كتب

البحر الأحمر سرّة العالم وصرّته.. قراءة في كتاب

كأنّ العالم أصبح بعد افتتاح قناة السويس عام 1969م لا يمتدّ في كل الاتجاهات إلا ليلتقي في البحر الأحمر..
كأنّ العالم أصبح بعد افتتاح قناة السويس عام 1969م لا يمتدّ في كل الاتجاهات إلا ليلتقي في البحر الأحمر..
الكتاب: "المكانة الجيو ـ ستراتيجية للبحر الأحمر والأطماع الدولية"
الكاتب: صبري فارس الهيتي
الناشر: دار أريثيريا للنشر والتوزيع، ط 1، 2022
عدد الصفحات: 125

ـ 1 ـ


كأنّ العالم أصبح بعد افتتاح قناة السويس عام 1969م لا يمتدّ في كل الاتجاهات إلا ليلتقي في البحر الأحمر، فبفضلها بات ذلك الامتداد المائي يطل على المتوسط وعلى أوروبا ويفتح على المحيط الهندي ويصل آسيا بإفريقيا. ولأنه أقصر ممر بحري بين الشرق والغرب أصبح ملتقى التجارة الدولية ومركزها. فيبلغ حجم التجارة الذي يمر عبرها أكثر من 2.4 تريليون دولار سنويا وتعبر منه أكثر من 200 ألف سفينة. ومنه يُنقل نفط الخليج العربي وإيران إلى الأسواق العالمية. فتمرّ منه نسبة 60% من احتياجات أوروبا الطّاقية و40% من احتياجات الصين و25% من احتياجات الولايات المتحدة النفطية أي ما يقدر بـ 3,5 مليون برميل من النفط يوميا. ولأهميته الجيو ـ إستراتيجية المتنامية، مثل ركنا مهما في مبادرة الطريق ـ الحزام، ذلك المشروع الذي يحاول إحياء طريق الحرير القديم.

تمنح قناة السويس للبحر الأحمر كل هذه الأهمية إذن، فتجعله ينفذ على المتوسط وعلى نقطة التقاطع بين القارات الثلاث. ومن هنا مأتى أهمية مصر في هذا المشروع. لذلك وقّعت الصين معها اتفاقية إطارية حول مشروع ميناء "عين السخنة. ومثّلت المنطقة الصناعية الصينية بشمال غرب خليج السويس أحد أهم 100 منطقة صناعية بالقارة الإفريقية.
وليس بعده العسكري بأقل قيمة من بعده الاقتصادي. فهو يمثل مسارا تتدفق عبره القوة العسكرية من المحيط الأطلسي إلى المحيطين الهندي والهادي. ولأهميته هذه أمكن اليوم للحوثيين في اليمن مثلا، أن  يعطّلوا مرور السّفن  المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، أو القادمة منها وهاجموا بعضها بالصواريخ والطائرات المسيرة. فتسبّب هذا التهديد الأمني في توقيف شركات شحن دولية كبرى مرور سفنها عبره.

يفرض هذا البعد الإستراتيجي على الدول العربية المطلّة عليه إلى البحث عن صيغ من التعاون الاقتصادي والعسكري حفاظا على أمنها القومي وخدمة لاقتصادها العربي وتعزيزه بوجه هجمات الدول المعادية المصلحة الأمة العربية.

ـ 2 ـ

يعود بنا الباحث صبري فارس الهيتي القهقرى إلى قرون بعيدة، ، ضمن عمله على إبراز الأهمية الجيو ـ إستراتيجية للبحر الأحمر والتبسط في عرض دوره، ليذكّرنا بطريق الحرير القديم. فقد سار عبره الصينيون في القرن الثاني قبل الميلاد حتى المنتصف عن آسيا  ثم وصلوه بآخر يعبر من المتوسط ينتهي إلى وسط القارة نفسها. فمثّل شبكة طرق برية وبحرية ربطت بين الصين وأوروبا مرورا بالشرق الأوسط، لمسافة تزيد عن عشرة آلاف كيلومتر. والتسمية "طريق الحرير"حديثة نسبيا. فقد أطلقها الجغرافي الأماني فردیناند فون رینشهوفن في العام 1877، واختار الحرير رمزا للمبادلات التجارية التي تتم عبر هذه الشبكة لأنه يمثّل الصناعة الصينية المميّزة ويرمز إلى حضارتها. فقد كان الحصول عليه موضوع تنافس بين مختلف التجار.

