كتب رشيد الخيون: ما حصل بالموصل كان متوقعاً، فمن ينظر في النهج السياسي، والتعامل مع السُّلطة غنيمةً، لا يستغرب مما حدث. كم توهم مفردة «ما ننطيها» بالطغيان، وكم توهم جملة «المعركة بين يزيد والحسين» بالخذلان. ناهيك عن التعامل مع الاحتجاجات الشعبية بالتجاهل والعنف الذي نقلها إلى الاصطفاف مع أي خصم، ولو كان «داعش».
يصاحب ذلك الشراهة للاستحواذ على ممتلكات الدولة، والتسامح مع الفاسدين وتبرئتهم، وتغليب الولاء الأسري والحزبي على الكفاءة، إلى تزييف القضاء. أقول: ألا يذهلك ظهور قاضٍ تولى محاكمة النظام السابق راشياً في الانتخابات، وهو على ملاك قائمة «دولة القانون»؟ تمعن بالاسم!
ظلت هذه الأحزاب تهاجم النظام السابق، مع جيش دولة أجنبية، وقامت بمقاتل، تُعد أعمالا إرهابية لأن أبرياء قضوا فيها، ولم تقتل رجل مخابرات ولا رُكناً من الأركان، وجاء اليوم الذي وجدت تلك القوى مَن يهاجمها بالمواصفات نفسها. وعند المتنبي (اغتيل 354هـ) ما يُعبر: «ألا لا أرى الأحداث مَدحاً ولا ذمّا/ فما بطشها جَهلا ولا كفُّها حلما/ إلى مثلِ ما كان الفتى مرجع الفتى/ يَعودُ كما أُبدي ويُكري كما أرْمَى» (العرف الطيب).
فالشعار الذي اُستخدم في المعارضة: «حقوق
الشيعة»، يُستخدم من على منبر السلطة اليوم، بينما الشيعة ابتلوا باضطهاد سببه أن هذه الأحزاب أرادت السلطة على نهجها، فصار الشيعي متهماً بالولاء لها، ومطلوب منه الآن الدفاع عن تلك الأحزاب وهي في السلطة. لقد أُطلقت النداءات للنفير العام والقصد بها دماء الشيعة، مثلما تورطت في السابق بشعارات تلك الأحزاب.
نتذكر مفردة المواطنة في «إعلان شيعة
العراق» (17 يناير 2002)، والتي جاءت بلباس طائفي، لهذا السبب رفضت توقيعه شَّخصيات لها اعتبارها، قالوا حينها: «لو كان عراقياً نوقعه». ظهر هذا الإعلان كأنه يمثل الشيعة كافة، ومن الموقعين عليه من تسلم مهام رئاسة الوزراء ونيابتها والأمن ووزارات سيادية. لكن الموقعين على الإعلان أنفسهم هم أول من شطب لفظة المواطنة منه. فأحدهم عندما قال له صاحب عمامة، يبغض الطائفية: ماذا تفعلون أيجوز القتل بين شيعة وسُنة؟ أجابه: «ونحن نقتل منهم أيضاً»! هذا المسؤول الطائفي، لم يُقتل له ابن ولم يغادر موقعه الوزاري منذ 2003، وكان رضع من ثدي «الإخوان المسلمين» عندما تبرع بالعناية بمكتبتهم الخاصة في زمن التلمذة بالخارج، ويدعي أنه عالم والآن صار طارداً للكفاءات.
القصد أن الإسلام السياسي، من أي جهة كان، هادم للأوطان المختلطة، فالشيعي منه عاش على «المظلومية»، عبر حكاية (1400) عاماً من الاضطهاد، بينما قراءة التاريخ تريك أن الذين ثاروا ضد الخلافة كانوا من الزيدية والإسماعيلية. ذلك نهج رفضه جعفر الصادق (ت 148هـ)، لما أراد القائمون على الدعوة نقلها إليه لحظة النصر على الأمويين. نقرأ في مصدرين شيعيين: كتب أبو سلمة الخلال (قتل 132هـ) إلى الصادق، وإلى حسن المحض، وإلى عمر الأشرف بن زين العابدين، وأوصى الرسول أن يبدأ بالصادق.
