إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن
النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس
والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين
في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير
والموازين وهذا الدمار المبين..
وفي
تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن
الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة
والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا
إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي
الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن
السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛
بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت
مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما
يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي
(الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن
جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو
حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الاولى مقارنة
بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون
انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء
لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس
إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء
المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة
حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية،
فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع
الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة
والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب
والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما
فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل
قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا
الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير
القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم
(وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى
التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما
نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها
المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق
الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية ( فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ
والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..
ظاهرة الهروب من سجون المستعمر
لقد عرفت الثورة العديد من حالات الهروب من السجون والمعتقلات على
طول امتداد سنوات الثورة، وقد حدثت العديد من القصص الطريفة أثناء الهروب وهو ما
يروي لنا أحداثها واحد من أبطالها، وهو المجاهد محمد الطاهر عبد السلام، فيقول: "ولما
كسرنا ما تبقى من جدار السجن المؤدي إلى غُرفة المستشفى، وقعنا على مرضى عقليا،
فقال أحدهم لصاحبه: "قوموا هاهم هجموا علينا" فالمسكين لا يزال ذهنه
مُرتبطا بالأحداث الثورية، وقد يكون أحد المساجين السابقين الذين تمّ تعذيبهم حتى
فقدوا عقلهم. قال له زميلي مقداد: "اسكت أنا قائدك" فهدأ المريض. فخرجنا
الواحد تلو الآخر من المستشفى، ركبنا السيارة، وبالصدفة كانت هناك سيارتان للشرطة
العسكرية من نوع "الجيب" في الطريق الرئيسي، فطلبت من السائق أن يسير
وراء الأولى. وهكذا فعل، ثم بعد ذلك تركنا السيارة، وبدأنا بالمشي من الساعة
السابعة مساء إلى الرابعة صباحا، ومع الفجر وصلنا إلى بيت أحد المُناضلين، وهو
عبارة عن مركز اتصال، فناداه شريف فخرج، ولكنه كان خائفا، ولم يثق فينا في
البداية، خاصّة وأنه يعرف شريف، ويعلم أنّ الفرنسيين قاموا باعتقاله، وأنّ مجيئه
ليلا مُثير للشُبهات، ولهذا فعندما سأله شريف عن المجاهدين أجاب الرجل بأنه لا
يعرف أحدًا. فذهبنا لحالنا، ولكنني فكرت في أنّ الرجل قد يكون خائفا، فاقترحت على
شريف أن يُعرّفه بنا، فعُدنا إليه، ولكن هذه المرّة صدّقنا، واحتفى بنا وذبح لنا
خروفا، ووفّر لنا مكانا نرتاح فيه!" .
ويروي المجاهد رزقي بوهراوة في مذكراته قوله: "قبيْل أسابيع
قليلة من توقيف الحرب في 19 مارس سنة 1962م، كمـا هو معلوم، كنتُ في مدينة ذراع بن
خدّة، أؤدّي مهمّتي كمسؤول (رئيس قطاع). أختبيء عادة في الملاجئ الموجودة في منازل
المناضلين داخل المدينة.
وفي أحد الأيّام زارني الملازم (عضو المنطقة) محند أورمضان، ليُقيم
معي بعض الوقت. فكان المخبأ قريبًا جدّا من خط السّكـّة الحديديّة بحيث لم تكن
تتجاوز تلك المسافة الفاصلة بيننا من وراء جدار الكوخ إلا أمتارًا فقط! وفي
الصّباح، سمع حركة وكلام الجنود الفرنسيّين، فانتفضَ من فراشه، في غاية التأهب
للقتال، وكأنه وقع في كمين، وقال لي بكل جدّ وعزم: لقد اكتشفوا أمرنا. فقلتُ له
ضاحكا: عدْ إلى فراشك، وأكمِلْ نومك مطمئنّا. لا تخفْ، إنّهم يفتِّشون كلّ صباح
خطوط السكّة الحديديّة، قبْل مرور القطار، بحثا عنْ متفجّرات محتملة، أو أعمال
تخريب. هيّا نمْ، إنّك في المدينة، ولستَ في الغابة. لقد قضى أيّاما ممتعة ومريحة
معي في ذلك المأوى الآمن ثمّ رحلَ عنّي
إلى إحدى المناطق المجاورة.
