزبهم خسر رهان إسقاط أردوغان بالتعاون مع “أصدقائه”
وتصدق بمقاعد من حصته لهؤلاء الذين لم يقدموا شيئا لتحقيق الهدف المشترك، وزاد
أردوغان بالضغط على الجرح حينما صرح مستهزئا في وسائل الإعلام بعد نتائج
الانتخابات بأن كمال كليشدار منح مقاعد في البرلمان لأحزاب لا وجود لها في الواقع.
وهناك مكون ثانوي مهم وهو الحزب الجيد برئاسة السيدة ميرال أكشنار
وزيرة الداخلية سابقا في حكومة العدالة والديمقراطية وهي المرأة القوية التي كانت
عضوا مؤسسا لحزب التنمية والعدالة ضمن التيار القومي المشارك في التأسيس، وبعد أن
استقالت منه أصبحت عضوا بارزا في حزب الحركة القومية، وكانت تهدف إلى الإطاحة
برئيسه دولة بهجتي، وبعد أن فشلت أسست الحزب الجيد عام 2017 وحصلت في انتخابات
2018 على 43 مقعدا غير بعيد عن حزب الحركة القومية الذي تحصل على 49 مقعدا، وبعد
اضطراب وتردد حسمت أمرها بالانضمام إلى الطاولة السداسية في هذه الانتخابات 2023
ضمن توجه مخالف للنزعة القومية لحزبها المتحفظ من التحالف مع حزب اليسار الخضر
الكردي التابع عمليا لحزب العمال الكردستاني، ورغم تحفظها كذلك على ترشيح كمال
كليشدار أوغلو.
غير أن الهدف المشترك لأحزاب الطاولة السداسية المتمثل في إسقاط
أردوغان هو الذي جعلها تحسم الأمر وتعود للطاولة، وضمن هذا الهدف المشترك كان لها
هدفها الخاص وهو إسقاط دولة بهجتي المتحالف مع أردوغان في حالة سقوط هذا الأخير
لكي تتفرد بزعامة التيار القومي في المجتمع التركي، ولهذا رشحت مرشحيها باسم حزبها
ضمن هذا التحالف، وبالرغم من أنها حافظت على نتيجتها ب43 مقعدا يمكن القول بأنها
فشلت في هدفها الخاص وبقي حزب الحركة القومية هو الحزب الأكبر الممثل للتيار
القومي ب50 مقدا بزيادة مقعد واحد في هذه الانتخابات 2023، وقد عقّد طريقها كذلك ظهور
الشخصية السياسية القومية سنان أوجان الذي حقق نتيجة 5 بالمائة في الانتخابات
الرئاسية ضمن تحالف الأجداد وتحالفه في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية مع
أردوغان. لقد استطاع الطيب رجب أردوغان أن يتعامل مع هذه المكونات الإضافية لتحالف
حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي بالمحافظة على تحالفه مع حزب الحركة
القومية وبجلب حزب الرفاه الجديد الذي يرأسه ابن نجم الدين أربكان الذي حقق نتائج
إيجابية بتقدم مرشحيه للانتخابات البرلمانية باسم الحزب.
وقد تكون النتائج التي حققها أحزاب التيار الإسلامي لصالح معالجة الحلقة
المفقودة التي نتناولها في هذه الدراسة، خصوصا إذا أضفنا لها تقدم الحزب الإسلامي
الكردي هدى بار (حزب الدعوة الحرة).
وإذا نظرنا في المحصلة إلى نتائج الانتخابات البرلمانية في حلف
الحكومة والحلف المعارض ومعها نتائج الانتخابات الرئاسية يمكننا أن نقول أن التيار
القومي المحافظ هو المنتصر الحقيقي في هذه الانتخابات. غير أن الخطر الذي يبقى
يهدد استمرار التجربة التركية الأردوغانية هو المحور المركزي لتحالف الأمة المتمثل
في حزب الشعب الجمهوري وحزب العمال الكردستاني وفق ما سنراه في هذا المقال.