عُرض الكتاب على الصادق لكنه حرقه، ونفى معرفته بالخلال، كذلك رد الكتاب ابن الإمام زين العابدين، ولما قبله المحض أثناه الصادق. وبسبب هذه المراسلة قُتل الخلال بعد أن استوزر وعُرف بوزير آل محمد (الأصفهاني، مقاتل الطالبيين وابن الطقطقي، الفخري). وينقل صاحب الملل الشهرستاني (ت 548هـ) الخبر على أن المرسل كان الخراساني (قُتل 136هـ).
تلك السلطة التي استهان بها الشريف الرضي (ت 406هـ)، وهو من أسرة مراجع في المذهب، عندما رأى الخليفة الطائع لله (ت 381هـ) مسحوباً على الأرض بيد البويهيين، فقال: «أمسيت أرحم مَن قد كنت أغبطه/ لقد تقارب بين العز والهونِ/ ومنظر كان بالسراء يُضحكنُي/ يا قُرب ما عاد بالضراء يُبكيني» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ).
ظهرت على مدى الـ1400 عام دول شيعية عديدة: الحمدانية بحلب (333-406هـ) والموصل (293 – 330هـ)، والعبيدية (269–362هـ) بالمغرب وشمال أفريقيا حتى تحول مركزها إلى مصر، وظلت الفاطمية (362-542 هـ) تحكم أجزاء من المغرب، والبويهية ببغداد (334–447هـ)، وبين المغول ظهر حُكام شيعة كالجياتو (ت 716هـ)، والصَّفوية (1501-1735م) ببلاد فارس، وظلت المنطقة شيعية رسمياً إلى يومنا، والزيدية باليمن (من 303هـ وحتى ثورة سبتمر 1962م)، وإمارة عمران بن شاهين بجنوب العراق (369-406هـ)، وظهر وزراء شيعة عديدون: الخلال، وآل الفرات، وآل العلقمي، وانتهج الخليفة النَّاصر لدين الله (ت 622هـ) نهجاً إمامياً (الفخري)، وأُسندت وظائف كبرى لإماميين كالشريف موسى العلوي (ت 400هـ)، تسنم إمارة الحج والمظالم ونقابة الأشراف. وهناك إمارات شيعية أُخرى لم ندرجها لضيق المجال.
عمدنا إلى ذِكر هذه التفاصيل كي ننبه إلى أن الفكرة المبنية على مظلومية 1400 عام تستخدم «لجذب الدنيا للرؤساء». فالذي أخذت تغرس في وعيه المظلومية في الصغر لا يفكر إلا بالانتقام عند الكبر، على أن ما يمارس من المناسبات المذهبية مبني على فكرة الثأر، بينما ابن الحسين نفسه زين العابدين (ت 94هـ) دعا لنصرة الجيش على أنه جيش المسلمين (دعاء أهل الثغور)، وصار بيته في حوادث «الحرة» بالمدينة (63هـ) مَن يدخله كان آمناً، فاحتمت به أسرة مروان بن الحكم (ت 65هـ)، بينها زوجته عائشة بنت عثمان بن عفان، وكانت صداقة قديمة بين ابن الحكم وزين العابدين (الطبري، تاريخ الأُمم والملوك). وأكثر من هذا فإن الذي أطلق لقب الصادق على الإمام جعفر هو المنصور (ت 159هـ) نفسه (مقاتل الطالبيين). بمعنى أن رفع المظلومية لـ1400 عام شعاراً لم يكن مِن أخلاق الأئمة.
لا ينتحر الشيعة على
مبكى الخضراء، فمن يقبع داخلها لا يخصه أمرهم، فالسلطة الإسلامية بإيران اعتقلت المرجع الكبير شريعتمداري حتى وفاته (1985)، والحكومة الحالية ببغداد كانت تصرخ من أجل احترام المرجعية بالنجف في زمن المعارضة، وفي زمن السلطة أخذت تُداهم الطلاب الشيعة الأجانب في الحوزة الدينية لأنهم محسوبون على مرجع أخذ موقفاً ضدها. هذا، والدروس والعبر لا تعد ولا تُحصى.
ليوضع حد للفشل الذَّريع الذي يمارس باسم الشيعة، مع أن مصلحتهم في إدارة وطنية تعرف كيف تدير الأزمات، قريبة إلى السنة بقدر قربها مِنهم. نحذر من استخدام أبناء الشيعة دروعاً لحماية جماعات كل جهدها المحافظة على ما غنمته بأصواتهم.
(الاتحاد الإماراتية)