وجاءني كذلك بعده المجاهد سي مقران آيتْ مهدي رئيس الناحية الثانية،
التي كان قطاعي تابعا له، وعاش هو الآخر معي تجربة زميله السابق محند أورمضان،
فذعِرَ عندما بلغتـْه أصوات العسكر صباحا، وهم يراقبون خط سكـّة القطار. وظنّ أنّ
العدوّ قد حاصر المنزل الذي كنّا فيه، ولكنّي أسرعتُ إلى تهدئته، مثلما فعلت مع
الضابط محند أورمضان قبله" .
من بعض الطرائف التي وقعت أثناء تحضير عملية هروب مصطفى بن بولعيد ورفاقه من سجن الكدية بقسنطينة، يقول أحد هؤلاء الرفاق الهاربين معه وهو المجاهد محمد بزيان: "لحسن الحظ، فإنّ باب القاعة موجه إلى حيث توجد قبلة الصلاة، بحيث أن المصلي يستقبل الباب، واستغللنا هذا في ساعات الحفر، إذ كنا نضع سجادة، وكان في كل مرة يحرس واحد من تحت الباب، حتى إذا ما اقترب الحارس يخبرنا، وإذا دخل فجأة يتظاهر هو بالسجود، وفي كل مرة كان يتولى الحراسة شخص آخر" .
لقد عرفت الثورة العديد من العلاقات المعقدة مع المتعاونين مع العدو،
فكان تصرف المجاهدين معهم مختلفا من حالة إلى حالة، ومن هذه الحالات الطريفة ما
يروي لنا المجاهد محمد الطاهر عبد السلام:
"عندما أعدت هيكلة التنظيم بالناحية التي عينت فيها أبلغني المُجاهدون أنّ "بحيرة لرنب" فيها
الكثير من العملاء، كما أعطوني أسماء بعض المشتبه فيهم لمُحاربتهم. استعملت سياسة
خاصّة، فعوض أن أستبعدهم، صرت أختبئ عندهم بعد كلّ عملية، إذ كنت أجتمع
بالمُواطنين. كنا نعمل ليلا، ونختبئ خلال النهار. وبعد كلّ نشاط، وفي ساعة الفجر
أقصد بيتا من بيوت هؤلاء المشتبهين لأستريح عندهم. فكانت هذه السياسة التي
انتهجتها معهم موفقة جدا، حيث كنت أقول لهم إنّ الإخوة (أي المجاهدون) يشكّون
فيكم، وإنني بعد التحرّي اكتشفت أنكم وطنيون، وأنه يُمكن لي أن أنام عندكم، وأثق
في إخلاصكم. وأحيانا كنت أذهب لأرتاح في بيت الواحد منهم، وهو يذهب إلى السوق،
وعائلته وأبناؤه معي، أقول له أنه في حالة ما إذا حدثت أي وشاية بنا للعدو فلن
أستسلم أنا وعائلته، وبهذا يموتون شهداء! وهكذا صرت أنام عندهم بدون خوف حتى
الاستقلال" .
