لا تستطيع أي دعوى أن تحيط بتفاصيل جريمة
الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب
الفلسطيني منذ أكثر من مئة عام ابتداء من
وعد بلفور وعهد الانتداب البريطاني سيء الذكر مرورا بنكبتي عام 1948 و1967 إلى
يومنا هذا، ومع ذلك فإن مثول إسرائيل ربيبة الغرب الاستعماري لأول مره أمام أعلى
هيئة قضائية دولية لتحاسب على جزء من الجرائم التي ترتكبها يشكل انتصارا لمبدأ عدم
الإفلات من العقاب في الحدود الدنيا.
ولن يستطيع أي حكم قضائي مهما كان منصفا بعد
إجراءات مقيتة وبطيئة أن يعيد الأحوال إلى سابق عهدها فآلاف الضحايا الذين سقطوا
لن يعودوا مجددا إلى حياتنا، والجرحى الذين أصيبوا وتسببت لهم الإصابة بعاهات
سترافقهم طوال حياتهم أما الدمار الواسع سيحتاج سنوات وسنوات لإعادته إلى سابق
عهده.
الدعوى المرفوعة من قبل جنوب إفريقيا بتاريخ
29/12 /2023 أمام محكمة العدل الدولية ركزت مع الغطاء التاريخي على الإبادة
الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق جزء من الشعب الفلسطيني في قطاع غزه منذ السابع
من أكتوبر 2023 وقد استطاع فريق الادعاء المميز أن يقدم ملخصا لما تقوم به إسرائيل
مع سابق تصور وتصميم من أفعال تجرمها اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948.
بدأت محكمة العدل الدولية جلسات الاستماع
يومي الخميس والجمعة 11 و12 يناير / كانون الثاني للبت في الإجراءات المؤقتة التي
طالبت
جنوب أفريقيا بفرضها قبل الفصل في موضوع الإبادة ذاتها، طلب جنوب أفريقيا
فرض 9 تدابير مؤقتة على وجه الاستعجال في مقدمتها وقف العمليات العسكرية وحماية
المدنيين من استمرار أعمال القتل ومختلف صنوف الاذى الجسدي والنفسي وإمدادهم بالمواد
الطبية والغذائية والوقود محق فلا يمكن الانتظار حتى البت في موضوع الدعوى والذي
قد يأخذ سنوات وخلالها تكون إسرائيل قد استكملت مهمتها في إبادة قطاع
غزة.
تعامل محكمة العدل الدولية مستقر على أن
التقرير بشأن اتخاذ التدابير المؤقتة لا يستدعي البت في اختصاص المحكمة من حيث
الموضوع وإنما يكفي أن تتأكد المحكمة عند تقرير هذه التدابير أن لديها اختصاصا
معقولا للوهلة الأولى وأن شروط المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية تنطبق
على طرفي الدعوى وأن يكون هناك ارتباط بين التدابير المؤقتة والحقوق المطالب
بحمايتها.
إن ما قدمه فريق الدفاع عن إسرائيل من دفوع مثير للإشمئزاز كونه تجاهل بل أنكر الحقائق على الأرض وكانت الدفوع المقدمة مجرد ترديد للأكاذيب التي سمعناها طوال أكثر من مئة يوم من أعمال القتل والتدمير على لسان قادة الاحتلال وداعميهم
بالنسبة للشرط الأول يتضح من سجل التصديق
على اتفاقية منع الإبادة الجماعية أن دولة جنوب إفريقيا ودولة الكيان طرفان في
الاتفاقية وليس لأي منهما تحفظ ساري المفعول فيما نصت عليه المادة التاسعة باعتبار
محكمة العدل الدولية المرجع في الفصل في أي نزاع ناشئ عن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ
بنود الاتفاقية.
الشرط الثاني ووفقا لنص المادة التاسعة وحتى
ينعقد الاختصاص لا بد أن يكون هناك نزاع واضح بين طرفي الدعوى حول تفسير أو تطبيق
أو تنفيذ الاتفاقية وينظر إلى تحديد نشوء النزاع إلى تاريخ تسجيل الدعوى لدى مسجل
المحكمة، حاول مالكوم شو عضو فريق الدفاع عن دولة الكيان إثبات عدم وجود نزاع بين
دولة جنوب إفريقيا وإسرائيل وحجته في ذلك أن دولة جنوب إفريقيا لم تدخل في مراسلات
ثنائية مع دولة الكيان تعبر فيها عن خشيتها من أن هناك أفعالا تقوم بها إسرائيل
تنطبق عليها بنود اتفاقية منع الإبادة
الجماعية.
