فضلاً عن أرشيفه الدموي كـ "عسكري جامح يستخف بالمسؤولين عنه"- بحسب ما وصفه عدد من المحللين الإسرائيليين- فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أريئيل
شارون الذي توفي هذا الأسبوع، ترك أرشيفاً استيطانياً أوجزه نجله "جلعاد" لدى تأبين والده قبل أن يوارى الثرى قائلاً: "على أولئك الذين غضبوا منك بسبب خسارة المستوطنات (في قطاع غزة بعد تنفيذ "خطة الانفصال" سنة 2005) أن يذكروا أنك أقمت أكثر من مئة مستوطنة".
كما أشاد بهذا الأرشيف
الاستيطاني صديق شارون القديم وشريكه في تنفيذ المشروع الاستيطاني في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 زئيف حيفر (زامبيش)، قائلاً إن شارون الذي كان يوصف بـ "البلدوزر" آمن إيماناً أعمى بقدرات الشعب اليهودي و"علّم أبناء إسرائيل القتال ثم الاستيطان. وكان بمثابة أبينا في كل ما يتعلق بإقامة المستوطنات".
في واقع الأمر، فإن المدّ الاستيطاني الإسرائيلي الواسع النطاق العائد إلى الأعوام التي أعقبت صعود حزب "الليكود" إلى سدّة الحكم في إسرائيل عام 1977، جرى تحت إشراف وزير الزراعة في ذلك الوقت، أريئيل شارون. فقد سعى "الليكود" نحو تكريس سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية من خلال الاستيطان. وجرى التوسع الاستيطاني بوتيرة سريعة لأن حكومة هذا الحزب اعتبرت أن الوقت ضيّق، وذلك على خلفية مفاوضات السلام بين إسرائيل ومصر، فضلاً عن خشيتها من عودة "المعراخ" (سلـف حزب "العمل") إلى الحكم. ولذلك قررت حكومتا "الليكود" خلال ستة أعوام، مثلا، إقامة مئة وثلاث مستوطنات في الضفة الغربية.
وتدل الوثائق الإسرائيلية نفسها على أن شارون استعرض أمام أول حكومة أقامها "الليكود" برئاسة مناحيم بيغن عدة أهداف لإقامة المستوطنات في الضفة الغربية، ومنها ما يلي:
أولاً- إنشاء عازل (حاجز) يفصل بين
الفلسطينيين في منطقة المثلث داخل الخط الأخضر وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية، تحسبا من نشوء كتلة عربية "تهدّد" السكان اليهود في منطقة السهل الساحلي؛
ثانيًا- السيطرة- بواسطة المستوطنات- على المناطق الواقعة في الضفة الغربية والتي تطلّ على التجمعات السكانية الإسرائيلية في السهل الساحلي بهدف منحها عمقا وتعزيز "الممر" إلى القدس وضمان عدم انتشار أي قوة غير إسرائيلية في المناطق المطلة على إسرائيل؛
ثالثًا- السيطرة بواسطة المستوطنات على غور الأردن لصد أي هجوم بريّ من الشرق؛
رابعًا- ضمان بقاء القدس، بما في ذلك القدس الشرقية المحتلة، عاصمة دائمة للشعب اليهودي بواسطة إقامة حزام من المستوطنات يحيط بالأحياء العربية في المدينة. ولتحقيق هذا الهدف تمت إقامة الكتلة الاستيطانية غوش عتصيون ومستوطنات إفرات ومعاليه أدوميم وغفعات زئيف وبيت إيل. وكان تقدير شارون أن إقامة مستوطنات "غلاف القدس" ستضمن وجود أغلبية يهودية وسيطرة يهودية على المدينة لخمسين أو مئة عام مقبلة.
وكتب شارون في مذكراته عن اجتماع الحكومة الذي استعرض خلاله هذه الأهداف يقول: "لم أعرف ما إذا كان الوزراء قد صدقوني أم لا، لكنني قلت لهم بأني لا أتحدث إلى محضر الجلسة (فقط)، ولذلك فكروا جيداً في الخطة، لأنه في اللحظة التي ستتم فيها المصادقة عليها فإنني سأنفذها". وقد صادقت الحكومة الإسرائيلية على الخطة.