ومن الطرائف التي وقعت لأحدى العائلات الثورية صبيحة الفاتح من
نوفمبر، تروي المجاهدة زهيرة خروبي قصة طريفة وقعت لها ولأطفالها فتقول: "أذكر
أن زوجي رحمه الله قد أحضر ذات يوم كيس فحم من شجرة "الدفلة" لكي أطحنها
في الرحى (كالقمح والشعير)، وحسبت لأوّل وهلة أن هذا الفحم الذي أتى به دون طلب أو
سبب، سنستعمله للطهو، ولكنهم في الحقيقة كانوا يستخدمون ذلك المسحوق لصناعة
البارود... وأذكر أنّ وجهي ووجوه أولادي كذلك أصبحت كلها سوداء مثل وجوه الغربان،
وهم ما يزالون يتذكرون ذلك إلى اليوم ويضحكون...!! نعم، لقد كانت تلك آخر مرحلة من
مراحل التحضير للثورة فيما علمت وشاهدت وعشت عن قرب!. وبقي أن أشير في النهاية إلى
أن البندقية التي حملها زوجي يوم تفجير الثورة في الفاتح من نوفمبر، كان قد
اشتراها بماله الخاص!!" .
ومن بعض الطرائف التي وقعت أثناء تحضير عملية هروب مصطفى بن بولعيد
ورفاقه من سجن الكدية بقسنطينة، يقول أحد هؤلاء الرفاق الهاربين معه وهو المجاهد
محمد بزيان: "لحسن الحظ، فإنّ باب القاعة موجه إلى حيث توجد قبلة الصلاة،
بحيث أن المصلي يستقبل الباب، واستغللنا هذا في ساعات الحفر، إذ كنا نضع سجادة،
وكان في كل مرة يحرس واحد من تحت الباب، حتى إذا ما اقترب الحارس يخبرنا، وإذا دخل
فجأة يتظاهر هو بالسجود، وفي كل مرة كان يتولى الحراسة شخص آخر" .
ومن الطرائف التي وقعت لهؤلاء الهاربين مع بن بولعيد من سجن الكدية
وهو في حالة تنكّر وتخفّ عن أعين العدو وعملائه، فيقول المجاهد محمد بزيان: "ويعد
نجاح عملية الهروب وصلنا إلى مقطع وادي العثمانية، فاقترحت على صاحبي أن نقصد ديار
الديس، لا ديار القرميد، لأن أصحاب ديار القرميد يكونون موسرين، وبالتالي قد يكون
احتمال الوشاية بنا أكبر، ولهذا طرقنا الباب المغطى بالديس، وبالفعل عثرنا فيها
على شخص اسمه أحمد رابحي، أحضر لنا العشاء، فأكلنا، ثمّ سألنا من أين نحن؟ أجبنا
أننا ذاهبان للعمل في مزارع عنابة، فقال لنا إننا في نوفمبر وليس هناك شيء للحصاد
هناك، ولاحظ أننا بلباس السجن، فأخبرنا أنه كان في وادي العثمانية، وأنه علم مما
نشرته جريدة "لاديباش" بأنّ بن بولعيد هرب من السجن، وقال لنا لعل
أحدكما بن بولعيد (لأنه لا يعرفه شخصيا) وإلاّ فأنتما رفقاؤه. فنفينا الأمر، وادّعينا
مُعاداتنا للفلاقة قائلين: "لقد أحرقوا بلادهم، ويريدون أن يحرقوا بلادنا"
قال لي إنك صغير، ولا تذكر ما حدث في 8 ماي 1945 حيث قتل لنا الفرنسيون 45 ألف
نسمة، وأضاف إنّ كل جزائري مُقدّر عليه أن يُحارب
فرنسا، ولو بقي في الجزائر امرأة
واحدة. ثمّ صمت قليلا، وقال إنه متأكد من أننا من رفقاء بن بولعيد، ودلّنا على
الطريق الآمنة التي يجب أن نسلكها لكي لا نقع في قبضة العدو، وهذا ما قد حصل حتى
وصلنا إلى المنطقة الثانية حيث استقبلنا قادتها بحفاوة كبيرة" .
وتروي يزة بوزكري زوجة رمضان عبان، وكاتبته (في الوقت ذاته) كيف
اختلف مرّة مع كل من بن مهيدي وبن خدة حول إطلاق تسمية "المجاهد"،
فتقول: "كانوا يعملون في روح جماعية، وأذكر أنه لدى تأسيس جريدة
"المجاهد" اعترض رمضان عبان على
التسمية بحكم أنها تحمل خلفية دينية، غير أنّ العربي بن مهيدي، وبن يوسف بن خدة،
قد أصرا على تسمية "المجاهد" وأقنعا عبان بأنّ هذا من شأنه أن يساعد على
آلتفاف الجماهير حول القضية الوطنية، فاقتنع" .
