مثَّلت أفغانستان على مدار تاريخها، محطة صراع جانبية بين القوى
العظمى، ما أفقر شعبها وجعله صاحب أكبر عدد من اللاجئين في العالم، بقرابة 8.2
مليون لاجئ في خمس دول فقط من دول الجوار.
لكن لم يكن يتوقع أحد أن الغزو الروسي، سينتج عن محاربته إنشاء ما
أُطلق عليه بعد ذلك (الجهاد العالمي أو الإرهاب العالمي) بحسب مراد مستخدِم
المصطلح، فالدعم الدولي للمقاتلين الأفغان والمسلمين، الذين استُنْفِروا
"للجهاد" ضد الغزاة، واستدعاء أفكار "الجهاد المقدس" تضافرا في
لحظة ليصبح ما بعدها يختلف تماما عما قبلها.
خلَّف الغزو الروسي هزائم كبيرة، قُدِّرت بقرابة 15 ألف قتيل، وأكثر
من 53 ألف جريح، وفي المقابل لقي قرابة
مليون أفغاني مصرعهم، فكانت المحصلة الدموية خروج الغزاة صفر اليدين بعد أكثر من 9
سنوات بقليل، وتشظِّي أفغانستان بين الميليشيات التي قاتلت السوفييت، ثم اقتتلت مع
بعضها، فنُهبت مدن، واغتُصبت النساء والأطفال، ليقرر الملا محمد عمر أن يوقف هذه
الممارسات، حين لجأ المواطنون الأفغان إلى علماء الدين متسائلين عن موقفهم من هذه
الحرب الأهلية و تداعياتها، فنشأت حركة
طالبان التي ساهمت -بقصد أو من دون قصد- في
تغيرات عالمية كبرى.
يقول الملا عبد الحي مطمئن نقلا عن الملا عمر: "وصلَتْ أحوال
مدينة قندهار والمناطق المحيطة بها إلى درجة أن شرفَ المسلمين وأرواحهَم
وممتلكاتِهم لم تعد آمنة. (...) اعتبرتُ أن من الواجب عليَّ وقف هذه الجرائم،
فتركت أنا وصديقي المدرسة وذهبنا إلى زانجي أباد، (...) وأخبرت صديقي أننا سنزور
المدارس الآن لدعوتهم للانضمام إلى قضيتنا". وكان هذا في يونيو/ حزيران 1994.
خلَّف الغزو الروسي هزائم كبيرة، قُدِّرت بقرابة 15 ألف قتيل، وأكثر من 53 ألف جريح، وفي المقابل لقي قرابة مليون أفغاني مصرعهم، فكانت المحصلة الدموية خروج الغزاة صفر اليدين بعد أكثر من 9 سنوات بقليل،
على مدار شهرين، طلب الملا عمر من الميليشيات المسلحة إزالة النقاط
غير الشرعية، وفي أيلول / سبتمبر1994 أزال مع أصدقائه نقطة تفتيش غير شرعية في
باشمول، وكانت بداية العمل العسكري لطالبان. تَبِعَ إزالة النقطة ترحيب الجماعات
المحلية، وبعد العملية بثمانية أيام انعقد اجتماع لاختيار أمير للمجموعة، واختار
الحضور بالإجماع الملا عمر أميرا عليهم، وبدأت رحلة السيطرة على أفغانستان لإنهاء تنازع
الميليشيات.
خلال تلك الرحلة وقعت تجاوزات من أعضاء الحركة، وأصدر الملا عمر
تعليماته بعدم التعذيب أو القيام بانتهاكات، ومع ذلك، فقد قتل الملا عمر بنفسه،
أحد أشهر قادة الحواجز سيئة السمعة "نادر جان". وقد فسَّر مطمئن فعل
الملا عمر بقوله: "حسب معلوماتي كان أول وآخر أسير يقتله الملا عمر، نادر جان
كان قائدا لديه نقطة تفتيش ذات سمعة سيئة بالقرب من منزل الملا عمر، وانخرط في
اختطاف النساء من السيارات لاغتصابهن، ويُعد هذا الحاجز أحد أسباب انتفاضة الملا
عمر وتأسيسه حركة طالبان".