حجة "شو" واهية ولا أاساس لها
فدولة جنوب أفريقيا قامت بدور رائد متقدم على كل الدول، أبرز حجم النزاع الكبير
بين جنوب إفريقيا وإسرائيل فإضافة إلى المراسلات الثنائية حول أفعال الإبادة
الجماعية قامت بإصدار بيانات تندد بجرائم إسرائيل وقامت بسحب دبلوماسييها من تل
أبيب معلنة أنه "لا يمكن التسامح مع الإبادة الجماعية تحت نظر المجتمع
الدولي"، كما قامت مع عدد من الدول بإحالة الجرائم المرتكبة إلى محكمة
الجنايات الدولية وانضمت جنوب أفريقيا إلى جهود كبيره في مجلس الأمن والجمعية
العامة كانت إسرائيل منخرطه فيها من أجل وقف ما تقوم به من جرائم وصدرت عن هذه
الجهات وثائق وقرارات هاجمتها إسرائيل علنا معتبرة إياها بغيضه ومعادية للسامية،
وبذلك يكون النزاع بين طرفي الدعوى متحققا وفق ما أشارت إليه المحكمة عندما قررت إجراءات
مؤقتة في قضية أوكرانيا ـ روسيا وقضية
غامبيا ـ ميانمار فقد ارتكزت المحكمة ليس فقط على المراسلات الثنائية إنما أيضا
على البيانات الصحفية وحراك الدولة منفردة أو مع دول أخرى على كافة الصعد الذي
يبين إثارتها لانتهاك بنود اتفاقية منع الإبادة الجماعية.
كما أن المحكمة في فضية إبادة الروهينغا
التي رفعتها غامبيا على ميانمار ركزت على
المثل العليا التي كانت دافعا للدول عند تصديقها على اتفاقية منع الإبادة الجماعية
وعلى الالتزام الجماعي للدول في منع الإبادة الجماعية وبذلك ليس شرطا أن تكون
الدولة مقدمة الدعوى متضررة بشكل مباشر من أفعال الإبادة المزعومة، وفي هذا الصدد
قالت المحكمة "إن الأحكام ذات الصلة في اتفاقية منع الإبادة الجماعية تعرف
على أنها التزامات تجاه الكافة، بمعنى أنه يجوز لأي دولة طرف في اتفاقية منع
الإبادة الجماعية، وليس فقط الدولة المتضررة بشكل خاص، أن تحتج بمسؤولية دولة طرف
أخرى بهدف التحقق من الفشل المزعوم في الامتثال لالتزاماتها تجاه الكافة، ولوضع حد
لهذا الفشل."
وخلصت المحكمة أن غامبيا لديها أهلية ظاهرية
لإحالة النزاع مع ميانمار إليها على أساس الانتهاكات المزعومة للالتزامات بموجب
اتفاقية منع الإبادة الجماعية.
وعندما تنظر المحكمة في الشرط الأخير وهو
ارتباط الإجراءات المؤقتة التسعة التي طالبت جنوب أفريقيا بفرضها بالحقوق المطلوب
حمايتها ستجد المحكمة أن معظم هذه الحقوق بطبيعتها ترتبط ارتباطا وثيقا بالتدابير
المؤقتة وفي مقدمتها وقف الأعمال العسكرية والتصدي لأي فعل من أفعال الإبادة،
فالواقع والمنطق يقول إن وقف القتل ووقف التدمير ووقف الأضرار بأعضاء الجماعة
جسديا أو نفسيا ووقف التهجير والسماح بتدفق كافة انواع المساعدات يتطلب وقف الأعمال
العسكرية.
وحول عنصر النية المكون لجريمة الإبادة
الجماعية الذي يجب اثباته لقيام الجريمة هو نية إهلاك أفراد الجماعة… كليا أو
جزئيا عند ارتكاب أي فعل من الأفعال المجرمة في اتفاقية منع الإبادة الجماعية وهو ما يعرف "بالقصد الخاص" عادة ما
يكون إثباته صعبا ففي الجرائم العادية على المدعي العام أن يغوص في أعماق المجرم ويبحث
في ظروف ارتكاب الجريمة ليثبت النية التي أتى عليها نص التجريم، مع التنويه أن
عنصر النية ليس مهما اثباته في هذه المرحلة إلا أن جنوب إفريقيا أوردت عشرات
التصريحات لعسكريين ووزراء ورئيس الوزراء ما يثبت تصميمهم وعزمهم على ارتكاب
الجريمة معززة ذلك بحجم القتل والدمار الهائلين، حاول شو باستخفاف التقليل من أهمية
التصريحات وتفسيرها بخلاف مقصودها إلا أن الكلمات وما رافقها من افعال وما ارتبط
بهما من نتائج تثبت جميعها نية إسرائيل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
وبالمجمل فإن المحكمة عندما تنظر في الحقائق
والأدلة المدعومة بإحصائيات مرعبة وصور وتسجيلات وتقارير دولية ستطمئن إلى وجود
اختصاص مبدئي يخولها فرض تدابير احترازيه ستتأكد المحكمة من تنفيذها من خلال
التدبير الذي ستفرضه من بين التدابير، وهو إلزام إسرائيل بتقديم تقرير خلال أسبوع
من تاريخ الحكم يوضح ما فعلته لتنفيذ ما قررته المحكمة من تدابير ومن ثم تقديم
تقارير دوريه خلال فتره محدده (كل ثلاثة أشهر مثلًا) على مدار سماع الدعوى الأصلية.