ومن الطرائف المتعلقة بتجاوز الثورة عن بعض المحظورات لتحقيق بعض
الضرورات التي تخدم الأهداف السامية للجهاد، يقول الضابط رزقي بوهراوة: "وفي
هذا السّياق، أتذكّر شيخيْن عرفتهما في هذه الفترة القاسية منْ عمُر الثورة، كانا
مدمنيْن على شُرب الخمر، ويتردّدان باسْتمرار على حانة المدينة، وكانا يَخافان
منّي خوفا شديدا، إذْ أنّ شرب الخمر يعتبر انتهاكا لتعاليم الدّين، يُعاقبُ فاعله
عقابا قد يصل إلى الإعدام (كارتكاب الفاحشة). فاتّصلتُ بهما يوما، وقلتُ لهما: لا
أريد أن تكونا عدوّيْن لنا، فما دمتما لا تستطيعان الإقلاع عنْ هذه الآفة، فاشربا
واطمئنّا، فلنْ يصيبكما الأذى منّي، فحسابكما عند الله في الآخرة، ولكن ما يهمّني
أنا في هذه الدنيا، وفي هذه الظروف بالذات هوْ أن تكونا مؤازرين لنا، فجاهدين معنا،
وأنتما في الحانة، واحمِلا لنا ما ينفعنا منْ أخبار الجنود الفرنسيّين والمعمّرِين
في المدينة. وبهذا أعتبركما من أعوان استخباراتنا" .
ويروي المجاهد الضابط محمد صايكي العديد من الطرائف والنكات التي
وقعت له أثناء سنوات الجهاد فيقول: "أتذكر أنه كانت لي مع الشهيد أحمد سلام
قصة خرجت مخرج النكت، فكنت أحب أن أمزح معه، كنا ذات يوم ببوڤعودن، ونظرا لتربع
عناصر العدو في عين المكان، إذ كانوا يقومون بعملية تمشيط واسعة النطاق، انتقلنا
إلى "قراتن"، وفي حوالي منتصف الليل دخلنا بيت أحد المناضلين، فراح
مهرولا لامرأته، طالبا منها تحضير رغائف خبز، فوضعت زوجته "الجفنة" على
الأرض ثم أترعت الإناء ماء، وكانت تستعين في إضرام نار الكانون "بالوڤيد"
(فضلات البقر) ثم تلتفت إلى العجين ثانية لتلينه بيديها، وهكذا دواليك، وبما أنني
كنت أعرف أن أحمد سلاّم يعاف كثيرا، وخزته ببطئ، وقلت له انظر إلى زوجة صاحبنا كيف
تضع يدها في الوڤيد ثم تقوم بعجن المستحضر، الأمر الذي جعله فيما بعد يتحرز من أكل
الخبز، واعتذر بأنه كان شبعان، وكنت أعلم وحدي أنه كان يشكو من جوع شديد، إذ مرّت
علينا ثلاثة أيام ونحن نمشي خماصا، فأعطاني أحمد سلاّم حصته من الخبز واكتفى هو
بشرب فنجان قهوة وكأس ماء" .
يروي أحد المجاهدين أن مسبلين اثنين كانا مختفيين، وكان الجنود
الفرنسيون من فوقهما، يتكلمون بالجهاز اللاسلكي، مستعملين "المورس"،
فعجلوا يقولون: روج، وتعني الكلمة بالفرنسية أحمر (rouge)، فقال أحدهما لرفيقه، ما
الأمر؟ فأجابه رفيقه: إنني أرى أنهم قد تفطنوا لنا، فإنهم يقولون: زوج، زوج (أي
اثنان اثنان)، فأجابه الآخر: يا ويلي/ هيا ، هيا نهرب، فهرب الاثنان، وجعل الجنود
الفرنسيون يصوبون نحوهما النار، لكنهم لم يصيبوهما".
