لست أشك في أن الكثيرين يقارنون ما يجري في إسرائيل
من تصد متين لإرادة المستوطنين إفساد شروط دولة القانون وفرض الفاشية السياسية، مع ما
يجري في أي بلد
عربي بين اليسار خاصة وأدعياء الحداثة عامة من النخب العربية.
ولست أشك في أن أي ملاحظ نزيه يقضي بأن
اليسار والحداثي العربي أشبه باليمين الإسرائيلي والأوروبي ولا علاقة له باليسار
لا الإسرائيلي ولا الأوروبي.
وحل اللغز يوجد في علاقة اليسار العربي بالأنظمة
التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية بدعوى القومة العربية والثورة على
الاستعمار الغربي بفاشيات كلها مستمدة من غرب ما بين الحربين العالميتين: الفاشية الشعبوية
الإيطالية، الفاشية الشعبوية الألمانية، الفاشية الشعبوية الإسبانية، والفاشية
الشعبوية الشيوعية.
لكنها لم تكن نخبا مبدعة لأي شيء بل هي
استبدت بهذه الشعارات لكي تنكص في كل شيء بالمقارنة مع المجتمعات الشرقية الأخرى
التي بدأت النهوض في نفس الوقت مع العرب، فتقدمت ما عدى العرب الذين تأخروا حتى
بالقياس إلى ما كانوا عليه تحت الاستعمار المباشر. وهو ما يعني أن الاستعمار غير
المباشر أشد على الأمة من الاستعمار المباشر، لأن كل من صار يعتبر من نخب العرب
التي بيدها السلطان هم من جنس "المستوطنين" الاسرائيليين.
يكفي أن تنظر في من يتظاهر الآن في إسرائيل
ضد الخروج من شروط دولة القانون إلى الاستبداد الفاشي لأقصى اليمين ليس ضد
الفلسطينيين فحسب بل وأيضا ضد كل الشعب الإسرائيلي.
في تونس ماذا يجري؟ لا وجود للنخب التي تدعي
الحداثة واليسراوية ولا القومية بل كل همهم المحافظة على ما يستمدونه من ولائهم لسادتهم الذين نصبوهم على الدولة
بوصفها "تكية" يتمعشون منها ويستعبدون الجماعة في معاشها وشرفها.
مشكلهم ليس شروط تحقيق الحرية والكرامة بل
منع تعميمهما للجميع حتى يبقى السلطان بيدهم لأن ممارسة الديمقراطية يعني بيان
نسبتهم من الشعب ووزنهم الحقيقي.. وسياستهم هي عين سياسة اليمين الغربي
والإسرائيلي وإن كان بشعارات متعاكسة.
والسبب بسيط فكلاهما يحارب حضارة يعادونها.
لكن اليميني الغربي والإسرائيلي للدفاع عن حضارته واليساري والقومي العربي
يشاركهما نفس الحرب ليس للدفاع عن حضارته بل لاستبدالها بحضارة تحرر منها اليسار ي
الغربي.
لذلك فجلهم تلاميذ وزير خارجية فرنسا
ومفكرها زيبتون: وهما رمزان لليسار العربي لأنهم تربية فرنسا في الجزائر وأحدهما
قبلي والثاني صهيوني. وفي المغرب الكبير من يحارب الديمقراطية والحضارة العربية
الإسلامية لهما نفس العقيدة التي لهذين الرمزين الفرنسيين.
والمعلوم كل اليسار والقوميين العرب أجدادهم
خريجوا المعاهد الفرنسية والأمريكية في لبنان ومصر. والبداية كانت مع من ينسبون
إليه نهضة مصر المزيفة المتمثلة في جيل الباشوات التي لم تحقق واحد في المليون مما
حققه اليابانيون الذين بدأوا النهضة بعدهم.
وكانت العلة هي أن نظام محمد علي لم يكن
للنهوض بل لإسقاط الخلافة لأنه حقق بمساعدة فرنسية المشروع الذي جاء نابليون إلى
مصر لتحقيقه وهو مشروع وضعه لا يبنتس لإسقاط الخلافة التي كانت مخيفة في عصره.
وقد نجح محمد على ومن بعده حمقى لاورنس
العرب في إسقاط الخلافة وهي في الحقيقة كانت قد صارت الرجل المريض لكنهم لم يحصلوا
على نضهة بل على الاحتلال الدائم إلى اليوم لأنه أسس لشروط بقائه: أي تفتيت
الجغرافيا وتشتيت التاريخ ومنع كل إمكنانية لتنمية مادية لمحميات تابعة بالجوهر، وكل
إمكانية لمحميات تابعة بالجوهر، وتلك هي ثمرة سايكس بيكو وزرع إسرائيل.. فسايكس
بيكو ووعد بلفور حدثا في نفس الحيز الزماني لما كان القوميون العرب في الشام ومصر
بخدعة استرداد الخلافة قد مكنوا فرنسا وأنجلترا بتحقيق ما عليه خارطة الوطن
الحالية.
