كتبت ذات يوم قائمة بخمسة شيوخ تتلمذت عليهم
وأثروا في حياتي وكان لهم دور كبير في المسار الذي سلكته في طريق الدعوة إلى الله
والإصلاح الاجتماعي والسياسي، وهم على التوالي حسب الترتيب الزمني الذي عرفتهم
فيه: الشيخ محمد مخلوفي، الشيخ أحمد بوساق، الشيخ محمد أحمد الراشد، الشيخ محفوظ
نحناح، الشيخ القرضاوي.
لكل من هؤلاء الأساتذة الكبار قصص معي
وتأثير علي عبر الزمن. لا شك أن ثمة علماء كثرا وقادة غير هؤلاء حصلت منهم الاستفادةُ وتلقي القيم
والمعارف، غير أن شيخك هو الذي تتلقى منه المنهج الذي يسطّر طريقك، والقيم التي
تحدد معالمك، وما تنقله عنه لغيرك من الأجيال التالية، وما يصنع فعليا معالم
شخصيتك، مما تعرفه في نفسك، سواء انتبه الناس لذلك أم لم ينتبهوا، وشيخك كذلك هو
الذي يجيزك في ما أخذته عنه، والذي يبين للناس أنك تلميذه ويسعد بذلك ويعتز به.
وكل هذا حقيق في ما بيني وبين هؤلاء الأفاضل الخمسة من الناس، وليس من شروط صحة
العلاقة بين الشيخ وتلميذه أن لا يختلف التلميذ مع شيخه، بل إن التلميذ النجيب هو
الذي يضيف على شيخه ما لم يقم به، ويستدرك على رأيه برأي مخالف يثري رصيده ويضمن
له البقاء والحسنات الجارية، وما كان تطرف التقليد يوما طريق الإبداع وتطوير
المناهج.
تعرفت على الشيخ محمد أحمد الراشد مباشرة في أمريكا عام 1994 في زيارة صحبة الشيخ محفوظ نحناح للمشاركة في مؤتمر في لوس أنجلس، وما إن تعرف عليّ، حتى سألني عن صلتي السلالية بعلماء "آل المقري" وأشهرهم العالم الكبير "أبو العباس أحمد بن محمد المقري" صاحب الكتاب الشهير "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"..
إن الحديث اليوم إنما هو عن الشيخ محمد أحمد
الراشد. لقد عرفت كتب الفقيد قبل أن ألقاه، وأنا شاب في بداية العشرينيات من عمري،
فلم أحتف لعقود طويلة بكتب كاحتفائي بـ"المنطلق" و"العوائق"
و"الرقائق"، و"نظرية صناعة الحياة"، بل لقد درّست هذه الكتب
لأعداد هائلة من الشباب، في الحلقات والملتقيات والندوات والمخيمات الصيفية عبر
عقد الثمانينات كله، ولعل العديد من هؤلاء سيذكر ذلك لو قرأ هذا المقال، كما أنني
أشهد أمام الله أن أول أعظم كتاب صنع فكري الاستراتيجي، مما كتبه
المفكرون الكبار،
هو كتاب "نظرية صناعة الحياة". لقد كان لهذا الكتاب بالذات أثر كبير في
بناء معالم شخصيتي في المجالات الفكرية
والدعوية والاستراتيجية، بل حتى في تنظيم
حياتي الشخصية، وعليه بنيت منظومتي القيادية التي عُرفت بها في الحياة الدعوية.
وحين تعرفت على الشيخ محفوظ نحناح رحمه
وجدته كذلك ضمن هذه المدرسة، في طريقة تفكيره واهتماماته وأولوياته وأبعاده
الاستراتجية، وقد درّس رحمه الله كتاب
"المسار " على حلقات طويلة في البليدة، وعن طريقه تعرفنا على "مجلة
العين" في الفكر والدعوة، كما أنه أرسل رحمه الله عددا من الشباب أخذوا عن الشيخ أحمد الراشد
مباشرة خارج الجزائر، ورأيت بعدها حجم القرب والمحبة بنفسي بين الرجلين، حتى لكان
يُقال عن الشيخ محفوظ إنه ينتمي إلى المدرسة
العراقية في مجال الدعوة إلى الله.