تروي يزة بوزكري زوجة رمضان عبان، وكاتبته (في الوقت ذاته) كيف اختلف مرّة مع كل من بن مهيدي وبن خدة حول إطلاق تسمية "المجاهد"، فتقول: "كانوا يعملون في روح جماعية، وأذكر أنه لدى تأسيس جريدة "المجاهد" اعترض رمضان عبان على التسمية بحكم أنها تحمل خلفية دينية، غير أنّ العربي بن مهيدي، وبن يوسف بن خدة، قد أصرا على تسمية "المجاهد" وأقنعا عبان بأنّ هذا من شأنه أن يساعد على آلتفاف الجماهير حول القضية الوطنية، فاقتنع" .
ويروي عن أحد ضباط جيش التحرير في الولاية الرابعة أنه حدث مرّة أن
وقع فوج من المجاهدين تحت مرمى الطائرات في مكان مكشوف، فقتلوا جميعا إلا واحد، قد
أغمي عليه، ولما استيقظ وجد كل رفاقه قد استشهدوا فأخذ ينظر إلى السماء ويصرخ
قائلا: "يا ربي كملني أنا أيضا واقعد فيها غير أنت وحدك...!".
ويروي طرفة أخرى فيقول: "لجأ بعض المجاهدين على إثر قرار حظر
"الشمة" أو "النفة" إلى شحنها داخل الخراطيش خفية، بعد
تفريغها من البارود، فكانوا يطلقون الشمة أحيانا بدل الرصاص، مما أدى إلى استشهاد بعضهم عند الاشتباكات، حيث كانت تلك
الرصاصات "التبغية" لا تقتل العدو بل تعطيه الوقت الكافي للرد والتصويب".
ويروي المجاهد شعبان محرز قصة طريفة وقعت لأحد المجاهدين الواقعين في
الأسر فيقول: "مما أذكره في هذه المعركة أن أحد المجاهدين ويدعى (عثمان يزيد)
من قرية "آث عمـارة" بآكفادو قد جرح جرحا بليغا أثناء المعركة؛ فاختبأ
تحت شجيرة فاكتشفه كلب بوليسي فقبض عليه وأخذ أسيرا في شاحنة مع المدنيين المقبوض
عليهم.
بدأ عثمان الجريح ينشد أناشيد وطنية للنساء والرجال المقبوض عليهم
وهم في الشاحنة، فوضع في مستشفى مدينة بجاية للعلاج تحت الحراسة، فكان ينشد أيضا
للمرضى أناشيد وطنية كما أخبرنا زوار المستشفى بذلك، وبعد التماثل للشفاء من جراحه
أودع سجن قصر الطير، وبقي فيه حتى الاستقلال. ويوم إطلاق سراحه، أحضر إلى المركز
العسكري الفرنسي بسيدي عيش وألقوا به إلى الشارع مجردا تماما من ثيابه!. فقصد أحد
البيوت المجاورة وطرق الباب فخرجت إليه إمرأة فطلب منها بعض الملابس، فأعطته ملابس
نسوية فارتداها مضطرا وجاء إلى وسط المدينة، وهو بتلك الملابس النسوية تحت أنظار
الناس المندهشين فاعتبروه مجنونا لا يعي ما يفعل!" .
