كشف تحقيق لموقع "
ميدل إيست آي" البريطاني الأوضاع المزرية
التي يعيشها
الفلسطينيون في
الضفة الغربية.
كما كشف التحقيق الذي أجراه الصحفيان بيتر أوبورن وأنجلو كاليانو، عن واقع الهجمات التي يشنها
المستوطنون على سكان
البلدات والقرى في الضفة الغربية المحتلة.
وبحسب التحقيق، فإن المستوطنين يشنون
نكبة ثانية في الضفة الغربية.
ونشر التحقيق شهادات العديد من الفلسطينيين في محافظات نابلس والخليل، التي
توثق جرائم واستهداف المستوطنين لأهالي البلدات والقرى في الضفة الغربية المحتلة.
وفيما يلي نص التحقيق الذي ترجمته "عربي21":
مدن قليلة في العالم تضاهي بجمالها جمال نابلس، التي يطلق عليها حباً
فيها لقب "ملكة فلسطين غير المتوجة".
تعبق هذه المدينة الفلسطينية العتيقة، التي أسسها الإمبراطور
فاسباسيان، بعد عامين من تدمير الهيكل في القدس عام 70 ميلادية، والتي تقع على
تلال من الحجر الرملي، بحكايات ثرية من التاريخ الموغل في القدم.
في المساء، حين تبدأ الشمس في الغروب وتتمدد ظلال الأجسام، يسهل على
المرء تصور رجال الفيالق وهم يسيرون في الشوارع التي تشبه المتاهة. مازالت القناة
الرومانية تنساب تحت المدينة، وتجري بمحاذاة المدرج الروماني.
ونابلس، التي تقع على طريق التجارة بين دمشق
والقدس والقاهرة، لم تزل طوال الجزء الأكبر من تاريخها مركزاً تجارياً وصناعياً.
بل هنا كان مقر البورصة الفلسطينية.
أما اليوم، فقد تبدلت حظوظها بشكل هائل.
إنها اليوم مدينة تحت الحصار.
فهي تحاط من كل الجوانب بالمستوطنات
وبالقواعد العسكرية الإسرائيلية. تخفي الطرق المؤدية من وإلى نابلس فضيحة لازال
المجتمع الدولي ملتزماً للصمت تجاهها.
يمر الطريق الجنوبي المؤدي إلى رام الله
بحوارة، القرية الفلسطينية المحتلة التي لم تزل منذ سنين، وقبل هجمات السابع من
أكتوبر (تشرين الأول) بوقت طويل، عرضة للعنف الذي يمارسه المستوطنون.
في شهر شباط/ فبراير من العام الماضي، اجتاح
المستوطنون هذه القرية، فأحرقوا السيارات، وأشعلوا النيران بالأراضي الزراعية
وعاثوا فساداً في البيوت، في عمل أدين على نطاق واسع باعتباره مقتلة.
اظهار أخبار متعلقة
منذ ذلك الحين لم يتغير الوضع بالنسبة لكثير
من الفلسطينيين هنا نحو الأفضل.
بالنسبة للفلسطينيين الذين يحاولون التنقل من
نابلس وإليها، كثيرون يجدون أنفسهم مضطرين لسلوك طرق ملتوية لتجنب المواجهات مع
الجنود الإسرائيليين. والأشد خطورة من ذلك هو سلوك طريق يقودهم إلى مواجهة مع
المستوطنين المسلحين الإسرائيليين.
منذ هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)،
قام المستوطنون، الذين تلقوا في السنين الأخيرة تمويلاً من الدولة بمئات الملايين
من الدولارات، بشن أكثر من مائتي هجوم على الفلسطينيين، وذلك طبقاً لما أوردته كل
من بيتسيليم و "ييش دين"، وهما منظمتان حقوقيتان توثقان الهجمات التي تقع في الضفة
الغربية.
خلال نفس الفترة، قتلت القوات الإسرائيلية ما
يزيد عن مائتي شخص، أكثر من ربعهم من الأطفال، بحسب ما ورد في تقرير صادر عن الأمم
المتحدة.