أما اليوم وبفعل الحنين إلى الماضي الماجد والتطلّع إلى مستقبل المُشرق الذي تكون فيه الصين مركز العالم وقوته الأعظم أعلنت بيكين عام 2013 عن مبادرة "حزام واحد- طريق واحد"، وهو مشروع استثماري عالمي  ضخم وطويل الأمد، يتضمّن مشاريع للبنية التحتية تستهدف تغيير خارطة العالم الاقتصادية والثقافية والسياسية. وعماده شبكة مواصلات تربط اقتصاديا بين آسيا وأوروبا وإفريقيا وتصل بينها ثقافيا، وتجعل هدفها تحقيق السلام العالمي، وفق ما تعلن سلطات بيكين.

من هذه الشبكة طريق بحري وآخر بري وسكك حديدية وخطوط طيران وأنابيب لنقل المواد البترولية وشبكات لنقل الكهرباء. وأهم مكوناته طريقُ الحرير البحري الذي يبدأ من "فيوجو" بالصّين ويتجه عبر بحرها إلى الفيتنام فبحر جاوة ثم إندونيسيا ويتجه إلى ماليزيا وسنغافورة والهند ثم كينيا ليصل إلى اليونان وإيطاليا وفرنسا ويلقى دعما من دول غربية كبريطانيا وإيطاليا وتركيا. ومن خططها تطوير الموانئ لتخفيض تكاليف المعاملات التجارية وللحفاظ على نسب نمو المرتفع.

ـ 3 ـ

للبحر الأحمر بعد مركزي ضمن هذه المبادرة. فللأهمية الإستراتيجية لموانئه اصطدمت الصين بشركة موانئ دبي التي تدير 18 ميناء في 40 دولة. فحثت جيبوتي على إلغاء اتفاقها مع الشركة، الذي يمنحها امتياز استغلاله لمدة خمسين عاما. ثم تكفّلت بدفع تعويضات مالية نيابة عن الصومال إثر خلافاتها مع الشركة نفسها، مقابل امتيازات تحققها هي. وبالمقابل عملت على توثيق الصّلة بالمملكة السعودية باعتبارها، من منظور صيني، القطعة الضرورية في هذا المشروع ونقطة الارتكاز التي ستجعلها تصل إلى القارات الثلاث المتجاورة. والمملكة تدرك بدورها أهمية الصين بما هي قوة اقتصادية صاعدة ومخزون تكنولوجي يمثّل ضمانة للمستقبل. لذلك انخرطت عمليا في هذه المبادرة. فأسست شركة "طريق الحرير" في منطقة جازان لجلب الاستثمارات الصينية.

وتفاعلت السودان بحماس مع مبادرة "الحزام ـ الطريق" بدورها، ووقّعت مع الصين اتفاقا في الغرض، خاصّة أن ميناء بورسودان بسواحل البحر الأحمر يمثل نقطة تجمّع تقليدية للقوافل الصينية المتجهة إلى إفريقيا أو الدول العربية. ولمّا وصل المجلس العسكري الانتقالي إلى الحكم تفاعل مع المبادرة وأكّد تمسكه بمشروع خط سكة الحديد بوتسودان- سنار الذي تنفذه شركة صينية أو بمشاريع تحديث شبكة السكة الحديدية وتجديد القطارات وربطها بأثيوبيا لمنحها منفذا على البحر الأحمر ومدّ خط ثان يربط الميناء بدول التشاد والنيجر ومالي.

