أثار خبر وفاة الكاتب التشيكي-الفرنسي
ميلان كونديرا، منذ أيام (عن
94 عاما) في
فرنسا، انشغالا وتفاعلا عربيا مبالغا فيه، وحتى سجالات وخصومات
كالعادة! لكن ما يبدو فعلا لافتا في الاحتفاء، الذي يحظى به كونديرا عربيا، قبل
وبعد موته سواء عن جهل للكثيرين أو عن تجاهل مقصود لبعض المطلعين، هو موقفه من
القضية الفلسطينية ودعمه للاحتلال الصهيوني وأكاذيبه عن الأرض الموعودة لليهود بكل
مفارقات أن كونديرا ملحد، مثل "غالبية الصهاينة الذين لا يؤمنون بوجود الله،
لكنهم يؤمنون أنه وعدهم بأرض فلسطين"، كما يؤكد المؤرخ
الإسرائيلي إيان بابي!
في عام 1985 حصل كونديرا على جائزة "جيروزالم" الأدبية
الإسرائيلة، ومما جاء في خطاب قبوله للجائزة، قال الكاتب "إن منح أهم جائزة
إسرائيلية للأدب العالمي ليس، في
رأيي، مسألة صدفة، بل تقليد عريق. وبالفعل، فإن
الشخصيات اليهودية العظيمة، التي نُفِيَت من أرضها الأصلية، وبالتالي تجاوزت
المشاعر القومية، أبدت دائمًا شعورًا استثنائيًا بأوروبا يتسامى على الوطنية - وهي
أوروبا التي لم يتم تصورها على أنها أرض، بل كثقافة. وإذا كان اليهود، حتى بعد أن
خذلتهم أوروبا بشكل مأساوي، حافظوا مع ذلك على إيمانهم بتلك الكوزموبوليتانية
(العالمية) الأوروبية، فإن إسرائيل، وطنهم الصغير الذي تمت استعادته أخيرًا، يبدو
لي القلب الحقيقي لأوروبا، قلب غريب يقع خارج الجسد. أستقبل اليوم بمشاعر جياشة
هذه الجائزة التي تحمل اسم جيروزالم، وهي مدموغة بهذه الروح الكبيرة العالميّة
اليهوديّة".
احتفاء عربي مبالغ فيه.. تعتيم وتناقضات
يقدر ما يثير هذا الموقف من كونديرا، صاحب الرواية الشهيرة
"كائن لا تحتمل خفته"، من تساؤلات حول أبعاده ودلالاته وتناقضاته، بقدر
ما تطرح تساؤلات حول هذا الاحتفاء "المبالغ فيه" عربيا بالكاتب، سواء عن
استعراض لكثيرين أو عن إطلاع وإعجاب لبعض الكتاب والنقاد والمترجمين العرب (على كل
المآخذ على نوعية ترجمات أعمال كونديرا للعربية). وفي هذا السياق يشير الكاتب
الفلسطيني، سليم البيك في مقال له بصحيفة "القدس العربي" في 2015 إلى أن
كلمة كونديرا، التي ألقاها خلال استلام الجائزة الإسرائيلية، نشرت في كتابه "فن
الرواية" الصادر باللغة الفرنسية. ويلفت الكاتب الفلسطيني إلى أن
ْ"الكتاب يتكوّن من نصوص نقدية وحوارين وهذه الكلمة، أمّا سبب احتواء الكتاب
على كلمة هذه الجائزة دون غيرها من الجوائز، وقد حاز كونديرا العديد منها وتفوق في
أهميّتها، فلا إجابة لدي". ويضيف البيك أن الغاية من مقاله هنا "هي
توضيح رأي كونديرا بدولة إسرائيل، وهو ما يجهله العديد من العرب لسبب يُلام عليه
المترجمون إلى العربية، مترجمون يعتمد على ما يترجمونه لا القرّاء فحسب، بل
الفاعلون في المجال الثقافي، كتّابا وصحافيّين".
ويشير البيك إلى أن "فن الرواية" تُرجم إلى العربية، من
قبل المترجم السوري المقيم في فرنسا بدر الدين عرودكي، وصدرت الترجمة عن "دار
الأهالي" في دمشق ثمّ، بزيادة نصوص أخرى من كتابين منفصلين ونقديين آخرين
لكونديرا، صدر للمترجم نفسه كتاب "ثلاثية حول الرواية" عن "المشروع
القومي للترجمة" في القاهرة. وشدد الكاتب الفلسطيني عل أن المترجم العربي قام
في ترجمته بحذف فقرات كلام كونديرا المادح لإسرائيل واليهود، بـ "مبادرة
ذاتيّة من المترجم (لا الدار) حرصاً منه على سلامة آراء وقناعات القارئ
العربي" حول كونديرا كما يبدو.