منذ أن تم التوقيع على اتفاقيات أوسلو في عام
1993 بهدف إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، نما عدد المستوطنين
الإسرائيليين في الضفة الغربية من حوالي 260 ألفاً إلى ما يقرب من 700 ألف، بحسب
الأرقام التي نشرتها مجموعة الضغط الإسرائيلية "السلام الآن".
في القانون الدولي، تعتبر المستوطنات غير
قانونية، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استمرت في توسيعها منتهكة بذلك
القانون الدولي واتفاقيات أوسلو.
يخشى الفلسطينيون في أنحاء الضفة الغربية من
أن الزيادة في المستوطنات وفي المواقع الاستيطانية المتقدمة من شأنها أن تهدد ليس
فقط إمكانية قيام دولة لهم في المستقبل، بل وكذلك معايشهم.
في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، أجبر الارتفاع
الحاد في هجمات المستوطنين كثيراً من الفلسطينيين على إلغاء قطف محصول الزيتون،
وهو موسم احتفالي في العادة، تتوجه فيه العائلات إلى التلال لقطف الثمار من حقول
زيتون قديمة قدم التاريخ.
على مدى سنين، لم يلبث المستوطنون ينزلون من
قلاعهم في رؤوس التلال ويأتون ليدمروا أشجار الزيتون التي يعتز بها الفلسطينيون،
إما حرقاً وإما قطعاً، أو حتى تسميماً بالمواد الكيماوية.
وفي أوج الحرب على غزة، ازداد الكثيرون منهم
جرأة فيما يمارسونه من اعتداءات.
ولقد علمنا كيف فتحت المدافع الرشاشة على
المزارعين لحملهم على ترك أراضيهم حتى يتسنى للمستوطنين قطف ثمار الزيتون بأنفسهم.
كانت هذه الاعتداءات بمثابة ناقوس الموت
بالنسبة للاقتصاد الريفي، والذي ما لبث منذ قرون يعتمد على الزراعة.
"إنهم يريدون تخويفنا، يريدون
إذلالنا"
في حديث مع موقع "ميدل إيست آي"،
أعربت العائلات التي باتت مسكونة بهاجس التهجير بعد أن عانت منه مراراً وتكراراً،
عن خشيتها من أن مثل هذه الجرائم، التي يخفق النظام القضائي الإسرائيلي في التحقيق
فيها بشكل صحيح، قد تمهد الطريق لفترة أخرى من التشريد القسري.
في بلاطة، والذي هو من أعلى مخيمات اللاجئين
كثافة سكانية في فلسطين، كثيرون عبروا لموقع "ميدل إيست آي" عن خشيتهم بعد
هجوم السابع من أكتوبر من تكرار النكبة، والتي شهدت إبان تأسيس "دولة إسرائيل"
تشريد ما يزيد عن 700 ألف فلسطيني من ديارهم على أيدي القوات الصهيونية، ولم يسمح
لهم بالعودة بتاتاً منذ ذلك الحين.
بإمكان الجميع رؤية آثار الدمار الذي تتمخض
عنه الاجتياحات المستمرة التي تقوم بها القوات العسكرية الإسرائيلية.
في تصريح لموقع "ميدل إيست آي"،
قال رجل فلسطيني لم يرغب في الكشف عن هويته: "في الليلة الماضية تعرضنا للقصف
من قبل طائرة إسرائيلية. وبعد ذلك انهالوا علينا بالطائرات المسيرة وبرصاص
القناصة، وبالجرافات".
في موقع الهجوم، اجتمعت مياه الأمطار مع
الطين لتحيل المكان إلى مشهد كارثي بكل ما تعنيه الكلمة.
وسط الركام المستعر، ثمة بقايا قنبلة وثمة
صاروخ لم ينفجر.
أعرب فلسطيني آخر عن حسرته على ما تبقى من
غرفة نومه: كومة من الأطلال، بينما الجدران الخارجية مرشومة بالرصاص.
