شرعت اليوم الخميس محكمة العدل الدولية في المداولات حول توجيه تهمة
ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية من قبل إسرائيل انطلاقا من ملف ثقيل تقدمت به أفريقيا
الجنوبية والتحقت بها الدول العربية.. وسنرى هل ستكون المحكمة لسان حق وعدل أم
ستخضع لقوى غربية؟
وفي هذه الظروف العصيبة المؤلمة نشرت مجلة "فورين بوليسي"
الأمريكية تقريرا استعرضت فيه توقعاتها لسنة 2024 حول النزاعات الدولية، وقالت
المجلة في تقريرها الذي ترجمته "عربي21": إن الحروب آخذة في التزايد منذ
سنة 2012 تقريبا بعد أن تراجعت وتيرتها في التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن
الحادي والعشرين.
في البداية اندلعت الصراعات في كل من ليبيا وسوريا واليمن في أعقاب
الثورات العربية لسنة 2011. ثم امتد عدم الاستقرار في ليبيا جنوبًا ما تسبّب في
إشعال فتيل أزمة طويلة الأمد في منطقة الساحل. تلت ذلك موجة جديدة من المعارك
الكبرى، على غرار الحرب بين أذربيجان وأرمينيا سنة 2020 حول ناغورنو كاراباغ،
والقتال المروع في منطقة تيغراي شمال إثيوبيا والهجوم الروسي على أوكرانيا، وهي
الحرب الأكثر التحاما بالغرب لأنها هذه المرة تندلع في قلب أوروبا البعيدة عن
الحروب منذ 1945، ثم حرب السودان، وأخيرا منذ 7 أكتوبر أخطرها جميعا منذ تعرضت
غزة
إلى حرب إبادة خارج القانون الدولي وخارج أخلاق الحرب وبلغت يومها المائة بعشرات آلاف
الشهداء
الفلسطينيين واعتراف العالم بصمود المقاومة الحماسية وشرعية جهادها.
وتمحورت الدبلوماسية حول إدارة التداعيات: التفاوض على وصول
المساعدات الإنسانية أو تبادل الأسرى، وتلاشت جهود صنع السلام هناك منذ سنوات بعد
سقوط سلام أوسلو ومدريد وكامب ديفيد، وتجاهل زعماء العالم ذلك الصراع إلى حد كبير
حتى أبرمت عدة حكومات عربيّة اتفاقيات تطبيع بوساطة أمريكية مع تل أبيب وتجاهلت في
الغالب محنة الفلسطينيين.
واستولى
الاحتلال على المزيد من الأراضي الفلسطينية وأصبح المستوطنون
يتصرفون بوحشية أكبر من أي وقت مضى، ما حول الدولة العبرية إلى ثكنة يسكنها ويغتصب
أراضي الغير مستعمرون استيطانيون مسلحون يقتلون الأبرياء بحماية جيشهم!
بدأت الحملة الإسرائيلية في غزة وهو قطاع ساحلي مكتظ بالسكان تحكمه "حماس" بصفة شرعية إثر انتخابات شفافة عام 2007 وتحاصره "إسرائيل" بإعانة بعض جيرانها العرب منذ 16 سنة!
لكن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني لم يبدأ منذ هجوم "حماس"،
بل كانت عملية السابع من أكتوبر نتيجة طبيعية ليأس الفلسطينيين من حل سلمي لم يوجد
منذ 1947.
وأوضحت المجلة أن الهجوم الذي قادته "حماس" في السابع من
أكتوبر وما تلاه من تدمير الاحتلال لغزة نقل الصراع المستمر منذ عقود من الزمن إلى
فصل جديد مروع.
وبعد مرور ما يقارب ثلاثة أشهر أصبح من الواضح على نحو متزايد أن
العمليات العسكرية الإسرائيلية لن تقضي على "حماس" باعتراف قادة مدنيين
وعسكريين اسرائيليين مثلما يزعم ناتنياهو وأن محاولة القيام بذلك قد تدمّر ما تبقى
من غزة وتوسع نطق الحرب الى دول الجوار وهذا التوسع هو ما تخشاه الولايات المتحدة
وعبر على لسانها وزير الخارجية أنتوني بلينكن في كل محطات زيارته الأخيرة الى
إسرائيل وعواصم عربية أهمها الدوحة.
بدأت الحملة الإسرائيلية في غزة وهو قطاع ساحلي مكتظ بالسكان تحكمه "حماس"
بصفة شرعية إثر انتخابات شفافة عام 2007 وتحاصره "إسرائيل" بإعانة بعض
جيرانها العرب منذ 16 سنة!
ونذكر أنه بعد وقت قصير من هجوم السابع من أكتوبر حاصرت قوات
الاحتلال القطاع لأسابيع قبل أن تسمح بدخول مساعدات محدودة وبداية القصف العنيف
الوحشي مع الدعوات لسكان شمال القطاع بالإخلاء جنوبا وهي عمليات مهّدت الطريق أمام
التحركات البريّة التي كانت غايتها ارتكاب جريمة التهجير القسري لشعب كامل كما وقع
في النكبة الأولى عام 1948.
ثم شهدت تطويق القوات والانتقال إلى مدينة غزة، وفي أواخر نوفمبر
شهدت فترة توقف قصيرة توسطت قطر بدعم من الولايات المتحدة ومصر في إنجاح صفقة
إطلاق "حماس" سراح 105 أسرى (81 إسرائيليا و24 آخرين) وإطلاق تل أبيب
سراح 240 فلسطينيا محتجزين في سجونها. وفي الأول من ديسمبر استؤنف الهجوم مع تنفيذ
عمليات برية في جنوب غزة.