إن من الأبعاد التي تعقد العمل السياسي في تركيا مشكلة الاستقطاب
القومي والمذهبي الحاد والأبعاد العرقية المهيمنة على التوجهات والمواقف، بما يجعل
التجربة التركية مهددة وهامش المناورة فيها عند الناخبين على أساس النتائج
الاقتصادية والخدمية ضيقا وفق ما رأيناه في الانتخابات الأخيرة، فالصوت الكردي
الغالب مغلق لصالح قوة سياسية قومية كردية ذات خلفية انفصالية، وحزب الشعب
الجمهوري صار قلعة العلويين بالإضافة إلى كونه مأوى التيار الأيديولوجي العلماني
الأتاتركي، وهؤلاء لهم كتلة ناخبة كبيرة لا تغير خياراتها الانتخابية، وموقفها
العدائي لحزب العدالة والتنمية ولقادته لا يتبدل مهما عمل هؤلاء لصالح الشعب
التركي ومكانة تركيا بين الأمم.
ثمة حلقة مفقودة في التجربة السياسية التركية، التي تحقق نتائج مادية
مذهلة إلى الآن بقيادة القائد التاريخي رجب طيب أردوغان، وتتمثل هذه الحلقة
المفقودة في كيفية معالجة التطرف الأيديولوجي وجسر التباعد القومي، وإنشاء مساحة
أمان انتخابي حضاري واسعة، إذ بإمكان القوى الأيديولوجية المتطرفة والقومية
الكردية والتركية المتشددة أن تقلب المعادلة في أي انتخابات مقبلة في حالة بقاء
الموازين الانتخابية على حالها، لا سيما أن السنن التاريخية تؤكد بأن دولا وجماعات
ومؤسسات انهارت بعد غياب مؤسسيها حينما لا ينتبهون أثناء مجدهم للحلقات المفقودة.
إن تحالف حزب العدالة والتنمية مع التيار القومي تحالف طبيعي إذ كلاهما ـ كحزبين ـ
من سلالة التيار القومي الليبيرالي العثماني العلماني الذي نشأ في أواخر الدولة
العثمانية وفق ما بيناه في الحلقات الماضية، ووجود شخصيات ذات جذور إسلامية على
رأسها أردوغان نفسه لم يغير من طبيعة هذا التحالف إلى الآن إذ هذه الشخصيات ذاتها
تقر العلمانية والبعد القومي التركي لمشروعهم. غير أن هذا التحالف القومي يمثل
تحديا خاصا لأردوغان في معالجة القضية الكردية، رغم إدخال حزب كردي إسلامي فيه، إذ
المشكلة ثقافية اجتماعية قبل أن تكون سياسية أو اقتصادية.
يصعب حقيقة على أردوغان التوصل إلى اتفاق مستقر مع الأكراد باستعمال
خطاب قومي تركي فحسب، في بلد متعدد القوميات، وبالتحالف القوي الحصري مع حزب
الحركة القومية المتشدد الذي كان له في السبعينات ذراع شبابي عنيف يسمى ” الذئاب
الرمادية” نسبة إلى أسطورة تمجد العرق التركي وقد أنشأه ألب أرسلان توركيش عام
1969 بعدما اعتبر أن حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال قد ابتعد عن المبادئ
الأتاتوركية، وقد كان هذا الحزب يحاول أن يجمع، منذ تأسيسه، بين فكرة سمو العرق
التركي والانتماء الإسلامي للأتراك والمعارضة الشديدة لأي تسوية مع الأكراد أو
منحهم الحقوق الثقافية والتعليمية والإعلامية، ودعوته إلى حل المشكلة معهم أمنيا.
وبعدما كان هذا الحزب يعارض حزب العدالة والتنمية الحاكم بسبب المفاوضات مع
الأكراد، بدأ يقترب منه في أجواء تعثر المفاوضات ثم صار حليفا له بشكل علني منذ
2015 بعد أن انهارت التسوية كلية.