في الجوار، اجتمع نفر من الفتيان ليشرحوا
لموقع "ميدل إيست آي" ما الذي حل ببيتهم. قالوا إن القوات الإسرائيلية
دمرت المنزل، تاركة اللعب والملابس متناثرة في كل مكان.
قال أحد الفتيان: "لقد حطموا الجدار
ودخلوا. قالوا إنهم يريدون البحث عن الأسلحة في الداخل، ولكن لا يوجد شيء هنا".
وأضاف: "لقد حطموا أجهزتنا فقط من أجل
إزعاجنا. كما مزقوا كتب ودفاتر الأطفال. ذلك هو ما يقومون به. يريدون إخافتنا،
يريدون إذلالنا".
عند هذه النقطة تدخل رجل آخر ليقول: "أوقفونا
ووجوهنا إلى الحائط، والبنادق موجهة نحو رؤوسنا، وقالوا: هل أنتم سعداء بما
فعلتموه في السابع من أكتوبر؟ هل رأيتم ما الذي حل بغزة الآن؟ بعدها سيأتي عليكم
الدور".
ضرب لأنه رفض لعق حذائه
روى العديد من الفلسطينيين الذين أطلق سراحهم
حكايات مروعة خلال فترة الاحتجاز منذ أن اعتقلتهم القوات الإسرائيلية في بلاطة.
تعرض أنس، الذي يبلغ من العمر سبعة وعشرين
عاماً، للركل على وجهه في أثناء اعتقاله الأخير، وأمر من قبل أحد الجنود الإسرائيليين
بلعق حذائه بعد أن تلطخ بدمه.
تحدثنا مع عائلته، فأنس كان لا يزال يتلقى
العلاج في المستشفى. نددت العائلة بالوسائل العنيفة التي تنتهجها القوات
الإسرائيلية في مختلف أنحاء الضفة الغربية.
في حديث مع موقع "ميدل إيست آي"،
قال شقيقه الأصغر أدهم إنه في أثناء الهجوم على منزلهم، تعرضت شقيقته أيضاً، والتي
كانت تحتضن طفلاً رضيعاً، للضرب والامتهان على أيدي الجنود الإسرائيليين.
وقال أدهم: "صحنا في الجنود: كيف تضربون
امرأة تحمل طفلاً رضيعاً؟"
وأضاف: "فما كان منهم إلا أن جمعوا
الرجال، وأخذوهم إلى الشارع، ووضعوا الأصفاد في أيادينا، وفرضوا علينا الانبطاح ووجوهنا
إلى الأرض".
ومضى يقول: "راحوا ينهالون علينا
بالضرب. كان شقيقي أنس أكثر من تعرض للأذى. فقد ركلوه مرات عديدة في الوجه حتى فقد
الوعي. على الرغم من ذلك، أمره أحد الجنود بلعق الدم عن حذائه. ولكن كان شقيقي
حينها فاقداً للوعي لا يتجاوب. طلبنا له الإسعاف، ولكنهم منعوا سيارة الإسعاف من
الوصول إليه، وحالوا دون وصول أي مساعدة إلى المكان."
وقال إن كل تلك الانتهاكات وعمليات الإذلال
تتم بوجود الأطفال، الذين حل فيهم الرعب وراحوا يبكون ويصرخون وهم يشاهدون ما
يجري.
حاول أحد الأطفال، واسمه أحمد، منع دموعه من
الانهمار بينما كان يروي مشاهداته عما حصل.
وقال وهو يبذل جهده لإتمام العبارة:
"كان هناك جنود، وكانوا يضربون الرجال بعنف".
اظهار أخبار متعلقة
ثم تدخلت والدته قائلة: "خلال تلك
اللحظات، كانوا يقولون لنا أشياء نحن النساء، لا يمكنني تكرار التلفظ بها، إهانات
بشعة ومؤذية جداً. لا أجد نفسي مرتاحة للتلفظ بها أمام العامة. ولكني أعلم أن من
المهم أن يعرف الناس ما يجري. العالم كله يحتاج لأن يعرف".