الوصول إلى السلطة
خلال سنتين استطاعت الحركة السيطرة على مناطق واسعة في أفغانستان،
فاقترح مجلس الشورى الأعلى في الحركة على الملا عمر الدعوة لعقد اجتماع للعلماء من
المناطق التي تسيطر عليها طالبان، لتلقي الاقتراحات بشأن مستقبل الحركة، وانعقد
الاجتماع في 30 آذار / مارس 1996، وشارك فيه أكثر من 1500 شخص، وانضم إليهم الملا
عمر في اليوم الثالث، وبحسب مطمئن "أوصى مولوي إحسانُ الله إحسان خلال كلمته
الحشدَ المجتمِع أن يطلقوا على الملا عمر لقب (أمير المؤمنين)، وهو ما رحب به
الجميع. وبدأ في مبايعة الملا عمر الذي كان مرتبِكا ومتفاجئا، لأن ما حدث غير متوقَّع".
وهنا يشير الملا عبد الحي مطمئن إلى أن "قادة الحركة لم يعتبروا
اللقب بمعنى "خليفة المسلمين"، إنما لقب يعبر عن زعيم لمجموعة من
المسلمين في منطقة صغيرة أو دولة"، وهذه إشارة إلى نطاق عمل الحركة جغرافيا،
وولايتها على الأفراد، بخلاف الذين يعلنون الولاية على عموم المؤمنين في العالم،
وسائر البقاع الجغرافية.
انتهى الاجتماع وأعقبه إعلان بعدم شرعية
حكم رباني، ونقاط تفتيش
الميليشيات، وأصدر الحضور قرارا بإبعاد رباني بالقوة عن الحكومة، ما دفعه إلى
التحالف مع حكمتيار، في أيار / مايو 1996، وتحرك حكمتيار تجاه كابول ضمن قافلة
ضخمة للدفاع عنها، لكنه بعد قتال قوي في محيط كابول والطرق المؤدية إليها لم يستطع
الحفاظ عليها، وسقطت في يد طالبان في 26 أيلول / سبتمبر 1996، وفي اليوم التالي
أُعدم الرئيس نجيب الله وشُنِق في ساحة أريانة، خوفا من حمايته عبر الضغوط
الإقليمية والدولية، لتثير مشاهد قتله وتعليق جثمانه غضبًا دوليًا كبيرًا على
الحركة.
سيطرت طالبان على العاصمة وشرعت في ترتيب إدارة شؤونها، وتشكَّلت أول
حكومة من وزراء توزعوا على أقاليم وقبائل أفغانستان، فيما يبدو أنه نوع من الترضية
للجميع، وكان الوزراء من الحركة، بينما بقية الموظفين من مسؤولي الحكومات السابقة،
وساهم الحفاظ على الهيكل الإداري في استقرار شؤون الحكم كما كان قبل سيطرة الحركة.
كما ساهم في التماسك الإداري للحكومة، الارتباط السابق لبعض قادتها
بجمعية "طلبة حركت"، التي قادها مولوي نصر الله منصور، وهي جمعية منبثقة
من تنظيم (حركة الانقلاب الإسلامي)، وخرج من رحم الجمعية عدد من المؤهلين القادرين
على القيام بأعمال إدارية في حكومتيْ رباني وطالبان، حتى قيل في عهد طالبان،
"إن فلانا يفهم الإدارة لأنه قضى وقتا في تنظيم مولوي منصور".
أسامة بن لادن وطالبان
شارك أسامة بن لادن في القتال ضد السوفييت، ثم عاد إلى السعودية
بأفكار مختلفة، وبشبكات من العلاقات مع مقاتلين خلال حقبة الغزو السوفييتي، ومع
تزايد الخلاف بينه وبين النظام السعودي سافر إلى السودان، لكن لم تتوقف الضغوط
الدولية لإخراجه من السودان أيضا، حينها قال الترابي للمبعوثين الأمريكيين والبريطانيين :
"خير لكم أن يصرف طاقاته هنا في هذه
الأعمال، فإن أخرجتموه إلى أين سيذهب؟ لقد فقد جنسيته، سيذهب إلى أفغانستان! تلك
الجبال لا يتذكر فيها إلا الجهاد، فالخير لكم أن تكون طاقته كأسرته في البناء
والمعمار". لكن في النهاية، أُخرج أسامة من السودان عبر طائرة نقلته إلى
أفغانستان مباشرة في مايو/ أيار 1996.
كان ابن لادن يحذَر طالبان، بحسب نصيحة مستضيفيه من خصوم الحركة، لكن
لما سقطت ولاية ننجرهار التي كان يقطنها، طمأنه قادة الحركة على وجوده في بلدهم،
ثم التقى بالملا عمر في شباط / فبراير1997، الذي أكد له دعم بقائه في أفغانستان،
لكن طُلب منه عدم الإدلاء بتصريحات تُغضب السعودية، وخالف ابن لادن ذلك مرارا إلى
أن أثار ضجة دولية بلقاء إعلامي دعا فيه ممثل CNN في أيار / مايو 1998، فأعلنت الحركة أن
حكومتها "تعارض تصريحات ابن لادن، ولن تسمح له بعقد مثل هذه اللقاءات في المستقبل".