وسعى شارون إلى تنفيذ خطته بسرعة قبل أن تتسبب معارضة داخلية وخارجية بوقف مشروعه الاستيطاني. وعمل في البداية على فرض وقائع على الأرض ليتمكن من مواصلة المشروع في المستقبل. وفي الأعوام اللاحقة تعرّضت إسرائيل إلى ضغوط دولية كانت غايتها منعها من إقامة مستوطنات أخرى. لكن البؤر الاستيطانية كانت قد أقيمت، ولذلك فقد وجهت إسرائيل جهدها الأساسيّ نحو توسيع هذه البؤر والمستوطنات، ولا سيما في مناطق الضفة الغربية المتاخمة للخط الأخضر والتي كان عليها طلب، كما وجهت هذا الجهد نحو إقامة بنى تحتية مثل شبكة الشوارع الالتفافية، التي سهّلت على المستوطنين العيش في أمن بالقرب من المدن الفلسطينية.
من جهة ثانية شجع شارون تنفيذ "خطة النجوم" المتمثلة في إقامة بلدات يهودية غربي الخط الأخضر، لتحقيق الهدف الذي وضعه ويتعلق بفصل الفلسطينيين داخل الخط الأخضر عن الفلسطينيين في الضفة الغربية. لكن الاتصال بين الفلسطينيين في كلا جانبي الخط الأخضر استمر حتى عام 2002. وفي هذا العام عاد شارون، وكان قد أصبح رئيسا للحكومة، واتخذ قرارين بهدف الفصل بين المجموعتين الفلسطينيتين. وقضى القرار الأول ببناء الجدار الفاصل الذي منع التنقل بين منطقة المثلث والضفة الغربية، ونصّ القرار الثاني على منع الفلسطينيين أبناء الضفة الغربية، الذين تزوجوا من مواطنين فلسطينيين في إسرائيل، من الحصول على المواطنة الإسرائيلية.
ويشدّد باحثون كثيرون على أنه "لا شك في أن اعتبار الفصل السكاني بين العرب مواطني إسرائيل وبين سكان مناطق السلطة الفلسطينية كان ماثلا أمام عيني شارون لدى المصادقة على هذين القرارين".
عند هذا الحدّ تجدر الإشارة إلى أن المؤرخ والصحافي الإسرائيلي توم سيغف كان الأكثر إصابة للهدف من بين سائر المعلقين والمحللين حين أكد، وهو يخطّ رسماً بيانياً لما اصطلح على تسميته بـ "تركة شارون" أو "وصيته السياسية" بعد أن غاب عن الساحة السياسية الإسرائيلية، أن شارون نظر إلى العرب الفلسطينيين باعتبارهم الخطر الأكبر على المشروع الصهيوني.
ومما كتبه سيغف في هذا الشأن: لم يرَ ابن المزارعين من كفر ملال (المستوطنة التي وُلد فيها شارون) في الجيوش العربية خطراً أساسياً على إسرائيل، فالخطر الأكبر كان يتبدّى له من العرب المقيمين في أرض إسرائيل (فلسطين). وقال ذات مرة "إنني لا أكره العرب، ولكنني على وجه اليقين أومن عميق الإيمان بحقوقنا التاريخية على أرض إسرائيل وهذا يفاقم بشكل طبيعي من موقفي تجاه العرب"، وهو يقصد عرب البلد. لقد مثلوا العدو الأساسيّ له، مدنيين كانوا أم عسكريين، إذ لم يعتد شارون على التمييز فيما بينهم. فقد رأى في هؤلاء وأولئك خطرًا على الهوية القومية لإسرائيل.
وأضاف سيغف: ...إن شارون لا يختلف في ذلك عن الآخرين (من زعماء الحركة الصهيونية)، فمنذ اليوم الأول لبداية مشروعها (الاستعماري) في فلسطين أدركت الحركة الصهيونية أنها ستواجه مقاومة عربية. ومنذ اللحظة الأولى التي وصل فيها "الطلائعيون" لم يكفّ اليهود في البلد عن السجال فيما بينهم عن أفضل الطرق للتعايش مع "المشكلة العربية". وقد درسوا كل احتمال يقع بين ترحيل العرب إلى مناطق أخرى وإقامة دولة ثنائية القومية، كما اختبروا احتمالات تقسيم البلد كلها، لكنهم (في خضم ذلك) أجمعوا على مبدأ أساسي فحواه: أرض أكثر وعرب أقل!.