قال رجل آخر: "يعلم الجنود الإسرائيليون
جيداً ما الذي يؤذي النساء المسلمات. إن الشتائم التي وجهوها لهن فظيعة جداً،
لدرجة أنك لن تجد امرأة قادرة على تكرار التلفظ بها استحياء".
جميع العيون على غزة
حين تسير في شوارع بلاطة، تجد كل جهاز تلفاز
تقريباً مفتوحاً على القنوات التي تبث آخر الأخبار القادمة من غزة.
كثير من الفلسطينيين في الضفة الغربية أغلقوا
محلاتهم التجارية احتجاجاً على القصف الذي تتعرض له غزة بلا توقف، وحيث غدا
تقريباً جميع سكان القطاع البالغ تعدادهم 2.3 مليون نسمة مشردين بلا مأوى بعد
ثلاثة شهور من الحرب.
خلال الأسابيع الأخيرة، بدأت "إسرائيل"
تقع تحت وطأة ضغوط متزايدة من قبل جنوب الكوكب لإنهاء العدوان، حيث تجاوز عدد
القتلى 23 ألفاً، سبعون بالمائة منهم من النساء والأطفال.
ولكن نظراً للقمع المتكرر الذي تمارسه "إسرائيل"
ضد أي نشاطات تضامنية مع غزة، فإن الاحتجاجات في الأماكن العامة تبقى قليلة
ومتناثرة.
تغير الجو في مخيم بلاطة بسرعة خلال بضعة
شهور، حيث انطلقت مجموعات من الشباب المسلحين في أحد الشوارع الرئيسية يحذرون
السكان من أن إسرائيل تخطط لهجوم آخر.
انطلق عشرات الناس يغلقون المدخل إلى المخيم
لإعاقة دخول الجنود الإسرائيليين، مستخدمين في ذلك الحجارة والصخور والقطع
المعدنية وكل ما تمكنوا من جمعه لهذه الغاية.
قتل على الأقل رجل فلسطيني واحد في هذا
الاجتياح الإسرائيلي.
أين هي السلطة الفلسطينية؟
كان مخيم بلاطة، والمناطق المجاورة له،
تقليدياً معاقل لحركة فتح، ولكن بعد سنين من الانسداد السياسي وما يرى الناس أنه
عجز عن الوقوف في مواجهة "إسرائيل"، تراجعت شعبية الحزب الذي كان
مهيمناً حتى تدنت إلى مستويات غير مسبوقة.
في شهر أيار/ مايو الماضي، تغلبت قائمة "كتلة
فلسطين الإسلامية" المرتبطة بحماس على حركة الشبيبة الطلابية الموالية لفتح
في انتخابات مجلس طلاب جامعة النجاح الوطنية في نابلس.
يقول المحللون إن نتائج تلك الانتخابات تعكس
السخط المتنامي ضد قيادة فتح التي يتزعمها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، البالغ من العمر ثمانية وثمانين عاماً.
أعلن الكثيرون من عامة الفلسطينيين أن منظمة
فتح باتت بلا فائدة، فقد تم تقويضها وغدت منفصلة عن الواقع. في المقابل ارتفعت
بشكل حاد شعبية حركة حماس في الضفة الغربية، وبالذات منذ هجوم السابع من أكتوبر.
ولا أدل على ذلك من أنه في أثناء التبادل الأخير
للأسرى، ظهرت أعلام حماس بوتيرة متزايدة. ويمكن للمرء أن يسمع في كل احتجاج وفي كل
مسيرة انطلاق الهتافات التي تشيد بحركة حماس.
في تصريح لموقع "ميدل إيست آي"،
قال رجل معلقاً على قتل أحد المقاتلين: "بالنسبة للفلسطينيين، السياسة مهمة
جداً. فالكل هنا، بشكل أو بآخر، ضالع في السياسية".