ويستمر القصف العنيف والقتال في كافة أنحاء القطاع الى يوم نشر هذا
المقال حيث كانت العمليات الإسرائيلية مدمّرة لمعظم أجزاء القطاع بحصيلة قتلى وصلت
إلى 30 ألف فلسطيني، من بينهم 7000 طفلا و4000 امرأة وقصف منازل سكنية لعائلات
اعلاميين انتقاما منهم لإظهارهم صور المجازر للرأي العام العالمي وخاصة الجزيرة
صوت الحق والمقاومة وترك أعداد لا حصر لها من الأطفال قتلى أو مشوهين أو يتامى!
كان آخر هذه الجرائم المروعة اغتيال الصحفي حمزة الدحدوح نجل الصحفي
المنكوب في كل أسرته وائل الدحدوح مراسل قناة الجزيرة وهكذا أحصت منظمة الأمم
المتحدة ضحايا الإبادة الإسرائيلية من الصحافيين 110 في ظرف ثلاثة أشهر مع 170
موظفا أمميا من وكالة الغوث (الأونروا) و230 من كوادر طبية من أطباء وممرضين
ومسعفين!
أرقام مرعبة تسجلها الإنسانية لأول مرة في التاريخ الحديث! لقد أسقط
الاحتلال حمولات ضخمة ـ بما في ذلك قنابل بوزن 2000 رطل ـ على مناطق مكتظة
بالسكان.
وتشير التقارير إلى أن التدمير كان بوتيرة وحجم لم يسبق لهما مثيل في
التاريخ الحديث. كما غادر أكثر من 85 بالمائة من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون
نسمة منازلهم وذلك وفقاً للأمم المتحدة التي تحذر أيضاً من انهيار كل البنى
التحتية وجميع مقومات الحياة وانتشار المجاعة والأمراض المعدية التي تقول وكالات
الإغاثة إنها قد تودي قريبا بحياة عدد أكبر من الأرواح مقارنة بالعمليات العسكرية.
وفرّ العديد من الفلسطينيين بعضهم نزحوا عدة مرات جنوبًا إلى مخيمات
مؤقتة على طول الحدود المصرية ويأمل بعض المسؤولين الإسرائيليين أن تدفع الظروف في
غزة الفلسطينيين إلى مغادرتها بينما ينفي الاحتلال أن تكون هذه سياسة رسمية و لا
تزال واشنطن تكرر على لسان رئيسها ووزير خارجيتها نفس حجة (دفاع إسرائيل عن
نفسها!) كأنما هوجمت إسرائيل وتم احتلال أراضيها من دولة غازية! بينما العكس هو
الصحيح! دعمت الحكومة الأمريكية حتى اللحظة الراهنة دولة الاحتلال دون قيد أو شرط
تقريبًا.
غادر أكثر من 85 بالمائة من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة منازلهم وذلك وفقاً للأمم المتحدة التي تحذر أيضاً من انهيار كل البنى التحتية وجميع مقومات الحياة وانتشار المجاعة والأمراض المعدية التي تقول وكالات الإغاثة إنها قد تودي قريبا بحياة عدد أكبر من الأرواح مقارنة بالعمليات العسكرية.
وقد ساعدت الدبلوماسية الأمريكية في التوصل إلى وقف القتال في نوفمبر
وربما خففت من بعض التكتيكات الإسرائيلية وفي المقابل لم يقدم نتنياهو سوى تفاصيل
قليلة عن أهدافه النهائية في غزة باستثناء أن الاحتلال سيحتفظ بالسيطرة الأمنية
على القطاع. وهو يرفض الفكرة التي تروّج لها واشنطن بأن السلطة الفلسطينية التي
تحكم بعض أجزاء الضفة الغربية وتهيمن عليها فتح، المنافس الفلسطيني الرئيسي لحماس
يمكن أن تلعب دورا في حكم غزة بعد الحرب وهو يؤكد أن تل أبيب ستقاتل حتى تقضي على
حماس.!
أوردت المجلة أنه يتعيّن على واشنطن الضغط بشكل أكثر إلحاحًا من أجل
فرض هدنة أخرى تؤدي إلى إطلاق سراح جميع الأسرى الذين تحتجزهم حماس مقابل إطلاق
سراح السجناء الفلسطينيين. وربما ينتج عن الترتيبات المؤقتة لغزة، التي سيكون
التفاوض بشأنها أكثر صعوبة، انسحاب القوات الإسرائيلية وتخفيف الحصار وضمان القوى
الخارجية وقف إطلاق النار. في ظل الوضع الحالي، من المرجح أن تستمر العمليات
الكبرى لأسابيع (وربما أشهر) أكثر، تليها حملة متواصلة وأقل كثافة ستبقى خلالها
غزة طي النسيان.
ويبدو أن الاحتلال العسكري الموسع أمر محتمل، حتى لو نفى نتنياهو أن
هذه هي نيته. ستسيطر القوات الإسرائيلية على مساحات واسعة من القطاع وستواصل
غاراتها بينما يتجمّع الفلسطينيون فيما يسمى بالمناطق أو المخيمات الآمنة التي
تبقيها على قيد الحياة إلى أقصى حد ممكن من قبل الوكالات الإنسانية.
ورغم تصميم مصر على إبقاء الفلسطينيين خارج حدودها ليس من المستغرب
عبور اللاجئين إلى مصر والأردن خاصة إذا استمرت الحملة وامتد الهجوم الإسرائيلي
إلى العمليات البرية والقصف العنيف لمدينة رفح الحدودية.