إن المسألة الكردية لا تؤثر على العملية الانتخابية في المناطق
الكردية فحسب، بل بإمكانها خلط الأوراق والتأثير في التحالفات والحسابات
الانتخابية والسياسية في كل تركيا. وقد صرح أردوغان في خطابه الشهير بديار بكر سنة
2005 قائلا: “إن المشكلة الكردية ليست مجرد مشكلة جزء من هذه الأمة، بل هي مشكلة
بالنسبة للأمة جمعاء، كما أنها مشكلتي أيضا” وأُطلق مبادرتين كبيرتين للمصالحة في
سنة 2009 وبين 2013 و2015 جعل أساسَهما الإقتصاد والتحول الديمقراطي، ورغم التقدم
المهم الذي تحقق توقفت المحاولة بعودة العنف واتهام حزب الشعوب الديمقراطي
بالعلاقة بالإرهاب مع حزب العمال الكردستاني والانخراط في مشاريع أجنبية معادية
لتركيا ولمجهودات أردوغان وحزبه من أجل نهضة تركيا. سنعود إلى الحديث عن مسار
المصالحة والتسوية السياسية مع الأكراد، ولكن لفهم الأسباب العميقة لتعثرها، نرجع
إلى جذور المشكلة، مرحلة بعد مرحلة، على النحو التالي: لم يكن في الزمن القديم
مشكلة قومية كردية، كما لم يكن ثمة مشكلة قومية تركية.
لقد كان الأكراد والترك والفرس والمغول يعيشون ضمن قبائل متعددة
متجاورة متداخلة أعراقها من وسط آسيا إلى غربها، وبعد أن دخلوا الإسلام صاروا
يعيشون جنبا إلى جنب في إطار الأخوة الإسلامية ومفهوم الأمة المحمدية الواحدة
وكانوا جزء أساسيا في الحضارة الإسلامية، وبرز منهم قادة وعلماء في مختلف المجالات.
استطاع السلطان عبد الحميد بسياساته المختلفة التي فصلناها سابقا أن يؤجل سقوط الدولة العثمانية ثلاثين سنة. ولكن بعد إنهاء حكمه بانقلاب 1908 ـ 1909 وتوريط حزب الاتحاد والترقي الدولةَ العثمانية في الحرب العالمية الأولى وخسارتها الحرب تكالبت عليها الأمم لتقسيمها وفق اتفاقيات سرية أهمها وأكثرها تأثيرا اتفاقية سايكس بيكو التي رتبها البريطانيون والفرنسيون عام 1916 قبيل نهاية الحرب بدعم من روسيا القيصرية والتي فضح أمرها البلشفيون بعد ثورتهم الشيوعية على القيصرية عام 1917. وتعتبر اتفاقية سايكس بيكو هي أول اتفاقية دولية تُكرس تقسيم الأراضي الكردية بترتيب من ثلاث دول خارج العالم الإسلامي.
وبالرغم من أن جذور الشُعُوبية قديمة منذ دسائس المجوس وقتلهم لعمر
بن الخطاب، وخصوصا في زمن الدولة العباسية، فقد كان التسليم لريادة العرب أمرا
محسوما بسبب التفوق الحضاري الذي جعل اللغة العربية منذ نهاية القرن الهجري الأول
هي لغة العلم في العالم، وكل الشعوب المسلمة غير العربية كانت مأسورة بجاذبية
العرب والعربية، فأبدعت بهذه اللغة حتى تفوق كثير منهم على العرب في مختلف العلوم
والفنون، ومنها قواعد اللغة العربية ذاتها، وزاد التأصيل الشرعي للإمارة في
القرشيين تسليما لعدم منازعة العرب في قيادة الأمة، ولكن حين ضعفت الخلافة
العباسية بدأت الأعراق الأخرى تشكل كيانات سياسية وأقامت لنفسها دولا كثيرة قوية
كان أكثرها من الأتراك والفرس والمغول الذين أسلموا، وكوّن الأكراد إمارات كردية
عبر العديد من الأزمنة أغلبها بقي محدودا جغرافيا ومحدودا في الزمن، ولكن بعض
الشخصيات الكردية سيطرت على دول كبيرة خارج كردستان منها الدولة الشيعية الزندية
في بلاد فارس (1750-1736) والدولة الأيوبية السنية في مصر وبلاد الشام والحجاز
واليمن والنوبة.وفي الرمق الأخير للدولة العباسية كانت دول إسلامية كبرى متنافسة
هي الدولة العثمانية السنية الصاعدة (1299-1924) والدولة الصفوية الشيعية الطامحة
(1501-1736) والدولة المملوكية راعية الخليفة العباسي المقيم في مصر (1250-1517)،
وكان في كردستان الواقعة بين الأراضي العثمانية والصفوية عدة إمارات سنية كردية
تنظم شؤون السكان وكان هؤلاء يتعرضون لسوء معالمة الصفويين فساهم ذلك في انحيازهم
للدولة العثمانية في معركة جالديران في 23 أغسطس\ أوت عام 1514م التي انتصر فيها
السلطان سليم الأول العثماني على الشاه إسماعيل الأول الصفوي.