وقال: "أنا عضو في حركة فتح، ولدت في
هذا الحزب، ولسوف أموت معه. ولكن ما فعلته حماس، وللمرة الأولى، هو أنها قلبت
الطاولات. كثيرون يتهمون فتح بأنها لم تفعل الكثير لصالح القضية الفلسطينية خلال
السنين الخمس والعشرين الماضية".
اظهار أخبار متعلقة
ومضى يقول: "بعض أعضاء الحزب خدموا
مصالحهم الشخصية من خلال إبرام صفقات مع إسرائيل، وكل ذلك على ظهر الشعب
الفلسطيني. أما حماس، فقد جذبت اهتمام العالم لما يحدث هنا. ولهذا السبب كثيراً ما
ترى أعلام حماس وتسمع هتافاتهم، حتى من قبل من لم يكونوا من أنصارهم".
أولئك الذي تحدث معهم موقع "ميدل إيست آي"
تكلموا عن مشكلة أخرى: أثبتت السلطة الفلسطينية أنها عاجزة أو غير راغبة في مقاومة
المداهمات والاجتياحات اليومية التي تشنها القوات الإسرائيلية في نابلس، بل ولم
تسع إلى حماية القرويين الفلسطينيين من اعتداءات المستوطنين في القرى المجاورة.
مع هذا النمط المتكرر في أنحاء الضفة
الغربية، بدأ الكثيرون في التساؤل عن فائدة السلطة الفلسطينية إذا لم تكن قادرة
على الدفاع عن الفلسطينيين.
المستوطنون واستغلال الحرب
على النقيض من الوضع في المناطق الحضرية في
الضفة الغربية، حيث يتمتع الفلسطينيون بالقوة العددية والقدرة على مقاومة اعتداءات
المستوطنين، كثيراً ما تقع القرى البعيدة تحت رحمة المستوطنين الذين يعيثون فساداً
في الأرض تحت حماية الجيش الإسرائيلي.
ولا أدل على ذلك مما تشهده تلال جنوب الخليل
من أوضاع.
في قرية طواني، في المنطقة (ج)، وهي الأرض
التي تقع تحت السيطرة العسكرية والمدنية الإسرائيلية، لا يسمح لأهالي القرية
بحيازة الأسلحة.
طبقاً للأمم المتحدة، في عام 2022، كانت هناك
في المعدل ثلاثة حوادث يومياً مارس فيها المستوطنون العنف ضد الفلسطينيين في الضفة
الغربية. زادت هذه النسبة إلى أكثر من الضعف منذ السابع من أكتوبر لتصبح سبعة في
اليوم الواحد، أكثر من ثلثها تستخدم فيها الأسلحة النارية.
روى كبير القرية حافظ حوريني في مقابلة مع "ميدل
إيست آي" كيف فرض المستوطنون المسلحون عهداً من الرعب واستولوا على المواشي
ودمروا خزانات المياه، وحطموا لوحات الطاقة الشمسية، وجرفوا المباني، وأتلفوا حقول
الزيتون.
وقال حوريني: "لقد جرفوا كل أرضنا بما
فيها من زيتون ومزروعات أخرى، لقد دمروا كل شيء. ولا نجرؤ على الدخول إلى أراضينا
ولو لمسافة لا تتجاوز عشرين متراً".
ومضى يقول: "يستغل المستوطنون الحرب على
غزة من أجل الاستيلاء على مزيد من الأراضي. والآن، هم يتحكمون في كل شيء من حولنا.
يسدون المداخل إلى قرانا، وينهبون ممتلكاتنا، ويحطمون لوحات الطاقة الشمسية،
ويجرفون المباني الزراعية، ويجتثون الأشجار، ويحطمون الجدران الصخرية."
يعرض ابنه محمد على الجميع مقطعاً للفيديو
يصور المستوطنين في ملابس عسكرية وهم يجتاحون أرضهم. عندما سئل عما إذا كانوا
جنوداً يخدمون ضمن الجيش الإسرائيلي، أجاب قائلاً: لست متأكداً.
وقال: "ليس لنا حق اللجوء إلى القانون.
لا نشعر بالأمان. حياتنا في خطر حقيقي".
