كنت معصوب العينين، يدي
اليمنى مقيدة بالحديد في الحائط، ويدي اليسرى مقيدة بأوامر الحرس: "لا تلمس
الغمامة على عينيك إلا إذا كانت ستقع".. "عليك إعادة تثبيتها إذا تحركت
من مكانها، يا ويلك إذا تهاونت في ذلك ورأيت أي شيء حولك..".
هكذا بدأ "سيف
الفخراني" يحكي لي قصة اعتقاله من منزله بعد منتصف الليل، واقتياده إلى مقر
الأمن الوطني في محافظته الشمالية، حيث قضى هناك 92 يوما قبل ترحيله إلى "سجن
طرة".
عندما التقيت "سيف"
كان قد مر عليه في "طرة" 30 شهرا (سنتان ونصف)، ولما سألته عن مخالفة
ذلك لقانون الحبس الاحتياطي، غنى ساخرا: "التدوير... التدوير" (على لحن
إعلان عن معجون الأسنان يقول: والتسويس.. التسويس!).
قلت له: مش فاهم.
قال: كل شيء هنا يتم على
الورق حسب القانون بالمخالفة للقانون، بمعنى أن يتم الإفراج عنك وتخرج بالفعل في
سيارة الترحيلات من السجن إلى قسم الشرطة الذي يتم توزيعك منه على القسم الذي تتبع
له، وهناك يبلغونك بأن لك قضية جديدة ستعود إلى السجن انتظارا للتحقيق فيها،
وأحيانا يحدث التدوير في مقر الأمن الوطني، وأحيانا أخرى يحدث وأنت لم تغادر مكانك
في السجن..
كل شيء هنا يتم على الورق حسب القانون بالمخالفة للقانون، بمعنى أن يتم الإفراج عنك وتخرج بالفعل في سيارة الترحيلات من السجن إلى قسم الشرطة الذي يتم توزيعك منه على القسم الذي تتبع له، وهناك يبلغونك بأن لك قضية جديدة ستعود إلى السجن انتظارا للتحقيق فيها، وأحيانا يحدث التدوير في مقر الأمن الوطني، وأحيانا أخرى يحدث وأنت لم تغادر مكانك في السجن
سيف طالب في السنة النهائية
بكلية الآداب/ قسم تاريخ، حاول مرة أن يدخل الامتحان وهو في السجن فتعرض لأسوأ
تجربة في سنوات سجنه، حيث قضى أوقاتا صعبة أثناء الترحيل والانتقال من سجن بنها
إلى سجن الزقازيق إلى سجن الحضرة: "رأيت الويل والمهانة في بنها وفي الحضرة،
بداية من حفل استقبال "الوارد" حيث الضرب العشوائي للجميع، ثم خلع
الملابس كاملة وحرقها ورش الجسم العاري بالمبيدات، وتسليمنا ملابس السجن البيضاء
(اللون المخصص للسجناء قيد التحقيق)، ثم ننتقل إلى طابور حلاقة الشعر على الزيرو
على أنغام الشتائم والتهديدات، وبعد "طقوس الاستقبال" يلقون بنا في
زنزانة ضيقة تحت رحمة السجناء الجنائيين، وكل واحد وحظه في اللي ممكن يحصل له، حيث
لا رقابة ولا رعاية من السجن للسجناء، فالقانون الداخلي في السجن: كل ما يحدث داخل
الزنزانة يجب أن يبقى داخل الزنزانة، ومن يشكو أو يحكي لإدارة السجن عن أية مشاكل
في الداخل فعقابه ثقيل..".
يقول سيف بمرارة: "ظللت
أحاول الوصول إلى المأمور أو أي ضابط مسؤول لأبلغه أنني غير جاهز لدخول الامتحان،
وأطلب إعادتي إلى محبسي في طرة، لكن ذلك لم يتيسر لي إلا في موعد أول يوم امتحان،
وبرغم كل ذلك التعب وكل تلك الإهانات لم يتم عقد لجنة الامتحان لأسباب تحرق الدم.
وانتهت "فترة التغريب المؤلمة"، وتم ترحيلي من جديد إلى
"طرة"، وقلت في نفسي بحزم: توبة.. لن أفكر في دخول الامتحان مرة أخرى،
وضاعت مني ثلاث سنوات دراسية بدون ندم عليها، لأنني لا أستطيع تحمل هذا الثمن
المهين مرة أخرى..".
