أضحت منطقتنا العربية وشعارها المرحلي (كل الحقوق والحريات قد تستباح من أجل ما يعرف بالأمن القومي ومحاربة
الإرهاب)!
هذا الشعار الذي تواترت الأنظمة على استخدامه من حقب زمنية طويلة وظلت قابعة على كراسي الحكم متسيدة شعوبها بمزيد من
القمع والتضييق على الحريات؛ والآن ونحن بصدد مراحل لانكسارات مد التغيير. وها هي تلك الأنظمة تعود من جديد رافعة ذات الشعارات القديمة والمتهالكة في وجه شباب حديث وحداثي.
جيل جديد من شباب حديث السن؛ جديد ومختلف الفكر والأساليب، يبحث عن تطلعاته في مساحات غير محدودة لعالم رقمي يسبح فيه الفرد في بحر واسع وعميق من أفكار وطوفان معلومات تلاطمه أمواجها وتجعل استقراره وثباته شيئا نسبيا.
فطبيعة الثابت تختلف عن فطرة المتغير، ولم ولن تكون تلك الأجيال الشابة المتحركة بطبيعتها وبطبيعة آلياتها في البحث وحتى في طريقة تفكيرها التي تقود دوما للتمرد على كل ما هو ثابت وتقليدي.
فهي أجيال تطلعاتها وإدراكها الكمي والنوعي أضحى هو في ذاته كتلة متقدرة متحركة وغير قابلة للقولبة الاستاتيكية التي تطمح وتحلم بها تلك الأنظمة القديمة والمتكلسة.
فهل ستستطيع تلك الحكومات وهي في طريقها لمقاومة تلك التطلعات لشباب غير تقليدي أن تتصدى بطرقها التقليدية الخرسانية كإقرارها الحلول الأمنية وكسن مزيد من القوانين والتشريعات المقيدة للحريات، والتي تجرم تعاطي المواطن لحقوقه الأساسية بل وإخراس صوته للأبد؟
تذهب الأنظمة التقليدية في إطار عسكرتها للمجتمع إلى فرض السلوك الإلزامي الذى يقرر نموذج مواطني السمع والطاعة؛ ونموذج المواطن الهادئ المستكين الذي لا يعلو صوته أبدا حتى وإن جاع وتعرى وتعطل عن العمل وضاقت به كل السبل.
إن نموذج مواطن السمع والطاعة هو مواطن مستأنس ومجرب من تلك الأنظمة على مدار عقود طويلة.
ولكن؛ وبمعادلة تقريبية وحسابية بسيطة تعتمد على حسابات المنطق -الذي غاب عن المشهد- تستطيع أن تدرك أنه استحالة أن تنتج تلك السياسات التقليدية نتاجا تقليديا قولبيا للمواطن المنشود لها، في ظل تغير كل العوامل الأخرى من ظروف اجتماعية واقتصادية وفضاء معلوماتي شعر به ولمسه ذلك المواطن وذاق فيه نوعا من الحرية والآدمية وأضحى فيه يقف على بواطن الأمور كما ظواهرها.
المواطن المتقوقع والمعزول والمطيع لم يعد له مكان ولم يعد هو زمانه!
هناك مواطن متحرك ومتغير أصبح بضربة واحدة على لوحة مفاتيح لجهاز كمبيوتر في مكان بلا اسم أو عنوان قادرا على أن يصل بصوته للمئات بل الآلاف، يستطيع بكاميرة موبيل أن ينقل كل الحقيقة في حارته وفي شارعه، أن يكون هو مصدر المعلومة وناقلها وأن يكون راصدا لواقعه وصوتا معبرا لفئات لم يكن لها صوت من قبل، فئات من بسطاء القوم المهمشين والمنسيين في غياهب جهل وظلم الأنظمة الاستبدادية، تلك الأنظمة التي صمت آذانها عن سماع صوت الفقراء والبسطاء من عوام الشعب الراسخين تحت نير الفقر والجهل والألم.
فهل ستستطيع تلك الأنظمة بآلاتها وترسانتها الإعلامية التحريضية أن تعد قوائم الاتهام المسبقة والمعدة سلفا بتهم "دليفري!" للملايين من شباب مجتمعات هي في تكوينها مجتمعات شابة؟
وهل ستصلح تهم "الدليفري" بالإرهاب والتجسس والخيانة والعمالة وتكدير السلم العام ومقاومة السلطات.. وغيرها من التهم المعلبة وقوانينها العقيمة؛ هل ستصلح لتكون وسيلة ناجعة فى مواجهة طوفان من شباب يفكر خارج الصندوق ولا يجد ذاته وفرص حياته إلا في التغيير؟
وهل ستصلح الحلول الأمنية وقوانينها الاستثنائية فى مقابل شباب متعطش للفكر والجدل والخلاف والتمرد والحوار في مجتمعات العسكرة (السمع والطاعة)؟