وقال إن الوضع أسوأ في معظم القرى المعزولة،
حيث بدأ الناس في الفرار من العنف.
ومضى يقول: "يعرف المستوطنون ما الذي
يسعون إلى تحقيقه. فهم يقولون للقرويين الفلسطينيين: "اذهبوا إلى المدينة،
اذهبوا إلى يطا (وهي مدينة تقع إلى الجنوب من الخليل). خلال أربعة وعشرين ساعة،
إذا وجدناكم ههنا فسوف نقتلكم".
وكان موقع "ميدل إيست آي" قد نشر
تقريراً عن توزيع المستوطنين منشورات فظيعة وتركوا خلفهم داخل المدارس دمى ملطخة
بالدماء، محذرين الفلسطينيين من أن عليهم أن يتركوا أو يُقتلوا.
قال سكان إحدى القرى في الضفة الغربية إنهم
تلقوا خطابات تحذيرية جاء فيها: "أردتم الحرب – إذن انتظروا النكبة الكبرى".
بحسب معلومات صادرة عن ائتلاف حماية الضفة
الغربية والمجموعة الحقوقية الإسرائيلية ييش دين، شرد قسراً ما يقرب من 545
فلسطينياً مما لا يقل عن 13 قرية في منطقة ج منذ السابع من أكتوبر.
فرض على البدو العيش داخل الكهوف
عند وصولنا إلى قرية حلاوة، على بعد بضعة
كيلومترات من مدينة الخليل، قالت العديد من العائلات البدوية إن معاناتهم يتم
تجاهلها بينما يقتحم المستوطنون والجنود كافة القرى البدوية في الضفة الغربية.
قال رجل بدوي متحدثاً لموقع "ميدل إيست آي":
"لقد صادر الجنود الإسرائيليون كثيراً من أراضينا".
وأضاف: "كما ترون، لا توجد شوارع، ولم
تبق هنا مراع لمواشينا. تستخدم هذه المنطقة الآن للتدريبات العسكرية. يأتي الجنود
الإسرائيليون، ويهدمون ما نشيده من خيام ومبان. فلم يبق لنا الآن إلا أن نحفر في
الأرض ما نصنع منه كهوفاً نأوي إليها ونعيش فيها".
اظهار أخبار متعلقة
وقال: "بهذه الطريقة على الأقل لا
يستطيعون هدم بيوتنا".
أجبر العنف مجتمعات بأسرها على الخروج من
أراضيهم، فما يقرب من ألف فلسطيني من بين ما لا يقل عن 15 مجتمعاً رعوياً اضطروا
للهرب من بيوتهم.
اشتكى فريق من الأطباء الذين يجلبون الأدوية
إلى معظم المناطق الريفية من الوضع البائس هنا، وكذلك من إقرار الحكومة
الإسرائيلية لما يرتكبه المستوطنون من أفعال.
قال أحد الأطباء في حديث لموقع "ميدل
إيست آي": "نتجول اليوم، لأنه يوم السبت، يوم العطلة اليهودية، حيث
ينبغي أن يكون الوضع أكثر هدوءاً لأنهم (أي الإسرائيليين) مشغولون بالصلاة".
وأضاف: "كثيراً ما يفتح المستوطنون
النار علينا لمنعنا من جلب المساعدات والرعاية الطبية إلى القرى. وفي بعض الأوقات
هذا ما يفعله الجنود أيضاً، إذ يغلقون الطرق بنقاط التفتيش المتنقلة، لإجبارنا على
العودة، تاركين كثيراً من العائلات من دون رعاية طبية".
تظهر البيانات الصادرة عن مجموعة ييش دين أنه
ما بين 2005 وعام 2022 تم إغلاق ما لا يقل عن 93 بالمائة من جميع التحقيقات في
الجرائم المدفوعة بالأيديولوجيا في الضفة الغربية دون أن يصدر عن أي منها قرار
إدانة.
تواصل موقع "ميدل إيست آي" مع
الجيش الإسرائيلي للحصول على تعليق، ولكن لم يرد منهم جواب حتى وقت النشر.