ويثير موقف كونديرا من دولة الاحتلال تساؤلات عما إذا كان عن
"جهل" أو "تواطؤ"، عندما يتحدث عن "إسرائيل، وطنهم
الصغير (لليهود) الذي تمت استعادته أخيرًا"، و"الشخصيات اليهودية
العظيمة، التي نُفِيَت من أرضها الأصلية"، وهذه الشخصيات، التي يشير لها
كونديرا مثل ماركس، وفرويد، هم المفترض لا دينيون، وتبدو مفارقة أن يؤمن غير
المؤمن كذلك مثلهم كونديرا مثل غالبية الصهاينة بـ"أن الله غير موجود ولكنه
وعد اليهود بأرضهم المفقودة المزعومة في فلسطين"!
الكاتب الفلسطيني سليم البيك، ولا يمكن إلا الاتفاق معه، يؤكد أن
كلام كونديرا عن إسرائيل يفي "في تبيان رؤية الكاتب لدولة الاحتلال، وهي رؤية
لا تنم عن «الجهل»، فلا مجال لذلك، بل عن تواطؤ مع أدبيّات الاحتلال الصهيونية
التي جاء على أساسها إلى فلسطين. وهي، فوق ذلك، "حفلة تفاهة" من "كائن
لا تُحتمل خفّته" (بالإذن من كونديرا نفسه) حين يصف إسرائيل بأنها "تتعالى
على المشاعر القوميّة"، وهي التي ما تزال تقاتل منذ إعلانها عام 1948 من أجل
دولة يهوديّة محدّدة الديانة والقوميّة".
في خطاب كونديرا، كما يلفت البيك "لا يخلو من فكرة الربط بين
إسرائيل وأوروبا من جهة، وبين الرواية التي يقول إنها خلق أوروبي بامتياز (كما
إسرائيل تماماً)، وأوروبا من جهة ثانية. فكلاهما في قلب الروح الأوروبية، ودائماً
ثقافياً".
لكن المفارقة، التي لا يشير لها إلا تلميحا كونديرا، هي أن هؤلاء
اليهود المضطهدين، كما يقول، وفي نفس الوقت مرتبطين بأوروبا، وفي قلب أوروبا، هم
ليسوا إلا ضحايا
أوروبا بكل ثقل وسوداوية سجل القارة التاريخي في معاداة السامية، ومحرقة اليهود في
ألمانيا النازية، وما تعرض له اليهود من شيطنة وتمييز في عموم القارة لقرون حتى..
لينتهي الأمر بأن يدفع الشعب الفلسطيني والعرب فاتورة التنكيل الأوروبي باليهود،
بأن يتواطأ يهود أوروبا بشكل خاص مع الجلاد الأوروبي في زرع الكيان الصهيوني
بالقوة وبالتلاعب والتواطؤ واستغلال ضعف العرب في فلسطين وفي جسد العالم العربي.
يبدو كلام كونديرا في هذا السياق معبرا عندما يقول "وإذا كان
اليهود، حتى بعد أن خذلتهم أوروبا بشكل مأساوي، حافظوا مع ذلك على إيمانهم بتلك
الكوزموبوليتانية (العالمية) الأوروبية، فإن إسرائيل، وطنهم الصغير الذي تمت
استعادته أخيرًا، يبدو لي القلب الحقيقي لأوروبا، قلب غريب يقع خارج الجسد".
وإن كان كونديرا محقا في شيء ففي تشبيهه بأن إسرائيل ليست إلا عضوا
(أوروبيا) مرفوضا تم فرض زراعته في جسد فلسطيني وعربي، مازال يلفظه ويقاومه منذ
عقود، رغم كل محاولات الترغيب والترهيب.