تمنح قناة السويس للبحر الأحمر كل هذه الأهمية إذن، فتجعله ينفذ على المتوسط وعلى نقطة التقاطع بين القارات الثلاث. ومن هنا مأتى أهمية مصر في هذا المشروع. لذلك وقّعت الصين معها اتفاقية إطارية حول مشروع ميناء "عين السخنة. ومثّلت المنطقة الصناعية الصينية بشمال غرب خليج السويس أحد أهم 100 منطقة صناعية بالقارة الإفريقية.

و"طريق الحرير الجديد" ليس جديدا تماما في حقيقة الأمر. فهو امتداد لإستراتيجية "عقد اللؤلؤ"، تلك اللآلئ أو الموانئ التي طورتها الصين على سواحل المحيط الهندي. وأرادت لها دورا لوجستيا وتجاريا وعسكريا. فقد كانت تستهدف بناء قوة بحرية ضخمة قادرة على حماية مصالحها. وفي الآن نفسه تعمل على توثيق علاقاتها الإستراتيجية ببعض دول بحر الصين الجنوبي وصولاً الشرق الأوسط. فبنت منشآت حيوية كالموانئ وقواعد الرادارات ومصافي النفط في مختلف بقاع العالم. وسعت من خلالها إلى تقوية علاقاتها مع الدول التي تنتشر على طول الخط الساحلي الذي يزوّدها بإمداداتها الخارجية ووارداتها البحرية. والبحر الأحمر هو العنصر الذي يكفل لها هذه الخطة.

ـ 4 ـ

أبدت دول القرن الأفريقي الساحلية ترحيبها بالقواعد العسكرية المختلفة على أراضيها محاولةً الحصول على دعم القوى الخارجية لمواجهة أزماتها الدّاخلية أو مشاحناتها مع القوى الإقليمية المنافسة. وليست نزعات أثيوبيا لفرض هيمنتها على محيطها ومحاصرتهم مائيا مستغلة انطلاق بحيرة فكتوريا سوى أنموذج مصغّر لاحتدام الصّراع في المنطقة. ففضلا عن النفوذ الروسي العسكري، أصبح النفوذ التركي في المنطقة يتزايد. فحصلت على الاستغلال الحصري لجزيرة سواكن السودانية وأقامت مركز تدريب في موغاديشو. والأمر نفسه ينطبق على إيران. فقد أقامت قاعدة عسكرية في السّاحل الإيريتري لمراقبة الأنشطة العسكرية المعادية والتأهب لحماية مشروعها النووي أو لتقديم المساعدة اللوجستية لوكلائهم الحوثيين في اليمن.

وأنشأت اليابان قاعدتها الوحيدة خارج حدودها في جيبوتي وتعمل المملكة السعودية على إنشاء قاعدة في الدولة نفسها. وفي إيرتريا أقامت إسرائيل عديد القواعد واستأجرت منها جزيرة دهلك لأغراضها العسكرية. وأنشأت الإمارات قاعدة عسكرية في ميناء عصب. ومن المفارقات أنّ جيبوتي وإيرتريا، الدولتين الإفريقيتين الصغيرتين اللتين لا تسهمان كثيرا في الاقتصاد العالمي تُنزّلان، لموقعهما من هذا البحر، في قلب الصدام العسكري العالمي.

وللوجود العسكري الأوروبي صلة مباشرة بمقاومة أعمال القرصنة في السواحل الصومالية. فقد كانت جيبوتي وجهة أول بعثة بحرية مشتركة للاتحاد الأوروبي للغرض. ثم منحتها المبادرة "الحزام- الطريق" زخما جديدا. ومن القواعد الأوروبية، نذكر قاعدة إيرون الفرنسية التي تضم قوات فرنسية وألمانية وإسبانية. وأوجدت إيطاليا لنفسها، ربما لصلتها التاريخية الاستعمارية بالمنطقة، أول مركز لها خارج الحدود في جيبوتي.