هذا لا يعني أن السجن كان
جيدا طوال الفترة، فالسجن هو السجن، لكن الألم أنواع والعذاب درجات..
أذكر في بداية احتجازي في
الأمن الوطني أنني كنت أحسب الأيام والليالي، وأتلهف على استدعاء الضباط لي، ربما
يكون الاستدعاء لإبلاغي بالإفراج عني، فأنا لم أفعل شيئا يمكن محاكمتي عليه
باعتباره جريمة.. كل أسئلة التحقيق عن زملاء لي في الجامعة يكتبون بوستات شبابية
عن الأحوال التي نعيشها: الأسعار.. فيروس كورونا.. المعتقلون من زملائنا بلا سبب..
والخوف من تأثير سد النهضة على مستقبل
مصر، وهكذا..
مرت الأيام وبدأ الأمل يتضاءل
في الخروج، وتحول السؤال من "هخرج امتى؟" إلى "آخرتها إيه؟"،
يعني إيه المرحلة اللي بعد كده؟..
هذه الفترة كانت صعبة جدا
وأثرت في حالتي الذهنية والنفسية تأثيرات لن تزول، فأنت قبل الاعتقال تتحرك وتتكلم
وتصارع في الحياة، وتشعر أن لديك إرادة لتأكل وتنام وتتحدث في الهاتف.. فجأة تتحطم
كل البرامج ويتم محو إرادتك، حتى يسيل منك الزمن، فلا تعرف ماذا يجب أن تفعل، ولا
في أي شيء تفكر، فأنت لا تنتظر أحدا، ولا تستطيع أن تسمح لنفسك بالتفكير في نوع
الطعام الذي ستأكله، ولا حتى موعد دخول الحمام..
في تلك الأيام، بدأت أفقد مع
كل يوم علاقتي بالحياة الطبيعية في الخارج، فأنا أعيش في الظلام، وأتعامل مع
العالم من خلال السمع فقط، وبرغم أنني لا أخاطب أحدا ولا أحد يخاطبني، إلا أنني
كنت أحاول التعرف على العالم من حولي من خلال السمع: أسماء المخبرين المستعارة،
ومحاولة مطابقة الصوت مع كل اسم، لأتعرف على مواعد مناوباتهم، ووجدت تسلية مفيدة
في الإنصات لأحاديثهم فيما بينهم، حيث يخطئون كثيرا ويخاطبون بعضهم بأسمائهم
الحقيقية، أو "أبو فلان"، وهذه المعايشة أفادتني بعد ذلك في معرفة
الأشخاص الذين قد يسمحون ببعض الاستفسارات، او الاستجابة لمطالب إنسانية وفي
مقدمتها ماء الشرب، ودخول الحمام..
تمكن "سيف" من رسم
صورة متكاملة للمكان: طرق طويلة على جانبيها حجرات صغيرة، كل واحدة منها بمثابة
زنزانة مفتوحة الأبواب، النوافذ عالية ومحصنة بقضبان حديدية وشبك من الأسلاك
المعدنية يمنع دخول الحشرات وأي مواد أو رسائل، مكان الاحتجاز يطل على فناء صغير
يقابله مبنى الإدارة، وفي ذلك الفناء يتناقش الحراس ويدخنون السجائر، خاصة في
توقيتات تغيير المناوبات..
بعد فترة من الخيرة تمكن
"سيف" من رفع عينيه فوق وأسفل، ليرى بصيصا من الضوء وبعض ملامح المكان،
ولاحظ أن هناك سجناء بجوارهم زجاجات بلاستيكية لمياه الشرب، بينما هناك سجناء
آخرون ليس لديهم زجاجات، ومع المراقبة الدقيقة كل يوم لاحظ سيف أن زجاجات المياه
يتم مصادرتها في العادة من الأشخاص العائدين من جلسات التحقيق. وشغلته هذه
الملاحظة فبدأ يبحث لها عن تفسير، وفي اليوم التالي انتظر العائدين من التحقيق،
وحاول اختلاس النظر من تحت الغمامة، وسمع الحراس يتابعون عملهم الروتيني:
"اجمع الأزايز دي".. هات المياه اللي جنب الواد اللي هناك.. أوعى حد
منهم يشرب..