كان الشيخ حسام الدين إدريس البدليسي مؤرخا وشاعرا ومترجما كرديا ذا
تأثير كبير على الزعماء الأكراد فساهم في توحيدهم على
رأي واحد ليكونوا جزء من
الدولة العثمانية ضمن حكم ذاتي وراثي في إماراتهم، مع الدعوة على المنابر للسلطان
وتقديم رسومات سنوية والمشاركة في الحروب التي تخوضها الدولة والدفاع عن الأراضي
العثمانية خصوصا في مواجهة الصفويين، وكانت إمارة بدليس أقوى إمارة كردية انضوت
تحت الحكم العثماني بعد معركة جالديران بعدما كان يسيطر عليها الصفويون. أدى
انتصار سليم الأول إلى إضعاف الصفويين وفُتحت الطريق للعثمانيين للتوسع جنوبا نحو
مصر والقضاء على الدولة المملوكية الوصية على الخليفة العباسي في مصر، والتحكم في
قلب الأمة الإسلامية في بلاد الشام والعراق والحجاز واستحقاق فتوى انتقال الخلافة
الإسلامية من العرب إلى الأتراك العثمانيين من قبل جمهور العلماء. غير أن صراعهم
مع الصفويين والدول الشيعية الأخرى التي خلفتهم في حكم بلاد فارس (الأفشارية،
الزندية، القاجارية، البهلوية ) بقي مستمرا وكانت ساحات معاركهم الأساسية الأراضي
الكردية، وعُقدت على إثر تلك المعارك عدة اتفاقيات كرست انقسام الأراضي الكردية
منها معاهدة أماسيا عام 1555 في زمن نهضة العثمانيين ومعاهدة نصوح باشا عام 1614
في فترة ركودهم، ومن أهمها معاهدة قصر شيرين عام 1639 بعد انتصار السلطان مراد
الرابع العثماني على الشاه الصفوي عباس الأول وقد بقيت هذه الاتفاقية مرجعا
لاتفاقيات ترسيم الحدود لاحقا بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، وصعبت إنشاء دولة
كردية كبيرة على كامل كردستان.
في فترات متعددة حاولت بعض الإمارات الكردية الانفصال عن الدولة
العثمانية، من أهمها إمارة بدليس في عهد السلطان مراد الرابع بعد انتصاره على عباس
الأول الصفوي فتم اكتساحها من قبل الجيش العثماني وأصبحت بدليس ولاية عثمانية،
وزاد من عناء الأكراد الحروب المستمرة بين إماراتها طيلة القرن الثامن عشر، وفي
القرن التاسع عشر أخذ النفوذ القيصري الروسي لأسباب توسعية والبريطاني والفرنسي
لأسباب استعمارية اقتصادية يتصاعد في كردستان بالاعتماد على حالة الفوضى في
المنطقة وبداية أفول الدولة العثمانية، وصار لكثير من زعماء ومثقفي الأكراد علاقات
وثيقة بهم ظنا منهم أن هؤلاء الوافدين المسيحيين الجدد سيساعدونهم على تحقيق
طموحاتهم في تقرير مصيرهم كما فعلت قوميات أخرى تحت السلطة العثمانية كالعرب
والأرمن والألبانيين وغيرهم. ومن جهة أخرى تقلد، في كل هذه المراحل، العديد من
الشخصيات الكردية مناصب عليا في الدولة وصار الكثير منهم من أقرب المقربين إلى
السلاطين العثمانيين.