مدينة أشباح
مدينة الخليل المجاورة هي أكثر مدن الضفة
الغربية من حيث الكثافة السكانية، إلا أن التوترات بين المستوطنين الإسرائيليين والسكان
الفلسطينيين ارتفعت حدتها منذ هجمات السابع من أكتوبر.
تقع الخليل على بعد 32 كيلومتراً من مدينة
القدس، وقد تم تقسيمها إلى جزأين منذ عام 1997، حيث تقع منطقة "إتش 1" بالكامل
تحت الإدارة والرقابة الأمنية للسلطة الفلسطينية، بينما تتم إدارة منطقة "إتش
2" من قبل السلطة الفلسطينية ولكنها تقع تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، الذي
يملك القول الفصل في كل شيء، بما في ذلك من يحق له الدخول إلى المنطقة أو الخروج
منها.
كانت البلدة القديمة من مدينة الخليل ذات يوم
مقراً لواحد من أجمل الأسواق في الشرق الأوسط بأسره.
أما اليوم فإنها تبدو في صورة مدينة أشباح.
تخضع منطقة "إتش 2" لرقابة مشددة
من قبل القوات والشرطة الإسرائيلية، حيث تنصب كاميرا مراقبة كل 90 متراً، رغم أن
هذه المنطقة من المفروض أنها تدار من قبل السلطة الفلسطينية.
والآن يقوم الجنود والمستوطنون الإسرائيليون
بتنظيم دوريات تجول المنطقة بالزي العسكري، بينما الشوارع تكاد تكون خالية تماماً
من سكان المنطقة الفلسطينيين والذين يعدون ما يقرب من 35 ألف نسمة.
تفاقم الوضع بشكل كبير لدرجة أن الكثيرين لا
يجرؤون على الخروج من بيوتهم، بينما تصعب القيود المفروضة على المسلمين التوجه إلى
مسجدهم للصلاة فيه، مسجد إبراهيم الخليل.
أقام الجنود الإسرائيليون بوابة مزودة بجهاز الكشف
عن المعادن يقوم عليه حراس مسلحون. عندما وصلنا سألونا عن ديننا، فهم لا يسمحون
بالدخول إلا لمن يحلو لهم السماح له بذلك.
فواز هو أحد الباعة المتبقين في البلدة
القديمة. سألناه كيف يشعر اليوم وهو يشاهد الخليل تصل إلى هذا الوضع المزري.
قال في حوار مع موقع "ميدل إيست آي":
"إنك تراه بأم عينيك. رغم أننا أقمنا الحمايات، إلا أنهم لا يكفون عن رشقنا
بكل شيء من النوافذ: الحجارة، والزجاجات، والنفايات، وفي بعض الأوقات حتى البراز. لم
يعد بالإمكان تحمل الوضع. لم يبق منا الكثيرون ممن لهم محلات تجارية
يفتحونها".
ومضى يقول: "ولكن اليوم، كل شيء أقل
أهمية مما يحدث في غزة. كل ما يحدث هنا لا يعتبر شيئاً بالمقارنة مع المذبحة التي
يتعرض لها أهلنا في قطاع غزة".
وذلك بالضبط ما عبر عنه مدير منظمة السياسة
الاجتماعية في نابلس حول هذا الموضوع، حيث قال: "لا يمكننا أن نشكو من أننا
غير قادرين على إيجاد الطعام عندما يكون الناس في غزة يتعرضون للذبح".
حينما تنتهي الحرب
بالنسبة للكثير من الفلسطينيين في الضفة
الغربية، هناك اعتقاد قوي بأنه بعد انتهاء الحرب في غزة، فإن من المحتمل أن تبدأ
الحكومة الإسرائيلية في ملاحقتهم واستهدافهم.
ومثلهم مثل المستوطنين، لقد حذر الزعماء
والسياسيون الإسرائيليون مراراً وتكراراً من "نكبة ثانية"، وعبروا عن
طموحهم في إخراج الفلسطينيين من أرض أسلافهم.