لقد تعرفت على الشيخ محمد أحمد الراشد
مباشرة في أمريكا عام 1994 في زيارة صحبة
الشيخ محفوظ نحناح للمشاركة في مؤتمر في لوس أنجلس، وما إن تعرف عليّ، حتى سألني
عن صلتي السلالية بعلماء "آل المقري" وأشهرهم العالم الكبير "أبو
العباس أحمد بن محمد المقري" صاحب الكتاب الشهير "نفح الطيب من غصن
الأندلس الرطيب" فلما تأكد من الصلة من حيث أن أصل هذه العائلة العلمائية من
نواحي المسيلة بمدينة "مقرة" فرح فرحا كبيرا إذ هو عليم بالأنساب ويركز
كثيرا في التربية القيادية على أصول المعادن كما أخبرني بنفسه.
لقد كان المؤتمر الذي أشرت إليه مؤتمرا
مهيبا كبيرا، ولكن كان الصراع فيه بين المناهج الإسلامية على أشده، وكان النقاش
حول الأزمة الجزائرية يفرض نفسه على باقي الملفات، وفي الأزمات يظهر الصديق الوفي.
أخذ الشيخ محفوظ الكلمة فتحدث ببلاغة عن
رأيه في ما كان يحدث في الجزائر ولم يأبه بالصخب الذي كان يقطع كلماته، ثم أخذت
الكلمة أشرح موقف الحركة في إدانتها لكل أشكال التطرف محذرا من المؤامرة العظيمة
عن الإسلام والحركة الإسلامية برمتها، وسط الأصوات العالية المعترضة، ولا يزال ذلك
الشريط معروضا على اليوتيوب، وفي مواجهة تلك الأمواج العاتية التي كادت تعصف بنا
لولا قوة حزام المنظمين، لم يسندنا سوى عالمين من العلماء الذين كانوا حاضرين،
منهما الشيخ محمد أحمد الراشد. وما كان الشيخ الراشد ليعمل ذلك حميّة ولكن قناعة عميقة
بالشيخ محفوظ وتلاميذه، وقد بقي على ذلك العهد يسند الشيخ محفوظ كقائد مفكر ألمعي من قادة ومفكري الأمة، وقد عبر عن ذلك
ببلاغته المعهودة في مرثيته في الشيخ محفوظ نحناح عند وفاته رحمهما الله تعالى
وأسكنهما فسيح جناته.
منذ ذلك المؤتمر الصاخب، وذلك التعارف
الدافئ العامر بالتقدير والمحبة، نُسجت
بيني وبينه علاقة خاصة وصلة بديعة، استفدت منها فوائد علمية وفكرية جليلة، وصرت
أتردد عليه حيث تكون إقامته، فزرته عدة مرات في ماليزيا، والتقيته مرات في تركيا،
وكُتب لي أن جالسته في مواسم الحج والعمرة رحمه الله. ولأنني كنت التهم كتبه بنهم
سهُل علي أثناء النقاش معه فهم توجهاته وصرامته المعهودة أثناء عرض أفكاره.
وقد جعلني الله سببا لطبع كتبه وانتشارها في
الجزائر كوسيط بينه وبين بعض الناشرين، ولولا الصعوبات التي لم أستطع التحكم فيها
لدخلت كتبه كل المكتبات.
إنه لمن دواعي سروري في مسيرتي الفكرية
والدعوية أن الشيخ محمد أحمد الراشد كان يصرح أنني تلميذه، وإنه لفرق كبير بين أن
يَنسبَ تلميذٌ نفسه لشيخه، وبين أن يجيز الشيخُ تلميذه ويقول للناس "إنه
تلميذي!"، وقد قالها مرات، منها مرة في ندوة جمعتني وإياه بالجامعة الصيفية
للحركة ببومرداس عام 2004، معقبا على طرح فكري عرضته مفصِّلا لبعض أفكاره قائلا:
"لا عجب أن يكون المقري بهذا المستوى فهو تلميذي".
من دواعي سروري في مسيرتي الفكرية والدعوية أن الشيخ محمد أحمد الراشد كان يصرح أنني تلميذه، وإنه لفرق كبير بين أن يَنسبَ تلميذٌ نفسه لشيخه، وبين أن يجيز الشيخُ تلميذه ويقول للناس "إنه تلميذي!"، وقد قالها مرات، منها مرة في ندوة جمعتني وإياه بالجامعة الصيفية للحركة ببومرداس عام 2004، معقبا على طرح فكري عرضته مفصِّلا لبعض أفكاره قائلا: "لا عجب أن يكون المقري بهذا المستوى فهو تلميذي".