إن ما قدمه فريق الدفاع عن إسرائيل من دفوع
مثير للإشمئزاز كونه تجاهل بل أنكر الحقائق على الأرض وكانت الدفوع المقدمة مجرد
ترديد للأكاذيب التي سمعناها طوال أكثر من مئة يوم من أعمال القتل والتدمير على
لسان قادة
الاحتلال وداعميهم، فقد انخرط فريق الدفاع في عسكرة المدنيين والأعيان المدنية، المشافي
والمساجد ومدارس الأونروا والصحفيين ملقيا باللائمة على الفصائل الفلسطينية لكن
نظره خاطفه على الأرقام ستجعل القضاة في حالة صدمه لأنه لا يمكن لهذا التدمير
الواسع والاعداد الضخمة من الضحايا أن تسقط ومعظمهم نساء وأطفال إلا في إطار خطه
إبادة يستهدف فيها المدني قبل العسكري.
تبقى الأولوية القصوى إلى وقف هذا العدوان البربري بكل الوسائل فالظاهر أن إسرائيل بعد أكثر من مئة يوم ماضية في إبادتها لكل أشكال الحياة فلم يعد مقبولا أن تبقى 152 دولة على الأقل عاجزة لا تلوي على فعل شيء في مواجهة إسرائيل وداعميها،
يكفي القضاة تقييم مبدئي للحقائق المعروضة
وتوافر الشروط الثلاث لرفض طلبات إسرائيل في شطب الدعوى من سجل المحكمة العام
وتأييد فرض جميع التدابير المؤقتة أو معظمها هذا إن تم إعمال أحكام الاتفاقية بشكل
مجرد وتصرف القضاة بشكل مستقل دون اي تأثير من دولهم مهما كان موقفها.
يبقى السؤال الكبير هل ستنفذ إسرائيل قرار
محكمة العدل الدولية إن صدر في الاتجاه الصحيح؟ فمثول إسرائيل أمام المحكمة وابداء
دفوعها يعني أنها ابدت ارادة بالالتزام بقرارات المحكمة مهما كانت، لكن التجربة
تقول إن إسرائيل بارعة في التحايل والالتفاف على مثل هذه القرارات فقد تمادت في
خرق قواعد القانون الدولي لحد سحقها، مهما يكن فإن مجرد صدور قرار يعظم الجهود من
اجل الضغط على إسرائيل وداعميها لوقف هذه المذبحة.
ويبدو أن الداعمين لإسرائيل في حرب الإبادة
ماضون في دعمهم فالولايات المتحدة وبريطانيا على لسان وزير خارجيتها هاجما الدعوى،
كما أعلن نتنياهو أن المانيا ستنضم إلى إسرائيل في الدعوى وليس غريبا أن تنضم
الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مستقبلا للدفاع عن إسرائيل وهي خطوة من
شأنها أن توسع دائرة المتهمين المتورطين في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
إن من شأن انضمام هذه الدول سيدفع عددا من
الدول لأن تنضم لدعوى جنوب إفريقيا وتقديم طلبات تلزم هذه الدول بوقف الدعم الذي
تقدمه لإسرائيل كما أعلنت ناميبيا أحد ضحايا أبشع إبادة ارتكبتها ألمانيا في
ناميبيا مطلع القرن العشرين انضمامها لدعوى جنوب افريقيا عندما أُعلن عن انضمام المانيا، كما أن انضمام
هذه الدول سيشكل فرصه لإعادة كتابة التاريخ من جديد ويسلط الضوء على إرث هذه الدول
الاستعماري المشبع بالإبادات الجماعية فليس لدى هذه الدول ما تقدمه ضد افريقيا
والعكس هو الصحيح فلدى افريقيا الكثير من الأدلة ضدهم ومدى تورطهم في حرب الإبادة
الحالية.
لذلك من واجب كافة الدول دعم دعوى جنوب
إفريقيا بكافة الوسائل الممكنة وعلى الدول الأطراف في اتفاقية منع الإبادة
الجماعية والتي ليس لها تحفظ على المادة التاسعة الانضمام للدعوى من أجل توسيع
نطاقها لتشمل كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة فما يقوم به الاحتلال في الضفة
الغربية والقدس من أفعال ينطبق عليها بنود اتفاقية منع الإبادة الجماعية.
تبقى الأولوية القصوى إلى وقف هذا العدوان
البربري بكل الوسائل فالظاهر أن إسرائيل بعد أكثر من مئة يوم ماضية في إبادتها لكل أشكال الحياة فلم يعد مقبولا أن تبقى 152 دولة على الأقل عاجزة لا تلوي على فعل
شيء في مواجهة إسرائيل وداعميها، تستطيع أكثر من 52 دولة عربية وإسلامية قيادة هذه
الجهود وفعل الكثير مع مئة دولة لإنقاذ ما تبقى من قطاع غزة إذا ما تحرر معظمها من
الخوف والعجز وبعضها من الخيانة.