بعد أشهر قليلة، وقعت تفجيرات سفارتيْ أمريكا في كينيا وتنزانيا،
فهاجمت أمريكا في آب / أغسطس 1998 معسكرًا في ولاية خوست، وتسبب حدوث الهجمات، قبل
اتهام ابن لادن بضلوعه في التفجيرات، في تغيَّر موقف طالبان من أمريكا، لأنهم
اعتقدوا أن الهجوم تم ترتيبه قبل حصوله بأشهر، وأعلنت الحركة أن "أعداء
الولايات المتحدة أصدقاؤها".
استيقظ العالم على هجمات يوم 11 أيلول / سبتمبر 2001، وسارعت الحركة إلى إدانة الهجمات، كما طالبت الولايات المتحدة بـ"التروي حتى تعثر على أدلة تكشف هوية الفاعلين"، لكن عندما اتُّهم أسامة بن لادن بالوقوف وراء الهجمات لم تعد لدى الحركة أي حلول.
بعد شهر من الهجوم، زار رئيس الاستخبارات السعودية، آنذاك، الأمير
تركي الفيصل طالبان ، وأحضر معه قفصًا لنقل سجين، وبعد دقائق من الاجتماع ارتفع
صوت الملا عمر رافضا تسليم ابن لادن دون دليل على تورطه في تفجيرات السفارتين،
ونافيا أن يكون قد وعد بتسليمه، أو إعطائه الإذن لأي شخص يمثله بتقديم وعد بذلك،
فغادر تركي الفيصل الاجتماع غاضبا، وفي اليوم التالي طلبت الرياض من السفير
الأفغاني مغادرة أراضيها.
عندما أعلنت الولايات المتحدة اتهام ابن لادن رسميا، في تشرين الثاني
/ نوفمبر، طلبت طالبان منها تقديم أدلة تثبت تورط أسامة بن لادن، وطلب الملا عمر
من المحكمة العليا عَقْد محاكمة لابن لادن في محكمة خاصة مدتها عشرين يوما، لتقديم
أدلة إدانته في تفجيرات إفريقيا فأرسلت أمريكا شريطا يحتوي على تقرير قديم لشبكة CNN عن
أسامة بن لادن وأتباعه في السودان، فشعر قادة طالبان أن الأمريكيين يستهزئون بهم،
فانتهت المحاكمة.
استقر لدى قادة طالبان أن نظامهم بأكمله مستهدف من الأمريكيين، خاصة
بعد دعمهم، بالتنسيق مع دول أخرى، تحالف أحمد شاه مسعود عام 2000، وكان رد طالبان
على ذلك الدعم بتخليها عن الالتزام الذي قطعته أمام المجتمع الدولي بالسيطرة على
نشاط القاعدة، وخففت القيود عليها، ورحبت بالمهاجرين إليها من
"المجاهدين"، ليبدأ الفصل الأكثر دموية في الصراع مع الأمريكيين.
الغزو الأمريكي واحتلال أفغانستان
استيقظ العالم على هجمات يوم 11 أيلول / سبتمبر 2001، وسارعت الحركة
إلى إدانة الهجمات، كما طالبت الولايات المتحدة بـ"التروي حتى تعثر على أدلة
تكشف هوية الفاعلين"، لكن عندما اتُّهم أسامة بن لادن بالوقوف وراء الهجمات
لم تعد لدى الحركة أي حلول.
طالب جورج بوش طالبان بتسليم ابن لادن، فأحال الملا عمر المسألة إلى
العلماء، وحضر علماء من أفغانستان كلها للاجتماع الذي انعقد لمدة يومين، وخلصوا،
بحسب الملا مطمئن، إلى "ضرورة مغادرة أسامة بن لادن أفغانستان طوعا، مع
التأكيد أن طرده بالقوة أو تسليمه إلى الآخرين مخالف للشريعة الإسلامية، (...)
وإذا هاجمت أمريكا أفغانستان، فيجب علينا الجهاد ضدها".
مرة أخرى، لم تقبل أمريكا بهذا الحل، واعتبرت مغادرته لأفغانستان
مسؤولية الحكومة الأفغانية، وأمام إصرار الحركة على عدم تسليم أسامة بن لادن، بدأ
الغزو الأمريكي لأفغانستان في أكتوبر/ تشرين الأول، وفي غضون أسابيع انهارت طالبان
وحكومتها، لكنهم نجحوا في إخفاء الملا عمر قرابة اثني عشر عاما.