ومن الآثار المباركة والحسنات الجارية التي
أرجو أن يجريها الله تعالى بواسطتي للشيخ أحمد الراشد تأسيس مؤسسة أكاديمية جيل
الترجيح للتأهيل القيادي، فهو صاحب هذا الاسم، وهو أهم شخصية فكرية ودعوية صممت
معها هذا المشروع الحضاري، إضافة لعلماء ومفكرين آخرين منهم المبدع المصلح المقاوم
طارق السويدان حفظه الله ورعاه، والداعية المدرب المظلوم الصابر علي الحمادي فك
الله أسره، والعالم الجليل المتميز منير الغضبان رحمه الله. فقد عرضت المشروع على
الشيخ الراشد أولا وناقشته معه مطولا.
ولأن الفكرة فيها هؤلاء الرجال الصالحون
المصلحون النزهاء عرف المشروع طريقه ونما وسخّر الله له من يسنده ويؤطره فتخرج منه
أعداد هائلة من القادة في مختلف المستويات والمجالات، في الجزائر وخارجها، وكم كان
الشيخ محمد أحمد الراشد سعيدا حينما التقى بباكورة الثمرة الترجيحية في ملتقى
التميز بإسطنبول عام 2015 إذ بدا لكثرة ابتساماته العريضة وأريحيته الكبيرة بين الشباب وكأنه يعيش حلما كان في عقله لامسه
في الواقع بحمد الله تعالى، وسيبقى ذلك الغرس وثماره هم حسنات جارية لأولئك المصلحين
الربانيين بإذن الله تعالى والله نسأله القبول من الجميع.
غير أنه مما أسِفت له كثيرا في شأن العلاقة
به، أنني اتفقت معه ذات مرة أن يأتي ليقيم في الجزائر لفترة معتبرة يشرف فيها
بنفسه على تكوين طليعة من الشباب والإطارات، وكنت عندها نائب رئيس الحركة المكلف
بالتخطيط والتطوير، وتم الاتفاق نهائياً
وشرعت أبحث عن الشقة التي يسكنها.
وقد اتجه رحمه الله هذه الوجهة لقناعته
العميقة، وفق ما أخبرني بنفسه، بصفات حميدة رآها في الإنسان الجزائري، وفي جدوى
الاستثمار البشري في الحركة ورجالها، وكان ذلك في ما أذكر في حدود 2007. ولكن جاءت الفتنة التي عصفت بالحركة بعد مؤتمر
2008 فعصفت بالمشروع، وقد حاول رحمه الله أن يسعى لإصلاح ذات البين ولكن تدخل آخرون
فمنعوه، وبسبب انضباطه الصارم الذي يُعرف به والذي أثر كثيرا على بعض مقارباته،
وعلى حياته كلها، صار متحفظا على الشأن الجزائري، ثم تغير الحال عليه هو ذاته بعد
الاحتلال الأمريكي للعراق والخلافات التنظيمية والسياسية العميقة في الساحة السنية
العراقية، وانتقال الحركات الإسلامية كلية، في العالم الإسلامي كله، إلى الشأن السياسي، على نهج لم يكن يحبذ الكثير
منه، فصار يشعر بكثير من الغربة إذ لم تصبح تلك الأشواق الفكرية المرتبطة بساحات
الدعوة التي أبدع فيها عقودا من الزمن موجودة في جواره، ثم أحاط به المرض وكبر
السن فنقص نشاطه، ولم تصبح لدي فرص كثيرة لألقاه، فتوفاه الله تعالى وأنا مشتاق
إليه، ولو كان الأجل معلوما لذهبت لأسلم عليه قبل أن يلقى ربه. ولكن قدر الله وما
شاء فعل، وبحسبه ـ بخصوصي ـ أنني أُشهد الله له أنني حسنة من حسناته، وأن فكره في
طرائق تفكيري وتسيير مشاريعي بقي قائما إلى هذا اليوم.
رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته وجزاه
عنا وعن الدعوة والصحوة الإسلامية خير الجزاء.