في فترة انحطاط الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر بدأت
الرابطة الأخوية الإسلامية تتفكك وأثر النفوذ الأجنبي الأوروبي والروسي في النخبة
التركية والكردية على حد سواء، وتشكلت التيارات العلمانية فيهما على نحو ما ذكرناه
في المقال السابق، وكان لكليهما دور أساسي في إسقاط الدولة العثمانية وإزاحة
الخلافة الإسلامية العثمانية.
فقد شارك الأكراد في تأسيس منظمة تركيا الفتاة وكانوا من المنظمات
الفاعلة فيها حينما كانت جامعة لكل الأقليات الدينية والعرقية والتوجهات العلمانية
المناهضة للسلطان عبد الحميد الثاني، وبعضهم شارك في تأسيس جمعية ثم حزب الاتحاد
والترقي وصاروا أعضاء فاعلين فيه إلى أن غلب توجهه القومي التركي فتركوه، ومن
أبرزهم المفكر عبد الله جودت الكردي الذي لجأ إلى حزب الائتلاف الليبيرالي الذي
كان يدعو إلى دولة عثمانية علمانية لا مركزية كما أشرنا إلى ذلك في المقال
السابق.
يمكن أن نعدّ فترة حكم السلطان عبد الحميد من أفضل الفترات بالنسبة للأكراد
إذ استعان بهم في مواجهة المؤامرات الروسية والبريطانية لتفكيك الدولة، لا سيما
عندما حاولت هذه القوى الأجنبية تأسيس دولة قومية أرمينية على حساب الأكراد في
الشمال الشرقي لكردستان في الجهة الشمالية الشرقية لتركيا حاليا بالرغم من أن
النسبة السكانية للأرمن في تلك المنطقة لم تكن تتجاوز 19 بالمائة، فقرب عبد الحميد
الأكراد وأدخلهم المعركة ومكنهم من الدفاع عن أراضيهم وأشركهم في حماية أراضي
الدولة في مواجهة التهديدات الروسية في شرق تركيا الحالية، إذ شكل منهم ألوية
الخيالة (63 لواء) التي يضم كل لواء منها أكثر من ألف إلى ألف وخمسمائة مقاتل.
وقام بإعفاء الأكراد من الضرائب وقرّب العائلات الكردية العريقة حتى
صاروا مسؤولين في بلاطه على شاكلة عبد القادر خان ابن الزعيم الكردي التاريخي
بدرخان الكبير.
وقد استطاع السلطان عبد الحميد بسياساته المختلفة التي فصلناها سابقا
أن يؤجل سقوط الدولة العثمانية ثلاثين سنة. ولكن بعد إنهاء حكمه بانقلاب 1908 ـ 1909
وتوريط حزب الاتحاد والترقي الدولةَ العثمانية في الحرب العالمية الأولى وخسارتها
الحرب تكالبت عليها الأمم لتقسيمها وفق اتفاقيات سرية أهمها وأكثرها تأثيرا
اتفاقية سايكس بيكو التي رتبها البريطانيون والفرنسيون عام 1916 قبيل نهاية الحرب
بدعم من روسيا القيصرية والتي فضح أمرها البلشفيون بعد ثورتهم الشيوعية على
القيصرية عام 1917. وتعتبر اتفاقية سايكس بيكو هي أول اتفاقية دولية تُكرس تقسيم
الأراضي الكردية بترتيب من ثلاث دول خارج العالم الإسلامي.
اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (1)
اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (2)
اقرأ أيضا: كيف يقرأ الإسلاميون العرب الانتخابات التركية وتجربة أردوغان؟ رأي من الجزائر (3)