زادت حيرة "سيف"،
حتى تم استدعاؤه ذات يوم بعد تجاهل لأكثر من أسبوع، وكانت الأسئلة هذه المرة ذات
طبيعة عنيفة واحدة مثل استجواب الأيام الأولى، وتعرض "سيف" أثناء
التحقيق للصفع والصعق بالكهرباء، وعندما عاد إلى مكان احتجازه فوجئ بحل اللغز الذي
كان يبحث عنه، فقد ردد الحارس عباراته التحذيرية: هات زجاجة الماء.. الواد ده ما
يشربش. وعرف سيف أن المعذبين بالكهرباء غير مسموح لهم بشرب الماء حتى لا يتعرضون
لمخاطر تثبت وجود
تعذيب في مثل هذه الأماكن..
عرف سيف أن المعذبين بالكهرباء غير مسموح لهم بشرب الماء حتى لا يتعرضون لمخاطر تثبت وجود تعذيب في مثل هذه الأماكن..
الإهانة والتعذيب في السجون لا تقتصر على الكهرباء، ولا حتى الضباط والحرس، فهناك حالات وأسباب كثيرة لحدوث ذلك طول الوقت، من بينها السجناء أنفسهم
الإهانة والتعذيب في
السجون
لا تقتصر على الكهرباء، ولا حتى الضباط والحرس، فهناك حالات وأسباب كثيرة لحدوث
ذلك طول الوقت، من بينها السجناء أنفسهم. وعن ذلك أتذكر أنني بعد أن تعرفت على
"سيف" بأسابيع لاحظت أنه يتحسس أنفه بين الحين والآخر بحركة عصبية، وبعد
أن توثقت معرفتي به، سألته: هل هناك سبب لهذه الحركة اللاإرادية؟
حكى "سيف" بتأثر عن
تعرضه لاعتداء بالضرب من سجين يعمل مخبرا لضابط الأمن الوطني في السجن، وهذه
العمالة تجعل السجين في حالة متوترة ومتناقضة، فهو من ناحية يشعر بالتميز والتفوق
والحماية بوصفه "عصفورة للضابط"، ومن ناحية أخرى عميقة في النفس يشعر
بالوضاعة والخجل من نفسه، لأنه يشي بزملائه المسجونين مثله، وأحيانا يؤلف الوشايات
ويختلق أحداثا عن هذا أو ذاك، حتى يرضي الضابط الذي ينتظر معلومات عن كل شيء.. كل
كبيرة وصغيرة.. لا تفوت شيئا..!
انتهى الاعتداء بجرح في الأنف، وجلسة
تحقيق أمام ضابط أمن الدولة، الذي اكتفى بنقل "سيف" من العنبر، حتى لا
يتطور الخلاف ويتسبب في استقطاب السجناء الآخرين إلى فريقين: فريق مع "عصفورة
الأمن" وفريق مع سيف..
مشكلة "الندبة في
الأنف" نبهتني إلى الآثار النفسية التي تصل في حالات كثيرة إلى درجات مدمرة
لشخصية السجين، بل تصل إلى الجنون حسب تحذير عالم النفس الأمريكي "تيري
كوبرز"، المختص في دراسة أثر السجون على الجانب النفسي والعقلي للسجناء، خاصة
في أماكن الاحتجاز التي لا توفر للسجناء احتياجاتهم المعيشية والأخلاقية، ولا توفر
الحماية للضعفاء منهم، وتمارس كل تصرفاتها تجاه المحتجزين بإذلال متعمد لكسر
الإرادة وتخريب الحالة النفسية. والمحزن أنني تعرفت على كثير من "الندب
النفسية" لدى سيف ولدى غيره من السجناء السياسيين، بعضهم وصل إلى محاولة
الانتحار، وبعضهم مثل "سيف" ظل يعاني من نوم سيئ وكوابيس متكررة وسماع
صفارة في الأذن، تكاد تصل به إلى الجنون..
وفي المقال المقبل نواصل
حكايات السجون..
[email protected]
حكاية شعب آخر.. يوميات معتقل (1)
أيام المغسلة.. يوميات معتقل (3)