أعلن عن "تبجيله للثقافة والعبقرية
اليهودية"
في مقال بعنوان "كيف جسد ميلان كونديرا الروح اليهودية"
كتب الكاتب اليهودي بينجامين إفري في موقع "فورورد" اليهودي، عن تبجيل
كونديرا للثقافة اليهودية، ويشير إلى أنه في روايات مثل "المزحة"
(1967)، و"كتاب الضحك والنسيان"، و"كائن لا تحتمل خفته"
(1984)، استوحى كونديرا من الأرواح الإبداعية اليهودية المدرجة مثلما قال في خطاب
قبوله بجائزة إسرائيل الأدبية عام 1985.
ويذكر أن كونديرا أكد أن أوروبا الوسطى تميزت بشكل فريد بتأثير
العبقرية اليهودية. وأن هذا هو السبب في أنه أحب التراث اليهودي وتشبث به
"بقدر من الشغف وكأنه ملكه".
ويلفت إلى أن شعور كونديرا تعزز خلال دروس الموسيقى المبكرة في
مدينته برنو مع الملحن اليهودي التشيكي بافيل هاس، الذي سيتم قتله في معسكر
"أوشفيتز" النازي. وينوه الكاتب إلى أن زواج كونديرا الأول كان من ابنة
هاس، مغنية الأوبريت اليهودية التشيكية أولغا هاسوفا ـ سمريكوفا.
في رصده لآراء كتاب يهود عن كونديرا، يذكر كاتب المقال أن "بيير
أسولين، الصحفي الفرنسي من أصل يهودي مغربي، كان مبتهجًا بأعمال كونديرا اللاحقة،
المكتوبة مباشرة باللغة الفرنسية، على عكس فانتازياته القديمة باللغة التشيكية".
لكنه يشير إلى أن أسولين كان منزعجًا من الطريقة التي أعاد بها
كونديرا بناء ماضيه بعد وصوله إلى فرنسا في عام 1975، حيث فعل كل شيء للتعتيم على
شعره الستاليني المبكر أثناء عضويته في الحزب الشيوعي التشيكي. ويلفت الكاتب إلى
أن "كونديرا نفى بشدة، وإن كان بشكل غير مقنع، التأكيد الوارد في سيرة ذاتية
تشيكية صدرت عنه عام 2008 بأنه، بصفته طالبًا جامعيًا يبلغ من العمر 21 عامًا، وشى
لمخابرات النظام الشيوعي في بلاده بزميل طالب معه بدعوى تعبيره عن مواقف داعمة
للغرب. وقد حُكم على هذا الطالب بالسجن 22 عامًا، قضى سنوات عديدة منها في معسكر
للأعمال الشاقة".
وبحسب الكاتب فبالإضافة إلى عشق كونديرا للمؤلفين اليهود، فقد كان
يعتز أيضًا بكتاب معادين للسامية (اليهود)، مثل الكاتب الفرنسي لوي فرديناند
سيلين. وذكر أن كونديرا كان يُقدّر روايات سيلين لدرجة أنه تنازل عن طيب خاطر عن
حقوق المؤلف الخاصة به في وقت مبكر من حياته الأدبية، حتى تتمكن دار النشر
التشيكية الخاصة به أيضًا من طباعة أعمال سيلين.
كما أشاد كونديرا بكتاب "الجلد" للكاتب الإيطالي الفاشي
كورزيو مالابارت، وهو سرد لفظائع الحرب، بما في ذلك اليهود المصلوبون على الأشجار
في أوكرانيا في عام 1941.
ويلفت إلى أن كونديرا كان دائمًا يتعاطف مع اليهود، حتى الشخصيات
الثانوية، مثل الطالبة سارة في كتابه "كتاب الضحك والنسيان"، التي كانت
تعاني مثل الراوي شكلاً من أشكال المنفى.
ويؤكد الكاتب أن كونديرا أمضى السنوات الأخيرة في تدمير المخطوطات
والرسائل وأي وثائق أخرى قد تشهد على حياته السابقة، سواء كانت زلات مؤيدة
للستالينية أم لا. ولفت إلى صدور بداية هذا الشهر فقط سيرة عن حياة كونديرا أعدها
الكاتب الفرنسي إسحاق باشفيس سينج، وقد أعاق رفض كونديرا السماح لكاتبها بالوصول إلى
الأشخاص الذين عرفوه في سنوات سابقة.
ويختم إيفري بالقول إنه "ربما أكثر من الصورة المتعاطفة لليهود
التي شكلها في كتاباته، كان كونديرا مهوسًا بصورته الذاتية".
*كاتب
جزائري مقيم في لندن