اختفاء الملا عمر حتى وفاته
"فرَّ الملا عمر من قندهار إلى مسقط
رأسه بولاية زابل بالجنوب، حيث أمضى عدة سنوات في عاصمة الولاية مختبئا في منزل سائقه
عبد الصمد أستاذ، بحسب رواية مضيفه (جبار عمري). وقد فتشت قوات العمليات الخاصة
الأمريكية المنزل المذكور ولكنها لم تدخل الغرفة السرية التي كان يعيش فيها الملا
حتى عام 2004، وغادرها بعد أن أنشأ الجيش الأمريكي قاعدة لا تبعد إلا بضع دقائق
مشيا من المنزل الذي يسكن فيه، فانتقل الملا إلى منطقة أبعد تنحدر منها عائلته،
ووجد له حارسه الشخصي بيتا من الطوب ظل يرعاه فيه حتى وفاته.
وكان المنزل الآمن الثاني أيضا على بعد بضعة أميال من قاعدة أميركية
أصغر تعرف باسم قاعدة العمليات المتقدمة "ولفرين" التي تقع جنوب عاصمة
زابل، وحولها العديد من القرى التي يقال إن طالبان تسيطر عليها، وذكر أحد من خدموا
بالقاعدة أن العديد من الجنود الأمريكيين قتلوا هناك أثناء دورياتهم.
كان الملا عمر يرسل توجيهاته وتعليماته إلى مقاتليه عبر شرائط صوتية،
وبحلول عام 2013 عانى من مرض شديد، فاضطر مضيفه إلى إحضار طبيب محلي موثوق به،
فأخبره أنه لا يستطيع السيطرة على المرض ويحتاج إلى فحوصات وعلاج مستمر. فسافر
(جبار عمري) إلى أسرته وأخبر نجله، والأخ غير الشقيق للملا عمر، الملا عبد المنان،
فسافروا يومها، وقبل وصولهم تلقوا نبأ وفاة الملا عمر، يوم 24 نيسان / أبريل 2013.
اجتمع عشرة أشخاص فقط للتباحث حول وفاة الملا عمر ثم اجتمع العلماء
الأربعة وحدهم: مولوي عبد الحكيم، والشيخ عبد السلام، ومولوي هبة الله أخوند زاده،
ومولوي محمد نور ثاقب، وأعلنوا لبقية الحضور اختيار الملا أختر محمد منصور أميرا،
لأنه كان نائبا للملا عمر.
قبِل الحاضرون اختيار العلماء وبايعوا منصور ورفض الملا عبد المنان
مبايعته لأنه أراد إيضاح وضع أسرتهم في الولاية لكن الملا عبد القيوم ذاكر، رئيس
الهيئة العسكرية، طلب منه عدم التدخل في هذه الأمور والمبايعة، فبايع عبدُ المنان
الملا أختر منصور.
لكن المفارقة أن الملا عبد القيوم ذاكر اختلف مع قادة الحركة لاحقا،
فاستقال وجمد عضويته في مجلس الشورى، وبعد أشهر هدد قادة الحركة بتنفيذ طلباته أو
إعلان وفاة الملا عمر، فانعقد مجلس تحكيم عرض فيه عشرة طلبات من بينها رئاسته
للهيئة العسكرية مرة أخرى، فقَبِل الملا أختر منصور جميع طلباته عدا منصب الهيئة
العسكرية، فلم يرضَ عبد القيوم بذلك.
قبل دخول شهر رمضان عام 1436، صلَّى الملا عبد القيوم صلاة الغائب
على الملا عمر في العلن، فاجتمع الملا أختر منصور بقادة الحركة وأعلن لهم وفاة
الملا عمر وترتيبات بيعته وبدأت استشارات لوضع خطة مستقبلية فاقترح الحضور تأجيل
إعلان الوفاة إلى ما بعد شهر رمضان.
اجتمع أعضاء مجلس الشورى بعد عيد الفطر، ومعهم مجموعة من العلماء،
وانضم الملا عبد القيوم ذاكر والملا عبد المنان، واستمر الاجتماع لمدة يومين، وفي
نهايته بايع الحضور الملا أختر منصور، ورفض عبد القيوم وعبد المنان البيعة، وفي
اليوم التالي أعلنت الحركة رسميا وفاة الملا عمر نهاية تموز / يوليو 2015، ليسدل
الستار عن أحد أبرز الشخصيات البسيطة التي أثَّرت في الأحداث العالمية، سواء قصد
ذلك أم لم يقصد.