والتي هي مقبلة على سايكس بيكو ثانية بإحياء
نعرة قوميات الأقليات لتفتيت أبعد غورا بدأنا نراه في ليبيا واليمن والسودان وفي
العراق قبل ذلك وسيتبع ذلك خطة برنار لويس في كل الأقطار العربية وحتى غير العربية
في الإقليم.
وعندما نبحث عن العلة يكفي للجواب مقارنة
نخب إسرائيل في أزمة دولتهم ونخب العرب في أزمة المحميات.. فسلوك أولئك دفاع عن
دولة القانون وسلوك هؤلاء دفاع عن دولة "المستوطنين".
وكنا نعتقد أن عملاء الاستعمار انجلوا معه
كما حدث في الجزائر بانجلاء البيي نوار والحركيين فإذا بهم في الحقيقة صاروا أكثر
وطأة لأنهم استحلوا كل أجهزة الدولة في الداخل وصاروا في الخارج أدوات للمستعمر من
أجل مزيد التضييق علي المهاجرين من شعوبهم إلى الغرب.
والظاهرة ليست خاصة بالحركيين الجزائريين
فجل النخب العربية التي تدعي اليسارية والقومية لا تختلف عن الحركيين: اسمهم في
تونس هو الوطد والديمقراطيين والحداثيين والقوميين ويستعملون أجهزة الدولة
والنقابات والجمعيات لفرض الفاشية الشعبوية ومنع كل إمكانية لوجود دولة القانون.
اليساري والقومي العربي هو في الغالب إسلاموفوبي وعدو لحضارته بدعوى الحداثة والتقدمية والتنوير، في حين أنه فاشي واستبدادي و"خادم" بالجوهر للمستعمر ولا يعنيه لا دولة قانون ولا حرية ولا ديمقراطية ولا خاصة كرامة.. هم مافيات لا أكثر ولا أقل.
لا بد إذن من مقاومة أعم من الكلام على
الانقلاب ممثلا بالأحمق والقلة من أتباعه المباشرين لأنه مثله مثل تابعيه مجرد أداة
لهم: المشكلة مع "المستوطنين" الذين تركهم الاستعمار ومكنهم من رقابنا.
إذا كانوا يحبون التبعية فلا أحد يطلب
منهم التحرر لأنهم احرار في اختيار
منزلتهم في الوجود: ولدوا عبيدا ويعسر أن يكونوا أحرارا. لكن آباءنا جاهدوا لتحرير
هذه البلاد وعلينا أن نواصل الجهاد لتحريرها من فضلات الاستعمار.
إنهم حركيون وصبايحية وكل محاولة للحوار
معهم دالة على سوء فهم: فهم أقل من ألاقلية وكل قوتهم متأتية من احتلالهم أجهزة
الدولة والاعتماد على السند الأجنبي.
وليس لهم قاعدة شعبية وخاصة بعد أن فهم
المنتسبون إلى الاتحادين العمالي والأعراف أنهم ضحايا لمافيات وليس لنقابة عمالية أو
لنقابة أعراف: فحتى يفهم المرء معنى النقابة العمالية الوطنية فليقارن المافية
الحالية مع نقابة الأسدوروت وأعراف تونس بأعراف إسرائيل في الدفاع عن دولة القانون
ضد "المستوطنين" في إسرائيل.
طبعا لا أعتبر المقاومة الإسرائيلة لصالح
الفلسطينيين لأن كل الإسرائيليين موقفهم واحد من احتلال فلسطين ونية طرد أهلها.
لكنهم يفعلون ذلك حبا في بلادهم وليس عمالة لغيرها، وهذا هو مجال المقارنة ليس
الهدف من المواقف.
الموقف النخبوي الإسرائيلي يفهم معنى دولة
القانون لصالح بلادهم. الموقف النخبوي العربي لا تهمه دولة القانون لأنها تحول دون
الفاشية التي يستمد منها قوته وحماية الاستعمار له.
لسوء الحظ لم أجد وصفا آخر ومقارنة أفضل من
هذه لأن اليساري والقومي العربي هو في الغالب إسلاموفوبي وعدو لحضارته بدعوى
الحداثة والتقدمية والتنوير، في حين أنه فاشي واستبدادي و"خادم"
بالجوهر للمستعمر ولا يعنيه لا دولة قانون ولا حرية ولا ديمقراطية ولا خاصة كرامة..
هم مافيات لا أكثر ولا أقل.
ولما كنت واثقا من أنهم لن يرتدعوا بالتي هي
أحسن فلا بد من مقاومتهم بما يناسب إبعادهم عن أجهزة الدولة والنقابات والجمعيات
وكل توظيف لمؤسسات دولة القانون والحرية والكرامة. وهو ما يعني مواصلة مقاومة أجدادنا
لإتمام مهمة التحرير.. مصيرهم هو مصير الفيتناميين والأفغان يوم رحيل الأمريكان من
البلدين طال الزمان أو قصر.