وعن تعاون الخونة مع العدو، وتجاوب الشعب مع المجاهدين يروي المجاهد
رزقي بوهراوة إحدى هذه المفارقات الطريفة التي وقعت له فيقول: «استرحنا قليلا، ثمّ
واصلنا السيْر شطر قرية "ثعْوينتْ"، التّي تطلّ على قرية
"بوجِيمَعْ". وقصدُنا أنْ نختبئ هناك حتّى يحلّ المساءُ، لنسافر، في جنح
الظلام. وفي مدخل قرية كبيرة لا أذكرُ اسمها، تقع جهة الجنوب، وجدنا في مدخلها
العلويّ مجموعة من الشيوخ واقفين، وكنّا نرتدي البذل العسكريّة. قلتُ لأحدهم
باللغة الفرنسيّة (كأنّني جنديّ فرنسيّ): أنتَ هناك.. تعالَ. وقبل أنْ يُجيبني بدأ
زملاؤه ينصرفون واحدا تلوَ الآخر، ثمّ ردّ عليّ: لنْ آتيَ إليْك. دنونا منه، وقلتُ
له: دُلـَّنا على الطريق إلى "بوجِيمَع"، نحن جدد في هذه المنطقة، لقد
اشتبكنا مع "الفلاقة". فأجابنا قائلا: بوجِيمع مِنْ هنا، وأشار إلى
الجهة بيده، وأضاف: وهناك مركز قريب للعسكر فالجأوا إليه. وقبل أنْ يذهب، قلتُ له:
نحن مجاهدون، هل تتفضّل بإعطائنا بعض الطّعام. قال: طبعا ، انتظراني. فتبعه زميلي
ليعرف وجهته. وما هي إلا لحظة حتى فتِحَ بابُ إحدى الديار القريبة منّي، فخرجتْ
منه عجوز، وكانتْ قد استمعتْ إلى الحديث الذي دار مع الشيْخ، وقالتْ لي ناصحة بصوت
خافت: نادِ صاحبَك، واهرْبا مسرعيْن. إنّ الشيْخ هو أبو أحد (الحرْكي)، وهو، في
الوقت نفسه رئيس القرية، لقدْ أسرعَ إلى المركز ليُخبر عن وجودكما. وزوّدتـْني
برغيف كسْرة، وبعض التّين الجافّ، ثمّ دخلتْ بيْتها، ولم نبتعد عن القرية إلا
بحوالي ثلاثمائة متر تقريبا حتى رأيْنا جنود العدوّ مقبلين نحونا، ولكنّنا استطعنا
أنْ نبتعد عن الخطر، بفضل تلك العجوز المخلصة!" .
وعن مدى التحام الشعب نساءً ورجالًا بالمجاهدين، يروي الضابط رزقي
بوهراوة هذه الحادثة الطريفة فيقول: "في أحد الأيّام، انتشر العسكر في الحيّ،
وقصدوا منزل سي مالك بالذات، لا ندري إذا كان ذلك بالصدفة أو نتيجة شكوك أو وشاية،
فدخلوا، وتركوا مجموعة من الدّرك خارج البيْت، ثم بدأوا يفتّشون زوايا المنزل، و
صعد بعضهم إلى العريشة، وشرعوا في البحث وراء أكوام التبن.
فأسرعتْ زوجة المناضل سي مالك إلى الدّرك، فحيّتهم بأدب، وكانتْ تحسن
التحدّث بالفرنسيّة، ثم دعتهم إلى تناول أكواب القهوة، فاعتذروا. فلم تيْأسْ،
ودعتهم إلى شرب اللبن، فقبلوا الدّعوة. فاستغلـّتْ هذا الجوّ اللطيف، فقالتْ
مشتكية: إنّ جنودكم بصدد إتلاف العلف الذي تقتات منه ماشيتنا. فقال أحدهم: أين
هم؟. قالتْ: إنّهم في أعلى العريشة. اقتربَ منهم الدّركيّ، وصاحَ فيهم: هيّا
انزلوا، واخرجوا من هذه الدّار، كفى إتلافا للعلف. و هذا من لطف الله لأن الضابط
علي رابح كان مختبئا في نفس المكان المقصود تفتيشه، و لولا تلك المبادرة التي
اتخذتها زوجة سي مالك بكل برودة أعصاب لكنا قد خسرنا أحد الأبطال المرموقين في
منطقتنا، وهو الملازم عمي علي رابح رحمه الله (الذي توفي في أواخر الثمانينيات)" .
اقرأ أيضا: حقائق من ثورة الجزائر تتكرر في غزة الحاضر.. دروس للتاريخ (1)