لقد كانت كل الدول العظمى أو الصّاعدة تعمل على رعاية مصالحها في حوض البحر الأحمر. وخلافا للوجود العسكري الأمريكي التقليدي في المنطقة وقواعدها التي تقود منها عملياتها ضدّ أهداف في الصومال واليمن، مثّلت الصين الوافد الأكبر للمنطقة، خاصّة بعد خسائرها الكبيرة نتيجة للتطورات في بلدان الربيع العربي.
لقد كانت كل الدول العظمى أو الصّاعدة تعمل على رعاية مصالحها في حوض البحر الأحمر. وخلافا للوجود العسكري الأمريكي التقليدي في المنطقة وقواعدها التي تقود منها عملياتها ضدّ أهداف في الصومال واليمن، مثّلت الصين الوافد الأكبر للمنطقة، خاصّة بعد خسائرها الكبيرة نتيجة للتطورات في بلدان الربيع العربي. فاستأجرت قاعدة عسكرية في جيبوتي بملغ 20 مليون دولار سنويّا، وهي أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج، وأضحت تعمل على زيادة حضورها العسكري في الإقليم.

وهذا الإجراء غير تقليدي لبلد يتّجنب التورط في الصدامات الدولية ويعمل على الإفادة من صدامات الدّول المتنافسة عادة. وأجرت بحريتها تدريبات مع نظرتها الروسية في البحر المتوسط عام 2015، وأخرى منفردة، في البحر نفسه  خلال شهر يوليو 2017. ولعلّ هذا التّحوّل أن يعود إلى شعورها المتزايد بتحولها إلى قوة عسكرية عظمى وإلى المناكفات التي تجدها من الولايات الأمريكية التي تحاول أن تمنعها من اكتساب أسباب القوة.

ـ 5 ـ

يقع الأمن الإقليمي ومدخرات دوله على المحكّ في معركة المواقع التي يشهدها البحر الأحمر. فيمثل كلاهما رهانها تأمينًا أو تهديدًا. ووعيا من دول المنطقة بهذا التحدّي أنشأت "مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن" حتّى يكون تكتلا إقليميا ذا قيمة جيو- سياسية وإستراتيجية. فيشكل منظوراً جديداً للتعاون الإقليمي، يأخذ في الاعتبار العلاقة الوثيقة بين الأمن والتنمية.

ومن ميزات هذا التكتّل أنه يضم قائمة من دول تنتمي إلى دوائر ثلاث هي الخليجية والعربية والأفريقية، وهي المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية السودان وجمهورية اليمن ودولة إريتريا وجمهورية الصومال الفيدرالية وجمهورية جيبوتي. وتشترك هذه الدول في تصوراتها ورؤاها لكيفية تأمين البحر الأحمر وخليج عدن، ما يعني أن بإمكان هذا التكتل أن يشكل إطاراً أوسع لتكامل عربي إفريقي شامل يسهم في إعادة صياغة العلاقات العربية ـ الإفريقية وتشكيلها في ضوء التحديات التي تواجه الطرفين وفق الباحث. وممّا يميّزه أنه يتبنى رؤية شاملة للتعاون بين أعضائه تستهدف تعزيز التنسيق السياسي والاقتصادي والثقافي أولا وضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن باعتبارهما من الممرات المالية المهمة لدول المنطقة والعالم ثانيا.

ـ 6 ـ

يبرهن هذا الكتاب إذن على أنّ البحر الأحمر يوم يمثّل سرّة العالم وصرّته. أما السّرة فمن السرور والفرح وتعني المفردة حين ترتبط ببلد ما، أفضل المواضع وأطيبها لموقعه الإستراتيجي. وأما الصرّة فهي "الشدة من الكرب والحرب والحرّ" وفق المعاجم. ورغم وهم التسمية تظل الطريق أبعد ما يكون عن نعومة الحرير لما تسببه من الصّدام الدّولي. ولكن يبدو أنّ العرب لا ينتبهون إلى هذا الأمر إلاّ قليلا، ولا يبذلون الجهد الكافي للإفادة منه للدفاع عن مصالحهم وحماية أمنهم القومي ودفع التنمية في عالم مبني على التحالفات وعلى تحقيق المصالح المشتركة.
التعليقات (0)