بل لقد تم تطبيع مثل هذا الخطاب، بوجود أعداد
متزايدة من الإسرائيليين الآن ممن يطالبون بالتعامل مع الضفة الغربية كما تم
التعامل مع غزة. في مثل هذا السيناريو، يتوقع أن تقوم إسرائيل باحتلال المزيد من
الأراضي الفلسطينية ضمن المنطقة (ج).
بالنسبة للكثيرين، لقد بات الوضع في الضفة
الغربية اليوم يعكس الخطة التي أعدها وزير المالية الحالي في إسرائيل بيزاليل سموتريتش.
قبل سبع سنين، عندما كان شاباً وعضو كنيست لا
يعرفه كثير من الناس، نشر سموتريتش ورقة يرفض فيها حل الدولتين ويقترح "سيادة
إسرائيلية كاملة على منطقتي يهودا والسامرة" بالإضافة إلى إقامة "مدن
ومستوطنات جديدة في العمق داخل المناطق، والمجيء بمئات الآلاف من المستوطنين
الإضافيين للعيش فيهما".
اظهار أخبار متعلقة
خلصت "الخطة الحاسمة" التي وضعها
سموتريتش إلى أن "النصر من خلال الانتصار سوف يكرس الفهم في الضمير العربي
وفي ضمير العالم بأن قيام دولة عربية في هذه الأرض غير وارد على الإطلاق".
عندما نشرت "الخطة الحاسمة التي وضعها
سموتريتش، كان يسهل تهميشه باعتباره متطرفاً. أما اليوم فهو يحتل موقع زعيم الحزب
الصهيوني الديني ومنصب وزير المالية في حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
كما أنه ضمن، وكجزء من اتفاق الائتلاف
الحاكم، منصب رئيس الإدارة المدنية في أنحاء الضفة الغربية. وبات بذلك في الموقع
الذي يمكنه من وضع رؤيته القديمة رهن التنفيذ. فالإدارة المدنية التي يترأسها
سموتريتش تمنحه سيطرة تامة تقريباً على كل مناحي الحياة الفلسطينية.
فيما يخص الفلسطينيين، تنص الخطة الحاسمة على
ما يلي: "بإمكان من يتخلون عن تطلعاتهم الوطنية أن يبقوا هنا وأن يعيشوا
كأفراد داخل الدولة اليهودية." ولكن هؤلاء لن يكون من حقهم المشاركة في
التصويت.
في هذه الأثناء، سوف يتمكن "أولئك الذين
لا يودون التخلي عن تطلعاتهم الوطنية" من "الحصول على المساعدة حتى
يهاجروا". أما من لا يقبلون بهذا الخيار ولا بذاك، ويختارون حمل السلاح ضد "إسرائيل"،
فسوف يتم تصيدهم وقتلهم باعتبار أنهم إرهابيون.
تستبعد هذه الرؤية بشكل صريح فكرة الهوية
الفلسطينية، ناهيك عن الدولة، وهو موقف يشكل كذلك عنصراً جوهرياً في السياسة
الرسمية التي تنتهجها حكومة نتنياهو.
بينما تعقد محكمة العدل الدولية جلساتها
للاستماع للمرافعات الخاصة بالقضة التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل"
وتتهم فيها الجيش الإسرائيلي بشن حملة في غزة ترقى إلى الإبادة الجماعية، كثيرون
في الضفة الغربية يقرون بأن الحكم الذي قد تصدره المحكمة لن ينهي، في أي وقت قريب،
الاحتلال الإسرائيلي المستمر من خمسة وسبعين عاماً.
في حديث مع موقع "ميدل إيست آي"،
قالت إحدى الفتيات: "الأمور مرعبة أكثر من أي وقت سابق".
بالنسبة لها، وبالنسبة لمن لا يمكن إحصاء
عددهم في الضفة الغربية، سوف تستمر معاناة الفلسطينيين، قتلاً وإحباطاً، بينما يقف
العالم متفرجاً.